تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
جلال برجس أفاعي ورماد قصّاده

في روايته الفائزة بجائزة كتارا - فئة الروايات غير المنشورة - تحديدًا في حلّتها الجديدة الصادرة عن مكتبة تنمية في مصر (الطبعة المصرية) بالتعاون مع المؤسسة العربية للدراسات والنشر، يرسّخ جلال برجس مكانته كأحد أمهر مروّضي اللغة وأبرع القصاصين والقصّادين في ذات الوقت.

وكم كان من المذهل والمؤسف ألا تلفت هذه الرواية أنظار القراء والنقاد إلى موهبة هذا الروائي إلا عقب فوزه بجائزة البوكر. الأمر الذي يعكس سطوة البوكر وأثرها الكبير في الأوساط الثقافية على الصعيدين النقديّ والقرائي، بذات القدر الذي يؤكد به تقاعس مؤسسة كتارا في ما يخص توزيع أعمالها والترويج لها بما يتناسب مع أسماء وقيمة المبدعين الفائزين في فئة الروايات غير المنشورة. أنا أعني هنا -على سبيل المثال- أعمال مبدعين احتكرت كتارا نشر وتوزيع أعمالهم صوريًّا لخمس سنوات، مثل جلال برجس وعبد الوهاب عيساوي وميسلون هادي والراحل العظيم سعد محمد رحيم وغيرهم.

أعتقد أن مؤسسة كتارا تهتم بالترويج لاسم الحائزة أكثر مما تهتم بالترويج للروايات التي تحتكر نشرها؛ هذا رغم استجابة كتارا المتأخرة لنداءات القراء والمثقفين غبر طرحها للروايات المحتكرة على المتاجر الإلكترونية مثل نيل وفرات وجملون...

 مراوغة وتجريب:

نصّ آخر مراوغ لجلال برجس، الكاتب الذي يجيد التغريد في الحقول المغايرة للمألوف. بناء سرديّ مختلف، يقوم بنيانه على تقنية الميتافيكشن، قبل أن تحلق مخلوقاته فوق عوالم تتفاوت واقعيتها بين الواقعية اللصيقة بالأرض، وسراديب الحلم، وصولًا إلى الأسطورة الشعبية والموروث الشفاهي الشعبي.

نص حافل بالتنويع والتجريب والمجازفة، يقذفه الكاتب بين يديّ القراء كأنّه بحّار عجوز يلقي شباكه في قلب بحيرة ثلجية، قبل أن يجلس في قاربه ويروي حكايته للأسماك السابحة أسفل الثلج. إلا أنه - ويا للعجب - يرجع إلى كوخه وفي حوزته صيد وفير، بعدما أذابت الدهشة التي تفيض من كلمات حكايته كل طبقات الجليد!

كوازيمودو برجس، بين النار والنور:

ربما يميل القارئ والناقد إلى قولبة الرواية في إطار مواجهة تدور بين العقول المظلمة والعقول العامرة بالنور. الظلام حاضر في الشخصيات المتطرفة التي شوهّت حاضر القصّاد ومستقبله، والنور قابع في قلب القصّاد وعقله وعِلمه الواسع، بيد أن جلال برجس لا يقبل أن تدور رحى هذه الحرب في إطار سردي تقليدي، فيقدم لنا علي بن محمود القصّاد بعدما اكتوى بالنار قلبًا وجسدًا، فاستحال مسخًا مخيفًا يستدعي طيف أحدب فيكتور هوغو ومأساته الخالدة، وصراعه بين صعوبة الاندماج ومراوغة هزيمة الانسحاب. بذلك يضع الكاتب سبابته فوق الخط الفاصل بين النار والنور، وكيفية تعاطي العقول لمفهومهما. فالنار التي تبدد الظلام هي ذات النار التي تحرق البلاد والعباد. الأمر إذن يرتبط باليد التي تحمل المشعل، وقراراتها، بين إسدال خيمة الظلام، أو استدعاء الشمس من مبيتها.

في ذات الإطار، يتطرّق الكاتب وبطل حكايته إلى اختلاط مفاهيم دينيّة ودنيويّة مثل العيب والحرام، وكيف يسبق العرف الشرع؛ أو يضلله. نلاحظ هنا أن رجل الدين الوسطي واهن، تدعس الحناجر الثائرة صوته وأفكاره تحت ثِقل الظلام. المؤمن الحقيقي، المسالم، ضائع بين الأرجل التي تحمل مشاعل الظلام، لتئد آخر منفذ للنور....

 حكايات تتوالد:

لعبة محكمة يتقنها برجس وباتت تعكس بصمته الخاصة في الأدب العربي المعاصر: نصوص متوازية، وحكايات شهرزادية تتوالد الواحدة من رحم الأخرى. رواية أولى ابتلعتها النار، ثم حكاءة غامضة تروي قصة رجل التهمته النار، ومؤلف مأزوم يحاول استيلاد روايته التائهة من فم الحكاءة التي تتداخل في حكايتها الأصلية سلسلة من الحكايات الفرعية عظيمة الأثر. لاحظ أننا نتحدث عن رواية يحمل غلافها عنوانين، الأصليّ لا يتماس مع الفرعيّ بقدر ما يحاذيه، كما أن تقسيم فصول الرواية يعكس ذات الحرفيّة في خلق النصوص المتوازية التي لا تكف عن التماس وان سار كل منها في مسار -يبدو- مخالفًا للسابق والتالي.

روعة الحكايات هنا تتبلور في خلطها بين خط العشق (هو الخط الجامع والقاسم المشترك بين الحكايات) وخط الحلم عبر المفاجأة التي تتفجّر قرب النهاية، وخط الأسطورة المتمثلة في حكاية الغول، المنبثقة بدورها من حكاية أخرى قديمة تتنقل بين شفاه العجائز منذ القِدم...

 الأنماط والشخوص وتعدد الأصوات:

بمرور الفصول، ينجح الكاتب في إزالة حالة الرهبة بين القارئ وبطله الذي شوّهته النار، فيراه بين السطور بوضوح، ليجد أنه يتعاطف معه، ولا يرفضه بقدر ما يتمنى أن يثأر له ممن آذاه. شخصيّات رجال الدين تم تقسيمها بين المعتدل والمتطرف، إلا أن الحكاية لم تخالف الواقع، فكانت الغلبة دائمًا لحاملي العصا وأصحاب الصوت الغليظ. الشخصيّات النسائية حائرة بين فطرة الحب وسطوة العُرف، رجل العلم منبوذ وكذلك التنويري. كل ذي فكر هو في واقع الأمر غول محتمل، وشر ينبغي التخلص منه، بينما الغول الحقيقي حاضر بيننا، في عقولنا، وفي ثمار اضطهادنا ورفضنا للآخر. كل ذي نور يُشكّل مصدر خطر يهدد الظلام الجاثم على صدورنا، وكل بصيص منه مصيره الحرق، ومآله الرماد.

أجاد الكاتب كذلك اختيار أنماط الشخوص الثانويين، فلم يجعلهم ظلالًا تنبثق من ظل الرواة الأصليين، بل خلق بهم حالة من التنوع الفكري التي أثْرت مصداقيّة النص.

كان بناء الشخصيّات - رغم تداخل الحكّائين، وضفر الحكايات، وألعاب التناص، وتلك الضبابيّة العذبة المُحببة التي تفصل الحلم عن الواقع كأولى ساعات الفجر- ثريًّا في تفاصيله، مُحكمًا في تماسكه، مُقنعًا من حيث تطوّر الشخوص بالاتساق مع تصاعد الأحداث.

لا يفوتني هنا أن أشيد بتنوع أصوات الرواة بين خاطر والحكاءة وعليّ القصاد، فكل صوت ينبثق بحيث يبدو منفصلًا، كحال عنوانيّ الرواية، حتى ينجلي الاتصال الوثيق في النهاية.

ثيمات الغربة، الذاكرة الشفاهيّة، الحنين إلى الرحم، والعودة إلى الأصل:علاوة على مواجهة النور والظلام، أو تآمر النار على النور، لدينا ثيمات واضحة تُطرّز هذه اللوحة السردية وتسرح في تفاصيلها بألوان واضحة؛ أولها الغربة التي تتسق مع الوطن في لفظ الاختلاف (القصاد في باريس وفي عمان/طيف كوازيمودو)، والهجرات المتتالية إليها ومنها. ثم لدينا الذاكرة المكتوبة والشفاهية، التي تجاهد بغية حفظ إرث الحكاية والحفاظ على أصلها غير المُحرّف (مذكرات القصاص/أحلام خاطر/ جلسات الحكاءة/بارعة). كانت لدينا كذلك حالة البحث عن طيف الأم، والبكاء على رماد صورتها، وجمع ملامحها خلال الفصول عبر مراكمة تفاصيل صغيرة تبعثها الأحلام من قبر الرماد؛ حالة نفسية تعكس حنين خاطر إلى استعادة أمه، الأمر الذي يُطلق عليه في بعض التفاسير النفسية؛ رغبة العودة إلى الرحم واستعادة الأمان الذي لا يعوّض.

ختامًا، كان لدينا ارتداد مكانيّ أحسبه أحد أهم نقاط القوة في هذه المرويّة، والمقصود هنا هو توحّد نقطتي البداية والنهاية من حيث المسرح المكاني، أي القرية التي تحتضن الميلاد والممات، وتشهد أول لحظة نور، وآخر مشعل نار.

العشق كما يؤمن به برجس:

حكاية عليّ القصّاد مع بارعة هي حكاية عشق مُكبل، صورة مألوفة ومعتادة في الأدب العربي؛ عشق متّقد تقيّده أعراف العشائر وشرائع أصحاب العمائم. وصال فانفصال، ثم لقاء بعد ذبول الآمال.

لذلك؛ أعتقد أن حالة العشق الفريد الحاضرة هنا كانت بطلتها لمعة، القرويّة التي أحبت بن القصّاد شابًا وسيمًا ومسخًا مشوّها، وابتلعت رفضه المتزامن مع هذيانه باسم محبوبته الأولى والأخيرة، فقرّرت أن تثبتْ حقيقة عشقها عبر وصل المعشوق مع من هوى، فترحل عن القرية مُقرّرة ألا تعود إلا في معيّة محبوبته.

كانت هذه قصة الحب الحقيقي، المستحيل، التي تركت في قلبي أثرًا عظيمًا. أعتقد أن عشق لمعة للقصاد، كان هو الحب الذي يعكس قناعات الكاتب نفسه، الحب الذي لم تنل منه أفاعي النار. مجرد حدس.

 عتبات الفصول:

برع الكاتب في استهلال فصوله بمقولات لأبطال حكايته. أحببت هذه الاستهلالات، ووجدت فيها ما يعكس ثقة الكاتب، وكأنه يقول: لا حاجة لدي لاستعارة مقولات وأشعار من كتابات الآخرين، فلدى أبطال حكايتي ما يكفي من بلاغة العبارات وعمق الأثر...

في ختام هذه الكتابة الانطباعيّة عن هذا النص المتميز، لا يمكن ألا أتوقف أمام خط الشاعر في كتابة الرواية.

أنا من المنحازين إلى الشعراء عندما يكتبون الرواية (لا أقصد جميعهم بطبيعة الحال)، لكن أغلب الشعراء يجيدون نسج العبارات اللغوية الحافلة بالصور وشتى ألوان الاستعارات والكنايات. لغة شديدة التميّز والخصوصيّة، قويّة ومعبّرة، تأسر القارئ وتُدهشه وتحقق لديه المتعة الكاملة دون إجباره على الاستعانة بالمعاجم.

عمل سردي ممتع، نص أدبي (فكري) يصرخ في وجه الظلام الاختياري، يسلط النور على النار وحملة المشاعل، ليكشف عن التشوّهات الحقيقية التي عاثت في الأرواح حتى نالت من العقول والمفاهيم.

شعلة تنوير صادق يرفعها جلال برجس في وجه أفاعي النار، فهل تتقهقر الأفاعي إلى جحورها؟

 ملاحظات:

1 - المخزون القرائي للكاتب يتسرّب مرة أخرى إلى كتابته، فنقرأ أسماء الكثير من الروائيين والشعراء على ألسنة أبطال الحكايات. وما أروع أن يقرأ القارئ لكاتب يجيد القراءة!

2 - جلال برجس شاعر بارع، من حسن حظه وحظ القارئ العربي أنه قرّر ذات يوم أن يكتب الرواية، ليكتشف معنا أن ثمّة حكّاء مكينا عاش يتخفّى وراء قلم الشاعر طوال تلك السنوات.

شكرًا جلال برجس.. شكرًا للمؤسسة العربية للدراسات والنشر على إعادة نشر هذه الرواية المظلومة...

شكرًا لمكتبة ودار نشر تنمية لحرصها على إصدار نسخة مصريّة من هذه الرواية الممتعة.

في النهاية، يتوجّب عليّ أن أقرّ بأحقيّة فوز هذه الرواية بجائزة كتارا، الأمر الذي يدل على حرفيّة الفرز والانتقاء في لجنة تحكيم الروايات غير المنشورة في مؤسسة كتارا، وهي الحرفيّة التي أتمنّى أن تُصيب عدواها المسؤولين عن الدعاية والتسويق في ذات المؤسسة.

25 سبتمبر, 2021 11:07:44 صباحا
0