تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
يوسف إدوارد وهيب في «احتفلي بي أيتها المكيدة»

يحتفي الشاعر يوسف إدوارد وهيب بالمكيدة شعريا ويبتهل لها إلى حد التسامح، ومن أجلها يقدم الشعر كتضحية وقربان لكل شيء ولا شيء معا. وذلك في ديوانه «احتفلي بي أيتها المكيدة»، الصادر حديثا عن هيئة قصور الثقافة بالقاهرة.
تحت ظلال المكيدة يقلب الشاعر التاريخ، الماضي والحاضر ويبدو أنه لا شيء عنده أسمى من فكرة الأخوة، وأن يصبح العالم بقعة ضوء تتسع للجميع بمحبة وصفاء. فهو مدين لجسد «الزير»، بصداقة، ليس لأنه مجرد وعاء للماء، وإنما باعتباره أحد الرموز القارة في ذاكرة الماضي وروح الوجدان الشعبي، على متانة العائلة، وأن الأخوة إحدى ركائز الحياة تماما كالماء، كما أنه حين يطيل حرف أناه (الأنا)، يحس أنه وحيد، وحين يسقطه يحس أنه يمتلك الكون. (ص20). ثم إنه شاعر يعتز بمصريته حتى النخاع، لا يرى في غلالته القبطية أي تناقض على مستوى العقيدة والوجدان والحلم، بل يراها أحد المفاتيح السحرية لهذا الاعتزاز.
يتناثر غبار تاريخ هذه الغلالة القبطية في الكثير من نصوص الديوان، بما واجهته من عنت وتعسف في الكثير من الفترات، لكنه يحيل كل هذا التعسف إلى المكيدة، بؤرة التواطؤ ضد الوطن وناسه وأحلامه... فيخاطب المكيدة بضمير الجمع، تاركا ضمير الأنا المفرد على العتبات قائلا:
«أيتها المكيدة
اعترفي مرة بجمائلنا عليك
ألم نطربك كثيرا بموسيقى التأوهات؟!
اصرخي أنتِ مرة
من محاولاتك الفاشلة
للوقيعة بيننا وبين أجسادنا».
لكن هذه الرجاءات المثقلة بغبار التاريخ، سرعان ما تنفك من أسر المجموع، لتخلص إلى ذاتها المفردة في مواجهة أخرى، تعلو نبرتها بشكل أكثر حدة، حيث الذات في مواجهة مباشرة مع المكيدة، بلا مسافة بينية، وكأنها مرثية، تومض من بعيد وبشكل خفيت على ما أصاب الغلالة السالفة الذكر من اضطرابات واقعها المصري الراهن... يقول الشاعر في نص تالٍ للنص السابق، وكأنه حركة أخرى تنفتح عليه:
«احتفلي بي أيتها المكيدة
بما يليق بفريسة عصيّة
وأنصتي جيدا لتفاهاتٍ
أنجح كثيرا في طمرها
لا تتصيدي سقطتي على الأرض
بل اسألي الظلَّ الذي صدمتِهِ
هل لا يزال على قيد البكاء؟!».
يقلب الشاعر المعنى الدارج في «الموتيف» الشعبي «على قيد الحياة» إلى «على قيد البكاء»، في إشارة لافتة إلى أن رجاءه الذي جاء في صيغة الطلب، في صورة «احتفلي بي أيتها المكيدة» والذي وسم عنوان الكتاب، هو رجاء مخاتل، لا يمكن الركون إليه أو الوثوق به. فالمكيدة من صنع البشر، ولن تنتهي الحياة إلا بنهايتهم. في النصف الأول من الديوان، وعلى مدار نحو 30 صفحة، تراوح الذات الشاعر المكيدة، تقلب أوجهها، ودلالاتها ورموزها، وتنكش في ظلالها، في خطى البشر وحماقاتهم، وفي مكيدة السلطة، والاختيار صراحة «ما بين الإرهاب والإرهاب»، أو في مشهد جثة «لم تجرح الهواءَ في مرورها -وهي تراقص أحزانها- في مكيدة لفرح لم يأت» (ص24).
هكذا تصلح المكيدة لتكون معادلا رمزيا للخطيئة، والجروح والطعنات الغادرة، بينما فضاء اللغة مشدود لعباءة الكتاب المقدس بأيقوناته الصورية الشهيرة، من قبيل «حنونة حبيبتي- مثل بركان» و«رقيقة حبيبتي- كشفرة نسمة الخريف» أو «اشكري صوت حبيبتي- حين تضحك فقط»... وغيرها مما يتناثر في الديوان.
هذه الملامسة لسطح الموروث التراثي، رغم أنها ترقق من خشونة اللغة المسكونة بالابتهال للمكيدة، إلا أن الديوان في نصفه الأول، لم ينجُ من الوقوع في الذهنية، واللجوء إلى المفارقة الفنية، بثنائياتها الضدية المباشرة وتمثيلها لمفارقات الواقع الساذجة، سعيا لاصطياد لطشة الختام في النص بصورة مباغتة، مثل «فتلطمني الزوجة بفاتورة الكهرباء» أو «لذلك لم يغضب مثلنا من الحكومة- واعتبر ارتفاع الحرارة مجرد شائعة».
لكن أخطر ما تصنعه الذهنية هنا، أنها تقلص مساحة الحسية في النص، ينعكس هذا على اللغة وطرائق تشكيل الصور الشعرية، فيتقلص ما توحي به من رموز ودلالات، كما تحد من طاقة الخيال، وتجعله مسكونا برسالة ما، تريد الذات الشاعرة أن تسربها في طوايا النص، رسالة تنطوي على أيديولوجيا محددة سياسيا واجتماعيا وتاريخيا، تأتي من عباءة الماضي أو اللحظة الراهنة، لكنْ هناك فرق بين أن يصبح النص الشعري مجرد حامل لموقف ما، مقحمٍ عليه من الخارج، وبين أن يصنع هو بقوته الفكرية، وجمالياته الخاصة هذا الموقف... وهو ما يطالعنا في نص «سلام على إبراهيم» في مفتتح الديوان على سبيل المثال.
في النصف الثاني من الديوان، تنفتح الكثير من النصوص على فضاء إنساني رحب، وتترك الذات الشاعرة المكيدة في الخلفية، مراهنة على المحبة كنشدان إنساني مفتوح على الجمال والحلم والحرية، وعلى صبوات الذات، في مدها وجذرها عاطفيا بالآخر، والأنثى على نحو خاص. هنا تتخلص اللغة كثيرا من غبار الذهنية، وتنفتح بسلاسة على إيقاع المشهد وتوتراته في الداخل والخارج، وتتحول المحبة إلى أنشودة، تخترق حواجز الزمان والمكان، الروح والجسد... بهذه المحبة يفتتح الشاعر النصف الثاني من ديوانه، موجها خطابه إلى الطبيعة والمرأة، إلى الجمال، بكل ظلاله القصية والقريبة، الحاضرة والغائبة قائلا في نص (31):
«أيتها الزوجة الجميلة
أيتها الزوجة
أيتها المرأة العجوز
أيتها الطفلة البريئة
أيتها الحبيبة الافتراضية
أيتها الوردة في غصنها
أرجوكن احتمالَ نظرتي المدققة أو التائهة
أقسم بجمالكنَّ
أنا فقط أبحث عن ملامحَ
أو محضِ ظلالٍ من ابتسامة أمي».
نعم المحبة صنو الصدق الخالص، أما دون ذلك، فهذا ملعب الآيديولوجيا، فلا هي صدقٌ خالص، ولا هي كذبٌ كذلك أيضا. وشتان أن يلتقي النقيضان، ليصنعا تصالحا زائفا، يوهمنا أن للحقيقة ألفَ وجه. لكنْ للشعر وجه وحيد، مهما تعددت طرائقه وأشكاله، إنه الحقيقة، في أبسط صورها وأعقدها، إنه الأمل في أن يخلص العالم إلى حقيقته في سلة الزمن والوجود، أن يصبح قصيدة محبة... تخفف من قسوة الرعب والعنف والقتل... «لستم شهداء بل قتلى محبة»... بهذه النظرة تنفذ الذات الشاعرة إلى لب المشهد، في نص بعنوان «حافلة» (ص50)، حيث تصبح القصيدة أشبه بحافلة، تسير بقوة المحبة والشعر في طريق لن تنتهي، تكاد تلخص برمزية الترحال، جدلية الحياة والموت وهو ما يعكسه النص ببساطة مغوية قائلا:
«حافلتي التي أقلعتُ عن قيادتها
تستيقظ كلَّ صباح
على ركاب يتشاجرون
دوما على السلّم
وحين يزاحمون قلبها
يتبادلون سجائرهم الرديئة
حافلتي التي أكلها صدأٌ لا لونَ لهُ
خلفته كوابيسُ من أراحوا رؤوسهم لبرهة
على نوافذها
لا تزال تحتفظ في مخبأ أسفلَ سطحها
بصورة قديمة لها
وهي تزف عروسين ماتا منذ زمان بعيد».
تفتح هذه الدلالة الدرامية لمشهد العروسين رمزية المكيدة على الماضي والحاضر معا، وتمنحها حيوية التجوال في الديوان كدال أساسي على مستوى الزمنين معا، بينما يومض زمن الذات بينهما، يأخذ منهما، يفترق ويوحد بين تناقضاتهما، ولأنه زمن حميم وخاص واستثنائي فإنه يلوح كجوهرة كامنة في رحم الشعر... «لم يدرجها تاجر الخردة في قائمته أبدا- ولم ترد على ألسنة الآلهة- ولا مقابل لها، في السلم الموسيقي، أو فاتورة الألوان». إنها إذن مكيدة الشعر، يكابدها الشاعر نفسيا وجماليا على شتى الأزمنة والأمكنة، جاعلا من ديوانه الشيق طقسا شعريا للاحتفاء بها.

08 أكتوبر, 2018 07:48:02 صباحا
0