تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

كانط في الحانة: المثالية المتعالية في الحياة اليومية

يستخدم باتريك كانون مكانًا مألوفًا من أجل توضيح أفكار كانط الميتافيزيقية.

إنها ليلة الجمعة، ذهبت إلى الحانة، وجدتها مزدحمة، وعبرت وسط بحر من الأجساد.

يصيح صديقك: «ها هو مكان خالٍ» مشيرًا إلى بعض المقاعد أمام المشرب، فتشق طريقك وسط مجموعة صاخبة من الفتيات، وتجلس وتنظر إلى عيني الساقية وتقول: «كوبين من الجعة، من فضلك»، وتشير إليها بيدك بعلامة السلام.

فتمد يدها مجيبة بارتياب: «بطاقات الهوية من فضلك.»

فتنصاعان كلاكما قائلَيْن: «حسنًا» ويضع كل منكما يده في محفظة نقوده، فتفحص الساقية البطاقتين وتقارن بعناية كلًّا منكما مع الصورة المصدق عليها من الولاية، وأخيرًا، تقدم لكما الساقية المتشككة كأسين من الجعة.

تشرب نخب صديقك، فأنت سعيد أن الأسبوع قد انتهى، وسعيد أنك لم تلقِ طابعتك التي يتكدس عليها الورق باستمرار من النافذة. وعندما تأخذ رشفة من المشروب كهرماني اللون، تدغدغ فقاعات الصودا فمك، وتشعر بحرقة خفيفة بينما تبتلعها. توجد مجموعة من الرجال يلعبون البلياردو في الحجرة المجاورة، ويمكن سماع صوت ضعيف لارتطام الكرات ببعضها عبر الضوضاء المحيطة، وتُعزف أغنية من أغاني موسيقى الريف من الفونوغراف الرقمي، ولكن كل ما يمكن سماعه منها وسط ضجة المحادثات المبهمة هو صوت طبلة منتظم وصوت كمان ضعيف.

ربما ما لا تعلمه هو كم أن هذه اللحظة حافلة بفلسفة كانط؛ فالجلوس إلى المشرب وشرب الجعة والتفكير في الساقية التي طلبت بطاقة هويتك للتو كلها أمثلة نموذجية على «المثالية المتعالية» للفيلسوف إيمانويل كانط. على سبيل المثال، كانت الساقية التي تفحص الترابط بينك وبين صورتك في بطاقة هويتك تتساءل إذا ما كان الشكلان الموجودان أمامها — أي أنت وبطاقة هويتك — صورة معبرة عن الواقع. بعبارة أخرى، أيهما يعكس بصدق ما إذا كنت «حقًّا» أكبر من ٢١ عامًا أم لا: مظهرك الدال على أنك تبلغ أكثر من ٢١ عامًا، أم بطاقة هويتك التي تقول إنك أكبر من ٢١ عامًا؟ واجه كانط تحديًا من سؤال مشابه في كتابه «نقد العقل الخالص» (١٧٨١): «هل المظهر انعكاس معقول للواقع؟» وطرح هذا السؤال في طريقه إلى الإجابة على السؤال التالي: «هل يمكننا معرفة ماهية الأشياء بما يتخطى مظهرها أمامنا، أي في جوهرها؟» يشتهر كانط بالإجابة على هذا السؤال بالنفي؛ أي إنه رغم ما قد نعتقده، لا يمكننا إلا معرفة القليل جدًّا عن الواقع في جوهره، إما من خلال مظهره أمامنا أو من أي مصدر آخر.

ولكن ماذا يعني «الواقع في جوهره»؟

العبارة التي استخدمها كانط للتعبير عن الشيء في جوهره هي الشيء في حد ذاته، والكلمة الجامعة المعبرة عن «الواقع في جوهره» هي نومينون، المأخوذة من الكلمة اليونانية nous التي تعني تقريبًا «الذكاء»، أو «التفكير الخالص»، أو «العقل الخالص» (لأن كانط يعتقد أن القليل الذي يمكننا أن نعرفه عنه يمكننا أن نعرفه فحسب من خلال العقل الخالص). وهذه الكلمة الحدسية هي الواقع كما هو حقًّا، منفصلًا عن إدراكنا الحسي له أو مستقلًّا عنه؛ فمدركاتنا الحسية عن العالم — الشعور ببرودة الكوب في يدك، وطعم الجعة ورائحتها بالقرب من شفتيك، واللون الذهبي للسائل — يطلق عليها كانط «ظواهر».

هذه الطريقة لتقسيم العالم مثيرة للغاية ومزعجة للغاية في الوقت نفسه. تأمل مثلًا طاولة المشرب المصنوعة من خشب الماهوجني التي أمامك، عندما ترى الطاولة — الخطوط الداكنة المحفورة — فإنك تشاهد ظاهرة، أو تمر بخبرة حسية: لون وشكل وصوت عندما تضع كوبك من يدك، ومشاعر لمس عندما تتكئ على الطاولة. ورغم أن المرء قد يميل للاعتقاد بأنه ببساطة يشعر بالطاولة في حد ذاتها، إلا أن هذا خطأ؛ فهذه الظاهرة التي نخبرها ليست السبب الأساسي للخبرة التي نمر بها. على سبيل المثال، إذا نظرتُ إلى السماء فلا أستطيع أن أغيرها من اللون الأزرق إلى اللون الوردي بمجرد التفكير في ذلك، الأمر الذي ربما يكون ممكنًا إذا كان كل ما هو موجود هو الخبرات نفسها. كان كانط مقتنعًا بدلًا من ذلك أنه يوجد شيء يتجاوز إحساسنا المباشر يتسبب في هذه الظاهرة، وأصر كانط أنه يوجد شيء «هناك»، يمثل مصدر هذا الإدراك الحسي؛ شيء يتجاوز أو يتخطى الإدراك الحسي يُطلق عليه العالم الحقيقي.

ولكن، نعم، إليك لب المشكلة! أكد كانط أنه رغم وجود العالم الحقيقي الذي يمثل السبب الرئيسي في تجربتنا الشخصية (الظاهرية) للعالم، فلا يمكننا أبدًا الوصول إلى العالم الحقيقي مباشرة. إذن، ما الذي «نستطيع» أن نعرفه مباشرة؟ اعتقد كانط أن كل ما نستطيع معرفته مباشرة هو الظواهر الخاصة بنا، لكن الخبرة والواقع يتجاوزان هذه الظواهر بكثير. أكد كانط أن العالم كما نخبره هو نتاج «مصفوفة».

كانط في المصفوفة

في الجزء الأول من فيلم «المصفوفة» (ماتريكس، ١٩٩٩)، يقول مورفيوس لنيو: «إذا كان الواقع هو ما تستطيع الشعور به وشمه وتذوقه ورؤيته، إذن، «فالواقع» هو ببساطة إشارات كهربية يترجمها مخك.» لم يؤمن كانط بوجود أي مؤامرات من الآلات لخداع البشر بانتظام، بل بدلًا من ذلك، يتخذ كانط موقفًا أعتقد أنه مثير للدهشة؛ فبالنسبة له، «عقولنا» هي المصفوفة. تمثل هذه الفكرة محور فلسفة كانط، وأطلق على هذا الموقف «المثالية المتعالية»، بمعنى أن العقل يمتلك بنى تفرض بنية على البيانات التي تتلقاها حواسنا من العالم، وبهذا يصنع عوالمنا بالفعل بطرق معينة. تنظم هذه البنى العقلية كل البيانات المتنوعة من حواسنا وتحولها إلى سياق الخبرة التي نكتسبها؛ إذ تحول البيانات المادية التي تتلقاها حواسنا من العالم إلى إدراكنا الحسي الذي نخبره عن العالم، وهذا يعني أننا لا ندرك أو نخبر عالمًا موجودًا من قبل، بل بدلًا من ذلك، فإن بنى العقل هي التي تسبب الظواهر — المصنوعة من أعمال العقل بقدر ما هي مصنوعة من الواقع (الحقيقي) — ومن ثم فإن العالم الذي نشعر به يعتمد في صورته على الطريقة التي يعمل بها العقل.

كلما فكرت في الأمر أكثر، بدت فكرة أن العقل يبني العالم الذي نخبره منطقيةً على نحو أكبر. على سبيل المثال، نهضتَ من أجل الذهاب للحمام، وفي طريقك شاهدت صورة مرسومة لكلاب تلعب البوكر، ما الذي تراه حقًّا؟ تعطيك الرسومات وهم امتلاك «معنى معين»، ولكن في الحقيقة أي رسم — حتى لوحة «الموناليزا» التي رسمها دافنشي أو لوحة «ليلة مضيئة بالنجوم» التي رسمها فان جوخ — هو مجرد نقاط وخطوط من الألوان التي تلطخ القماش، تعي عقولنا بقع الألوان تلك وتدركها بوصفها صورًا، وهذه مجرد بداية تأثير عقولنا على خبرتنا. واعتقد كانط على نحو غير مسبوق أنه حتى الزمان والمكان هما جانبان من خبرتنا يخلقهما العقل على نحو مستقل عن الواقع في حد ذاته. من الصعب رؤية كيف قد يكون الوضع بهذه الصورة، وأنت تجول بنظرك في المشرب بينما تسير؛ ولكن كيف يمكننا إذن تنظيم خبرتنا دون أن تنظَّم الخبرات في الزمان والمكان؟

تأمل الزمن مثلًا، لدينا جميعًا ساعة بيولوجية تعمل في داخلنا، وتسمح لنا بتحديد مكان خبرة معينة على مدى سلسلة متتابعة، مع ذلك، إذا تناولت الكثير من الجعة، فستصاب المرشحات النفسية لديك فجأة بالخلل، وربما يبدو أن كل شيء يسير للأمام بسرعة؛ فتلوِّح الفتيات المتواجدات بجوارك بأيديهن أسرع قليلًا، وتقصر قصة صديقك التي يرويها عن حلمه الليلة الماضية قليلًا (حمدًا لله!) يطلق على هذه الخبرة «الضغط الزمني»، ويمكن أن تكون تجربة حقيقة مباشرة للغاية عندما يتناول الشخص الكثير من عقار مهدئ على غرار الكحول، ويمكن للمنبهات على غرار الكافيين أو الأمفيتامين أن تسبب التأثير المعاكس الذي يطلق عليه «التمدد الزمني»، ما يجعل العالم يبدو كأنه يتحرك ببطء. ويحدث الأمر نفسه مع التغيُّرات في درجة حرارة الجسد؛ فعندما ترتفع درجة حرارة جسمك لدرجة عالية جدًّا — مثلًا في حالة إصابتك بحمى — يبدو كما لو أن الوقت يمر ببطء، وعندما تتعرض لبرد شديد لفترة كافية، يمكن أن يبدو الأمر كما لو أن الوقت يمر بسرعة أكبر.

يبدو أن كانط كان محقًا؛ فالزمن بالفعل جانب شخصي من خبرتنا.

كانط وكوب الجعة المحطم

عدتَ من المرحاض.

أشار صديقك إلى الساقية رافعًا إصبعيه قائلًا: «كوبين آخرين من فضلك.» أومأت برأسها إيماءة بسيطة مشيرة بالإيجاب، بينما راقبت أنت السيدة المشغولة وهي تمد إحدى يديها لتمسك كوبين زجاجيين وتشغل آلة تسجيل النقود بيدها الأخرى، وفي لحظة من الغفلة، فقدت إحكام قبضتها على أحد الكوبين ليتحطم الكوب عندما ارتطم بالأرضية الخشبية، لمعت الشظايا على الأرضية المعتمة كقطع الألماس.

رغم أن هذا قد يبدو حدثًا عديم الأهمية، فإن سقوط الكوب الزجاجي وارتطامه بالأرض يثير في الواقع موضوعًا آخر مثيرًا للاهتمام في الميتافيزيقا: السببية.

عندما كان كانط يبلغ من العمر أربعة وعشرين عامًا فحسب، نشر الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم كتابه العظيم «بحث في الفهم الإنساني» (١٧٤٨)، كان هيوم مهتمًّا ضمن أمور أخرى بفهمنا المنطقي للسببية. عادة ما نعتقد أننا نستطيع أن نعرف ما سيحدث في المستقبل اعتمادًا على معرفتنا الحدسية لقوانين الطبيعة؛ أي كيفية تصرف الأشياء. على سبيل المثال، نعرف أننا إذا رفعنا شيئًا أثقل من الهواء — على غرار كوب جعة — ثم تركنا هذا الشيء، فسوف يسقط لأسفل بالتأكيد، وبما أنه زجاجي، ربما ينكسر. ولما كان هيوم متشككًا، تساءل: «كيف نعلم ذلك؟»

يشير هيوم إلى أننا نفترض في أغلب الأحيان أنه بما أن الحدث «ب» يتبع دائمًا الحدث «أ»، إذن فالحدث «أ» يسبب الحدث «ب». ونعتقد بوجود رابط ضروري؛ أي علاقة بين الحدث «أ» والحدث «ب»، لا يمكن أن توجد بطريقة أخرى، ولكن أضاف هيوم متوخيًا الدقة أن أكبر ما يمكن أن ندعيه منطقيًّا هو أنه «حتى الآن» دائمًا ما تقع الأشياء الثقيلة لأسفل. والأساس الوحيد للتفكير في أن نفس العلاقة ستستمر (على سبيل المثال، سوف يرتطم الكوب بعد ذلك بالأرض عندما يسقط) هو اعتقادنا أن المستقبل سوف يواصل مضاهاة الماضي، واستطرد هيوم مشيرًا إلى أننا اكتسبنا هذا المعتقد ببساطة من خلال العرف أو العادة. بعبارة أخرى، كان هيوم يقول إن كل أفكارنا عن العلاقة بين السبب والمسبب تعود لاعتيادنا على الأحداث المترابطة، وهذا هو كل ما في الأمر؛ ومن ثم فإن علاقات السببية التي نضعها لا تتعلق بمعرفة أي علاقة ضرورية، وإنما بالأحرى نستقيها من خبرتنا. بالمعنى الدقيق للعبارة، ليس لدينا مبرر للادعاء بمعرفة السببية.

هذا الشك حول السببية أثار ذعر كانط، ويطلعنا كانط أن هذا الجزء من أعمال هيوم: «أوقفني عن الإيمان الأعمى بمعتقداتي»؛ مما غيَّر اتجاه فلسفة كانط.

كما قيل آنفًا، يعتقد كانط أنه عندما نخبُر العالم فإننا نستخدم «مصفوفة معرفية» لنضفي معنى على المثيرات المحيطة بنا؛ فإضافة إلى الزمان والمكان (اللذين أطلق عليهما كانط «شكلا الحس»)، افترض وجود بنية ذهنية معقدة أطلق عليها «مقولات العقل»، والتي تؤدي دورها أيضًا في إحداث العالم الظاهري. وقد وضع اثنتي عشرة مقولة، منها الكثرة (كم عدد الأشياء الموجودة؟)، والوجود والإمكان (ما الموجود بالفعل، وما الذي يمكن نظريًّا أن يوجد؟). تشكل المقولات على نحو أساسي صندوق أدواتنا المعرفية التي نستخدمها في فهم البيانات الحسية وفي إصدار الأحكام على خبراتنا أيضًا. والمقولة الأكثر ارتباطًا بمناقشتنا الحالية هي التبعية السببية أو السبب والنتيجة. بعبارة أخرى، إدراكنا للعالم — عند كانط — من منظور السبب والنتيجة هو شيء تمليه عقولنا على خبرتنا للعالم.

بما أن السبب والنتيجة سمات لا يمكن استبعادها عن العقل عند كانط، فلا يعني هذا أن السببية ليست مشكوكًا فيها بالقدر الذي أظهرها عليه هيوم؛ فقبل مشاهدة الكوب الزجاجي يسقط ويتحطم على الأرض، كان كانط سيقول: إننا يمكن أن نعلم «على نحو مؤكد» أن الكوب سيسقط؟ كيف يمكن أن «نعلم» ذلك؟ يخبرنا كانط أن العالم الظاهري — العالم كما نخبره — تحكمه قوانين حتمية. (كان كانط منبهرًا للغاية بقوانين نيوتن الثلاثة للحركة.) ويرى كانط أنه مع ذلك، لا تنطبق قوانين الفيزياء إلا على العالم الظاهري، وليس العالم الحقيقي، وبهذا يقول إن قوانين الفيزياء لا تحكم العالم في حد ذاته. بعبارة أخرى، قوانين الفيزياء الحتمية التي نعرفها — على غرار قانون الجاذبية — ليست سوى تمثيل لسيكولوجية البشر، أو طريقة تنظيم عقولنا للعالم من أجل خبرتنا، ولكن بافتراض أن عقولنا تنظم العالم بهذه الطريقة، فيمكننا أن نعلم أننا سوف نخبُر العالم كما هو منظم بهذه الطريقة.

كانط في حد ذاته

يوجد مثل قديم من التلمود سبق ظهور كانط يقول: «نحن لا نرى الأشياء على حقيقتها، وإنما نراها حسب حقيقتنا نحن.» تمنح المثالية المتعالية عند كانط معنى جديدًا تمامًا لهذا المثل؛ فربما يعدِّل متبِعو فلسفة كانط المثل عن استحقاق ليقولوا: «لا يمكننا أبدًا معرفة الأشياء في حد ذاتها، وإنما يمكننا فحسب أن نعلم الأشياء كما تعالجها المرشحات النفسية لدينا.» بالتأكيد ليس مثلًا يمكن تذكره بسهولة، ولكنه أكثر دقة من الناحية الفلسفية.

من المثير للاهتمام افتراض كانط أننا جميعًا نتمتع بالبنية المعرفية نفسها (مع وجود استثناءات بسيطة على غرار عمى الألوان)، هذا هو السبب في أنه عندما سقط الكوب الزجاجي من يد الساقية، كان لدى «كل» شخص في الحانة يشاهد الموقف خبرات مشابهة للحدث نفسه على نحو ملائم؛ أي إنه رغم أن منظور كل شخص من مرتادي الحانة سوف يختلف بديهيًّا وفقًا لموقعه، فإن كل شخص سيدرك الحدث نفسه: أفلت الكوب الزجاجي من يدها، فسقط، ثم تحطم على الأرضية الخشبية. أطلق كانط على التشابه المفترض للخبرات البشرية اسم «الواقع التجريبي».

وعندما أشحت بوجهك عن شظايا الزجاج المنثورة على الأرض، عدت للتحدث مع صديقك، وبينما واصل صديقك حديثه عن حلمه، بدأت تشرد بذهنك، وفجأة أصبحت واعيًا بضغط المقعد من تحتك، ووزن القميص الذي ترتديه على كتفيك، والموسيقى والضوضاء المحيطة، وطعم الجعة المتخلف في فمك، ورائحة العطر، ووميض لافتات الدعاية المضيئة التي تروِّج لأنواع الكحوليات؛ فتفكر قائلًا: «أليس هذا غريبًا أن كل خبراتي المتباينة — اللمس والسمع والتذوق والشم والبصر — متوحدة بطريقة ما لتشكِّل كلًّا متكاملًا؟ كيف ينسج عقلي كل هذه المثيرات المتنوعة في خبرة واعية واحدة سلسة وموحدة؟»

استخدم كانط موهبته في صياغة العبارات الآسرة، وأطلق على الوحدة الشخصية لخبراتنا مصطلح «وحدة الإدراك المتعالية». ويطلعنا كانط أنها تحدث من خلال العمليات العقلية أيضًا؛ ففي حين يوفر شكلا الحس (الزمان والمكان) أساس تكوين الخبرة، تجمع مقولات العقل البيانات الحسية الخام وتحولها إلى الخبرة الشخصية الغنية، وتحدث عملية التجميع تلك لكل جوانب خبرتنا في وقت واحد؛ بمعنى أنه إضافة لوجود الفهم العقلاني، فإننا نشعر ونسمع ونتذوق ونشم ونرى في الوقت نفسه، حتى عندما نعطي اهتمامًا خاصًّا لحاسة معينة على الحواس الأخرى. ويقول كانط إن هذا الشيء الذي نربط به كلمة «أنا» هو ناتج عن عقولنا التي تعمل بالضرورة وفق طريقة التوحيد هذه؛ لأننا يجب أن نتلقى كل خبرتنا عن طريق عقل موحد، ويمنحنا تيار الوعي هذا المتدفق من البنية العقلية خبرة امتلاك الأنا أو النفس أو الروح المتعالية.

يسألك صديقك: «إذن ما معنى ذلك؟»

فترد متسائلًا: «ماذا تقصد ﺑ «ذلك»؟»

– «حلمي، ماذا تعتقد أنه يعني؟ لا يبدو أنه يمكن أن يعني شيئًا غير ذلك.»

فتجيب مترددًا: «حسنًا …» مدركًا أنك كنت تفكر في المثالية المتعالية طوال الوقت الذي كان يروي فيه صديقك حلمه. وبعد أن تأخذ رشفة معبرة عن التفكير من مشروبك، ترد بثبات: «أعتقد أننا لا نرى الأشياء على حقيقتها، وإنما نراها حسب حقيقتنا نحن.»

17 ديسمبر, 2015 02:58:45 مساء
0