تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
برهان شاوي: الانتقال من الشعر إلى الرواية أهم ما في تجربتي الأدبية

برهان شاوي كاتب ألماني من أصل عراقي من مواليد الكوت- جنوب بغداد 1955، ويعد من أبرز الروائيين على الساحة الألمانية بعد تجربة شعرية استمرت أربعين عاماً. يكتب بالعربية والكردية والألمانية والروسية، لكنه يفكر بالعربية. يصطحب شاوي القارئ على جسر يصل الشرق بالغرب، وينقله بسلاسة بين أزمنة وحقب عديدة. لكن يظل حنينه وحبه الأول إلى بغداد. وهو يؤمن بأن الحرية والديموقراطية هي أولى الخطوات التي تحتاجها شعوبنا العربية لبناء مستقبلها. ويشغل حالياً منصب عميد كلية الإعلام والسينما في جامعة ابن رشد في هولندا. وهو مولع بكتابة الرواية السينمائية إذ يرى أن الصورة في الفيلم تحقق بالنسبة للمخرج السينمائي ما تحققه المفردة اللغوية للكاتب. وما يكتب بشكل سينمائي ما هو إلا ترجمات لمخيلة خصبة وإبداعات ذاتية. وقد حصل على ماجستير في الفنون الجميلة من معهد السينما في موسكو عام 1985، كما حصل على الدكتوراه في التاريخ الحديث من جامعة موسكو عام 2010. أصدر شاوي سبع مجموعات شعرية منها: «مراثي الطوطم»، «تراب الشمس»، «شموع للسيدة السومرية»، «رماد القمر».


وأصدر إحدى عشرة رواية منها: «الجحيم المقدس، «مشرحة بغداد»، «متاهة آدم». كما ترجم عن الألمانية: «تاريخ الحبشة... دراسة أنثروبولوجية»، «موسوعة الفضاء»، «الله والعلم»، وترجم عن الروسية:»لغة الفن التشكيلي»، «قصائد يوسف برودوسكي»، «قصائد لأخماتوفا».

«&» التقته فكان هذا الحوار حول تجربته ومواضيع أخرى.

• لك روايات عدة يبدأ عنوان كل منها بلفظة «متاهة»... برأيك كيف يمكن أن يخرج الإنسان العربي من متاهاته؟

- لا أدري كيف! المتاهات لا تقتصر على الإنسان في العالم العربي؛ بل هي وجودية إنسانية. فكل إنسان من لحظة ولادته وحتى آخر لحظة في هذه الرحلة يعيش في متاهة كونية ووجودية لا يجد تفاسير لها مهما بلغ من العلم والمعرفة، إلا إذا اتكأنا على الإيمان. والإيمان لا علاقة له بالحقائق العقلية لأنه معطى خارج العقل. فعقل جبار مثل عقل إيمانويل كانت؛ بكل صفائه المنطقي وتعاليه، وصل إلى اللاأدرية وهو يتأمل الكون والحياة. اكتشف المتاهة الكونية والوجودية التي نحن فيها فلاذ بالإيمان.

• ما هي أكثر متاهة لا يمكن التعايش معها؟

- متاهة المقدس. هي متاهة لا يمكن التعايش معها إلا بأنسنة المقدس وقراءته تاريخياً. فالمقدس خارج التاريخ والجغرافيا وفوق الزمان والحال والأحوال. وهذا بحد ذاته متاهة. هناك أيضاً الاستبداد السياسي الذي فكَّك مجتمعات شرق أوسطية عدة. أما على المستوى الفردي، فالكبت الجنسي صار يتفجَّر عبر السلوك الديني المتطرف وابتذال شعار الحرية الفردية عند النخبة العلمانية.

• يحضر الحب كثيراً في رواياتك... كيف يمكن أن يكون الحب دافعاً وملهماً لمقاومة الاستبداد والطغيان؟

- الحب في أعمالي يتكئ على فهمي للنفس البشرية وفق مناهج التحليل المابعد فرويدية. طروحات غوستاف يونغ، فيلهلم رايش، هربرت ماركوز، وإريش فروم وغيرهم. إن ارتباط الحب بغريزة الحياة ربما يكون هو الدافع للوقوف بوجه البشاعة والقبح في هذا العالم.

• إلى أي حد يمكننا الحديث عن «قوة الكراهية» في العراق؟

- الكراهية تتفجر في العراق أو المنطقة من بركان الاختلافات الإثنية والقومية. أبشع أشكال الكراهية والحقد يأتي من الاختلاف الطائفي ثم القومي. في العراق تمَّ تفكيك المجتمع إلى طوائف وقوميات وإثنيات. لكن الأبرز هو الانقسام الاجتماعي الشيعي – السني الذي لا يمكن ردمه وتجاوزه إلا بعد عقود من الزمان وتحت قيادة سلطات أخرى غير التي كانت سبباً فيه ومنتفعة من وجوده.

• أصدرت سبع مجموعات شعرية ثم توقفت... هل مات الشعر؟ أم أن الرواية أكثر تعبيراً عن الواقع المأزوم؟

- لا. الشعر لم يمت ولن يموت. لكن بالنسبة لي اختلفت طريقتي في التعامل مع اللغة لتجسيد رؤيتي وأفكاري ومعاناتي وكوابيسي. ففي المرحلة التي كنت أكتب فيها شعراً، وتمتد لأكثر من أربعين عاماً، كنتُ أمتثل لقول النفري: «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة». لكن هذا الأمر لم يعد كافياً لاحتواء أسئلتي وشكوكي وكوابيسي. وهكذا وجدت في السرد أسلوباً يختلف عن ميكانزم التعامل مع اللغة كما في الشعر. ففي السرد كلما اتسعت الرؤية تفجّرت اللغة وفاض الكلام.

• ألم يحدث أن تورطت في تحميل إحدى الشخصيات بقناعاتك، أو أفكارك المخبأة؟

- ربما أكون غير صادق إذا قلت إنني كنت موضوعياً مع شخصياتي. لكن من الصعب جداً أن تجديني في شخصية ما. أنا أمنح أفكاري وتجاربي لشخصياتي. أحياناً تكون شخصية امرأة ما هي التي تعبر عن بعض أفكاري وأحياناً يكون رجلاً لكن هذا نادر جداً. شخصياتي قلقة ومهمومة ومثقفة إلى حد ما وتقول أشياء مهمة تعبر عن قلقها وتشظيها. لكن من الصعب أن تقولي إن هذه الشخصية أو تلك هي أنا.

• هناك لكل مبدع محطات انتقال من مرحلة إلى أخرى، فماذا عنك؟

- الانتقال من الشعر إلى السرد الروائي هو أهم انتقال في تجربتي الأدبية. توجهت إلى الرواية بروح الشاعر. في التجربة الشعرية هناك مرحلة كتابة القصيدة المموسقة؛ قصيدة التفعلية. وهناك (التجربة السومرية) وهي أناشيدي في كتبي الأربعة: «ضوء أسود»، «تراب الشمس»، «رماد القمر»، و»شموع للسيدة السومرية»؛ التي يمكن اعتبارها تجربة واحدة؛ اتكأت فيها على طبيعة الإنشاد والنداء في النص السومري والنصوص القديمة عموماً. في تجربتي الروائية؛ المتاهات هي مشروعي، واعتبرها مرحلة تحول كبرى.

• تتسم كتاباتك بالواقعية المرتكزة على التفاصيل، ذات الملمح السينمائي في التصوير. فيها شيء من الحيوية المستندة أحياناً على الفنتازيا... كيف ترى العلاقة بين الأدب والسينما؟

- أنا درست السينما في معهد «فكيك» في موسكو، واستخدمت في سردي تقنيات اللغة السينمائية من مونتاج وتطابق الزمان والمكان والانتقال بينهما والتركيز على الحركة وكل مقومات كتابة السيناريو. لذا وضعتُ عنواناً تحتيا على غلاف روايتي الأولى «الجحيم المقدس» باعتبارها (رواية سينمائية). لا أريد الإدعاء لكنني أول من استخدم هذا المصطلح.

علاقة الأدب بالسينما علاقة وثيقة عمودها اعتماد الرواية والفيلم على عنصر «السرد». لكن اللغة مختلفة، ففي الرواية بنية الخطاب هي «الكلمة»، وفي السينما بنية الخطاب هي «الصورة» وشتان بينهما. هناك قواسم مشتركة لكن الاختلاف جوهري أيضاً. اختلاف في بنية اللغة التعبيرية لكل منهما.

• كتاباتك مترعة بالأجواء والمناخات العربية... هل كلما بعدت عن الوطن ازددت اقتراباً منه؟

- ليس تماماً. الجغرافيا لديَّ متنوعة؛ تبدأ من بغداد ثم تنتقل إلى دمشق ثم إلى فلورنسا ومنها إلى باريس ثم لندن وجزيرة إسكيا والمغرب وهكذا. والحقيقة أنا لست مهموماً بجغرافيا معينة وإنما بالإنسان واغترابه وبحثه عن معنى وجوده في أي جغرافيا يفرضها منطق السرد الروائي لأحداث المتاهات.

• هل الانقلابات العسكرية والسياسات المتخبطة عطَّلت استكمال المشروع الثقافي للمبدع العراقي؟

- هذا سؤال له بعد تاريخي وسوسيولوجي. هو أيضاً سؤال عام؛ لأن الإجابة عنه ستكون غير متجانسة. فنحن مثلاً رأينا انتعاشاً في الثقافة العراقية بعد ثورة العام 1958 لكنه تعطَّل بعد إنقلاب شباط العام 1963. وكان لحرب حزيران 1967 تأثير كبير في الأدب العراقي والعربي عموماً. وكذا الأمر في السبعينات حيث شهد العراق استقراراً سياسياً نسبياً؛ إلى أن ظهر ما يسمى بأدب الحرب وأدب قادسية صدام الذي استمر لأكثر من عقدين. وبعد الزلزال العراقي وسقوط النظام واحتلال العراق صار هناك انفجار أدبي وإعلامي تجلى بهذا الكم الكبير من الأعمال الروائية.

• كيف يمكن للأدب أن ينقذ التاريخ من التزوير في ظل الظروف السياسية المتغيرة؟

- الأدب تاريخ معرفي وإنساني وسوسيولوجي. الأدب ليس تاريخاً وثائقياً. ربما هناك رواية تاريخية وثائقية تتخذ من شخصية تاريخية أو أحداثاً تاريخية موضوعاً لها. وقد تتلاعب بتسلسل الأحداث التاريخية فتغير فيها كما في روايات جورجي زيدان. لكن إلى أي حد يمكننا اعتبار روايات جورجي زيدان تاريخاً؟ إذن تأريخية النص الأدبي لا علاقة لها بوقائع محددة قد تتناولها الرواية، فقد تكون أكثر صدقية من كتب التاريخ مثل رواية «الحرب والسلام» لليف تولستوي. لكن ألا تعتبر رواية «الأحمر والأسود»، أو «صومعة بارما» لستندال؛ تأريخاً للثورة الفرنسية؟ وكذا الأمر مع روايات بلزاك. ولا نذهب بعيداً. ألا تعتبر ثلاثية نجيب محفوظ أهم من التاريخ الوثائقي المكتوب لأحداث مصر في بدايات القرن العشرين؟ وينطبق السؤال نفسه على روايتيه «الكرنك» و»ثرثرة فوق النيل». الأدب هو بحد ذاته تاريخ. تاريخ لغوي وإنساني واجتماعي.

• ألقيت محاضرة خلال رحلتك الأخيرة في مقر اتحاد الكتاب الأكراد باللغة العربية، لماذا العربية وليست الكردية؟

- ببساطة لأني ولدت في الكوت وهي مدينة جنوب بغداد. ولغتي التي أكتب بها وأفكر بها هي اللغة العربية.

• تترجم عن الألمانية والروسية كما تُرجمت أعمالك إلى لغات عدة وهذا يدفعنا إلى التوقف عند برهان شاوي المُترجم والمترجَم له... ما الذي يعنيه لك هذا الانتقال بين اللغات؟

- التنوع اللغوي يعني تعدد التجارب والانفتاح على الثقافات الإنسانية. التعدد اللغوي علَّمني التواضع. فكلما أتوغل في الثقافات الأخرى من خلال لغتها أشعر بأننا نعيش شيزوفرينيا حضارية؛ إذ نعتقد أنفسنا أصل العالم وأصل الكون وخير أمة أخرجت للناس. الحضارة الفرعونية تمتد لسبعة إلى تسعة آلاف سنة قبل الميلاد، وكذا الأمر في الثقافة الهندية التي تمتد لعشرة إلى خمسة عشر ألف سنة قبل الميلاد، والأمر نفسه في الحضارة الصينية. بينما نحن نعتقد بأن الكون استقام وجلس على قوائمه منذ 1400 سنة فقط. التعدد اللغوي نعمة.

12 ديسمبر, 2018 08:52:56 صباحا
0