تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
فيزياء عمل المغناطيسات وتصويت قضاة المحكمة العليا

فرغت لتوِّي من قراءة بحث فيزيائي جديد مثير للاهتمام منشور على موقع arxiv، ويحمل البحث عنوان «الميكانيكا الإحصائية للمحكمة العليا للولايات المتحدة»، وهو يسعى إلى فهم كيفية تأثير قضاة المحكمة العليا بعضهم على بعض عند التصويت، باستخدام تقنيات من فيزياء ظاهرة المغناطيسية.

ما الهدف المنشود من هذه الدراسة؟

لنقُل إنك بحثت عن الأرقام المتعلقة بالاتجاهات التصويتية لدى كل قاضٍ من قضاة المحكمة العليا خلال عقد من الزمان، فباستخدام تلك البيانات، هل يمكنك أن تحدد مدى تأثير كل قاضٍ على الآخر؟ هل يصوت كلٌّ منهم بمعزل عن الآخر، أم أن أصوات زملائهم تؤثر على قرارهم؟

قد تَخال الأمر هينًا، فكلُّنا نعلم على أية حال أن السياسة الأمريكية تسيطر عليها الانتماءات الأيديولوجية، فالأرجح إذن أن يكون أقوى عامل مؤثر على قرار القاضي في التصويت هو ما إذا كان ليبراليًّا أم محافظًا. وينقسم قضاة المحكمة العليا التسعة إلى يمين ويسار، وبضعة أصوات متأرجحة؛ لذا قد تتوقع أن النتيجة الأرجح للتصويت هي ٥ أصوات إلى ٤ أصوات.

والواقع أن ذلك ليس صحيحًا، وإليكم رسمًا بيانيًّا يحلل أصوات قضاة المحكمة العليا منذ عام ١٩٤٦ حتى عام ٢٠٠٥. المدهش أن احتمالية حدوث التصويت بالإجماع ضِعف احتمالية انقسام الأصوات بواقع ٥ إلى ٤.

يمثِّل كل عمود في الرسم البياني قرارات المحكمة العليا على مدى مجموعة من الأعوام، فنسبة النتائج الصادرة بواقع ٩ أصوات إلى ٠ ممثَّلة بالأزرق، بينما تُمثل نتائج ٨ إلى ١ بالأحمر، و٧ إلى ٢ بالأصفر، و٦ إلى ٣ بالأخضر، و٥ إلى ٤ بالأسود. والمدهش أن القرارات المتَّخَذة بالإجماع (٩ إلى ٠) بلغت ضِعف القرارات المتَّخَذة عن انقسام بواقع ٥ أصوات إلى ٤ أصوات.

يمثِّل كل عمود في الرسم البياني قرارات المحكمة العليا على مدى مجموعة من الأعوام، فنسبة النتائج الصادرة بواقع ٩ أصوات إلى ٠ ممثَّلة بالأزرق، بينما تُمثل نتائج ٨ إلى ١ بالأحمر، و٧ إلى ٢ بالأصفر، و٦ إلى ٣ بالأخضر، و٥ إلى ٤ بالأسود. والمدهش أن القرارات المتَّخَذة بالإجماع (٩ إلى ٠) بلغت ضِعف القرارات المتَّخَذة عن انقسام بواقع ٥ أصوات إلى ٤ أصوات.

يهدف هذا البحث إلى أخذ هذه البيانات والتوصُّل إلى نموذج لكيفية تأثير قضاة المحكمة العليا بعضهم على بعض.

ما الصعوبة في ذلك؟

كان أول ما فعله الباحثون بتلك البيانات هو النظر إلى مدى ارتباط صوت كل قاضٍ بكلٍّ من القضاة الآخرين، فركَّزوا اهتمامهم على البيانات المأخوذة في الفترة من عام ١٩٩٤ إلى عام ٢٠٠٥ (فترة رئاسة ويليام رنكويست الثانية للمحكمة). وإليكم شكلًا — ورد في بحثهم — يُظهِر تلك العلاقات الارتباطية.

في الفترة من عام ١٩٩٤ إلى عام ٢٠٠٥، كان ثَمَّةَ ارتباط إيجابي بين أصوات قضاة المحكمة العليا جميعًا، بمعنى أنه ما من مصدر موثوق فيه يفيد معارضة أي قاضٍ لآخر.

في الفترة من عام ١٩٩٤ إلى عام ٢٠٠٥، كان ثَمَّةَ ارتباط إيجابي بين أصوات قضاة المحكمة العليا جميعًا، بمعنى أنه ما من مصدر موثوق فيه يفيد معارضة أي قاضٍ لآخر.

يستتبع وجود علاقة ارتباطية إيجابية بين قاضيين احتمال اتفاق صوتيهما. المدهش أنه على الرغم من اشتمال المحكمة العليا على اختلافات أيديولوجية قوية، فإنه ليس ثَمَّةَ علاقات ارتباطية سلبية بين القضاة، معنى ذلك أنه ليس ثَمَّةَ قاضيان يصوت كلٌّ منهما خلافًا للآخر بصفة مستمرة، إلا أن بعض القضاة يتزايد احتمال اتفاقهم عن آخرين. يمكن رؤية ذلك في الكتلتين وثيقتي الارتباط الممثلتين في الشكل الوارد أعلاه (أعلى إلى اليسار، وأسفل إلى اليمين). «القضاة مرتَّبون من اليسار السياسي (يسار الشكل) إلى اليمين السياسي (يمين الشكل)، فلا عجب في أن يشكِّل اليسار واليمين كتلتين تصويتيتين منفصلتين». معنى ذلك أن القضاة الواردين على اليسار من المرجح أن يتفقوا، بينما الأرجح أن يتفق القضاة الواردون على اليمين، ولا مجال للدهشة في ذلك.

ولكن الفيزيائيين الذين أجروا ذلك البحث لم يرغبوا في معرفة كيفية «ارتباط» أصوات القضاة فحسب، وإنما أرادوا أيضًا الوقوف على كيفية «تأثير» القضاة بعضهم على بعض فعليًّا؛ فالمسألة تتمحور حول الفرق بين «الارتباط» و«التأثير».

وقد طلبت من صديقي جون بارتون أن يشرح لي الأمر، فجون فيزيائي متخصص في التقنيات المستخدمة في ذلك البحث.

يبدو الأمر معقدًا إلى حد كبير، ولكن كل ما يحاولون فعله حقيقةً هو التمييز بين «التأثير» و«الارتباط» في الأساس. على سبيل المثال (وإنه مثال سخيف، فقد سمعت أمثلة أفضل ولكن ليس في إمكاني تذكرها الآن؛ لذا ابتدعت هذا المثال!): فكِّر في ثلاثة متغيرات: (أ): «(س) في صالة الألعاب الرياضية»، (ب): «(س) يمارس التمارين الرياضية»، (ج): «(س) يستحم». ثَمَّةَ علاقة ارتباطية بين تلك المتغيرات كلها، ولكن (أ) و(ج) لا يؤثر أحدهما على الآخر إلا بصورة غير مباشرة؛ فأنا على الأرجح سأستحم بعد العودة من صالة الألعاب الرياضية فقط إذا مارست التمارين الرياضية هناك. وهكذا، في هذه الصورة البسيطة أرى التفاعلات بين (أ) و(ب)، وبين (ب) و(ج)، ولكن ليس بين (أ) و(ج).

تفاعل غير مباشر: الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية (أ) مرتبط بالاستحمام (ج)، ولكن فقط في حالة ممارسة التمارين الرياضية (ب) هناك.

تفاعل غير مباشر: الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية (أ) مرتبط بالاستحمام (ج)، ولكن فقط في حالة ممارسة التمارين الرياضية (ب) هناك.

الفكرة الرئيسية التي تكشَّفت في هذا البحث هي الانتقال من قائمة العلاقات الارتباطية بين أصوات القضاة، إلى التوصل فعليًّا إلى التأثير المباشر الذي يمارسه القضاة بعضهم على بعض.

ولكن ثَمَّةَ إشكالية، فقد اتضح أن ثَمَّةَ «عددًا لانهائيًّا» من الطرق التي يمكن أن يؤثر بها القضاة بعضهم على بعض، كلها تفضي إلى السلوك التصويتي ذاته، فكيف تعرف مجموعة التفاعلات الأجدر بالاختيار؟

ما علاقة ذلك بالمغناطيسات؟

تكمن الإجابة عن هذا السؤال في فيزياء ظاهرة المغناطيسية؛ فالحل كالتالي: تخيل أن لديك مغناطيسًا، فإذا كبَّرت ذلك المغناطيس بالمجهر المناسب، فسترى مغناطيسات مجهرية دقيقة — يمكن لكلٍّ منها أن يصطف في اتجاه بعضها البعض، أو عكس بعضها البعض. فيمكن لتلك المغناطيسات المجهرية (أو «اللف المغزلي» حسبما يسميها الفيزيائيون) أن تغير اتجاهاتها، ويمكن أن يؤثِّر بعضها على بعض — وكل مغناطيس مجهري يحاول جعل المغناطيسات الأخرى تحاذيه. وبعض المغناطيسات المجهرية أقوى من غيرها، فيمكنها أن تقنع مغناطيسات كثيرة غيرها بالتحول إلى اتجاهها.

إذا قمت بتكبير مغناطيس بواسطة المجهر، فسترى مغناطيسات مجهرية، يسميها الفيزيائيون لفَّات مغزلية. كلٌّ من هذه المغناطيسات يحاول جعل الأخرى تحاذيه.

إذا قمت بتكبير مغناطيس بواسطة المجهر، فسترى مغناطيسات مجهرية، يسميها الفيزيائيون لفَّات مغزلية. كلٌّ من هذه المغناطيسات يحاول جعل الأخرى تحاذيه.

على غرار قضاة المحكمة العليا، لا تتفق تلك المغناطيسات المجهرية على الدوام؛ فهنا نجد أن «الأصوات انقسمت» بواقع ٥ إلى ٤ ما بين لفات مغزلية متجهة إلى أعلى، وأخرى متجهة إلى أسفل.

على غرار قضاة المحكمة العليا، لا تتفق تلك المغناطيسات المجهرية على الدوام؛ فهنا نجد أن «الأصوات انقسمت» بواقع ٥ إلى ٤ ما بين لفات مغزلية متجهة إلى أعلى، وأخرى متجهة إلى أسفل.

وقد اتضح أن نموذج المغناطيسات ذاك يتماشى إلى حد كبير مع مشكلة المحكمة العليا، فمثلما تؤثر المغناطيسات المجهرية على اتجاه بعضها البعض، وتسفر عن تكون ظاهرة المغنطة، كذلك يمكن لقضاة المحكمة العليا أن تؤثِّر أصواتهم بعضها على بعض، وينبثق التصويت النهائي عن مداولاتهم. ومن أجل الوقوف على التأثيرات المتبادلة بين القضاة استخدم الباحثون الأداة نفسها (الأنتروبيا القصوى) التي يستخدمها المرء من أجل التوصل إلى التفاعلات القائمة بين اللفات المغزلية داخل المغناطيس.

الفكرة الرئيسية المتكشفة هنا هي تخيل أن تأثير قضاة المحكمة العليا بعضهم على بعض يشبه التفاعلات القائمة بين اللفات المغزلية داخل المغناطيس.

أنا وأنت لسنا شديدَيْ الاختلاف.

أنا وأنت لسنا شديدَيْ الاختلاف.

ما مدى كفاءة ذلك النموذج؟

يتمثل السؤال الرئيسي بالنسبة لأي نموذج — قطعًا — فيما إذا كان يفسر البيانات، وقد اتضح أن ذلك النموذج نجح في تلك المهمة إلى حد كبير.

يُظهر المنحنى الأخضر على الرسم البياني معدل تكرُّر وصول المحكمة العليا إلى نتيجة تصويت محددة. على سبيل المثال: أسفرت الأصوات عن أغلبية بواقع ٥ إلى ٤ أصوات في ٢٠٪ من الوقت، وأغلبية بواقع ٦ إلى ٣ أصوات بنسبة ١٢٪ من الوقت … وهكذا، حتى نصل إلى تصويت بالإجماع بواقع ٩ إلى ٠ في نحو ٤٠٪ من الوقت.

أما إذا كان كل قاضٍ يصوِّت بمعزل عن زملائه، فلكم أن تتوقعوا رؤية المنحنى الأزرق. وكما ترون فقد فشل ذلك المنحنى تمامًا في إعادة إنتاج البيانات؛ وذلك لأن القضاة يتشاورون.

وأخيرًا، إن كان كل قاضٍ يؤثر على الآخرين بالضبط مثلما تنبأ نموذج المغناطيسات الوارد أعلاه، فستحصل على المنحنى الأحمر. وكما ترى، فإنه يتماشى مع المنحنى الأخضر إلى حد كبير، ويعيد إنتاج حقيقة أن احتمال الوصول إلى قرار بالإجماع بواقع ٩ إلى ٠ يزيد بمقدار الضعف عن احتمال الوصول إلى قرار بأغلبية ٥ إلى ٤ أصوات.

ما النتائج التي توصل إليها الباحثون؟

لقد توصل الباحثون إلى مجموعة التفاعلات القائمة بين قضاة المحكمة العليا التي تقدم أفضل إعادة إنتاج للبيانات، فما الذي استفادوه من ذلك؟

إليكم مثالًا: لقد وجدوا أن صدور تصويت إيجابي عن أكثر القضاة المحافظين — كلارنس توماس — «يزيد» احتمال صدور تصويت إيجابي عن القاضي الأكثر ليبرالية — جون بول ستيفنز — بنسبة ١٠٪؛ مما يتنافى مع المنطق الأيديولوجي. ولكن لنتناول قاضيًا محافظًا آخر — أنتونين سكاليا — يتشابه سجله التصويتي إلى حد بعيد مع سجل كلارنس توماس التصويتي. ومقارنةً بتوماس، يؤدي تصويت سكاليا بالإيجاب إلى جذب ستيفنز في الاتجاه المعاكس؛ مما «يقلل» احتمال تصويته بالإيجاب بمعدل ٣٠٪.

أي إن الباحثين تمكنوا من إماطة اللثام عن التفاعلات المتوارية في ثنايا بيانات العلاقات الارتباطية، فاستطاعوا التوصل إلى الأساليب الخفية التي يمكن من خلالها للقضاة أن يؤثروا على قرارات بعضهم بعضًا.

وإضافةً إلى ذلك فقد أثبتوا — بما يتفق مع حدسنا — أن أقل قضاة المحكمة العليا تأثيرًا منذ عام ١٩٩٤ حتى عام ٢٠٠٥ كانوا المتطرفين أيديولوجيًّا (سكاليا وتوماس). فوفقًا للنتائج التي توصلوا إليها، كان أقوى القضاة تأثيرًا في تلك الفترة هما ساندرا داي أوكونور وأنتوني كينيدي اللذين عادة ما يُنظَر إليهما على أنهما «أصوات متأرجحة».

باختصار، تطبق تلك الطريقة أدوات الفيزياء الإحصائية بغية فهم كيفية وصول مجموعة من الأشخاص المؤثرين جدًّا جدًّا إلى قرار، وهي — بالإضافة إلى إعادة إنتاج الملامح الرئيسية لبيانات التصويت — تكشف كذلك تحيزات خفية تتخلل عملية صنع القرار. وفي حين أن هذه الطريقة لن تطلعك على نتيجة تصويت المحكمة في قضية بعينها، فسوف تطلعك على كيفية تأثير قضاتها بعضهم على بعض في المعتاد.

وأنا شخصيًّا أظنه أمرًا مبهرًا أن نتمكن من فهم كيفية اتخاذ أشخاص بالغِي الذكاء قرارات معقدة باستخدام كثير من القواعد الفيزيائية نفسها التي تصف المغناطيس الذي يزين الثلاجة.

 by Aatish Bhatia. 

 

15 مارس, 2017 01:37:49 مساء
0