تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
سلسلة "أرض البشر" أرقى العلوم الإنسانية في طبعات شعبية

حدث ذلك في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، حين أجرى كاتب هذه السطور حواراً طويلاً مع العالم الفرنسي من أصل اسكتلندي، جان مالوري، ربما لمناسبة إصداره ترجمة فرنسية لكتاب توفيق الحكيم "يوميات نائب في الأرياف" في سلسلة "أرض البشر" التي يصدرها عن منشورات "بلون" الباريسية. يومها قال مالوري إن من بين الأمور التي لم يحققها في حياته، دراسة البيئة السعودية لمعرفة كيف تمكن الشعب هناك من العيش والبقاء قبل فورة النفط. نُشر الحوار يومها وفي اليوم التالي لنشره، تلقينا هاتفاً من السفارة السعودية في باريس يسأل عن كيفية الاتصال بالعالم الفرنسي، فأعطيناهم أرقامه ولا ندري ما الذي حدث بعد ذلك.

المهم أن ذلك كان أول احتكاك رسمي بين مؤسس سلسلة "أرض البشر" وهذه المنطقة من العالم، رغم أنه كان أصدر في سلسلته عدداً لا بأس به من كتب تتعلق بالمنطقة، منها كتب لولفريد تيسيغير، وكتاب توفيق الحكيم آنف الذكر، وكتاب عن المهاجرين اللبنانيين في الأرجنتين. وكانت تلك السلسلة ولا تزال تعد واحدة من أشهر السلاسل الفكرية في أوروبا.

_L_Jean+Malaurie.jpg

جان مالوري على أبواب عامه المئوي (موقع le parisien)

مغامرات البشر في كتب ثمينة

إذا نحينا عالِم الأناسة (الأنثروبولوجيا) الفرنسي الكبير كلود ليفي ستروس، جانباً، باعتباره حالة استثنائية وذا مكانة عالمية تتجاوز حدود العالم الأكاديمي في بلده، يمكننا أن ننظر إلى جان مالوري، على أنه الأكبر والأهم بين علماء الأناسة "الفرنسيين"، وربما الأوروبيين. فمن مركزه الجامعي في فرنسا، إلى كونه مستشاراً في الأونيسكو ولدى عديد من الحكومات، من بينها الحكومة الروسية التي تلجأ إليه لدراسة شعوبها المنتمية إلى الإسكيمو، إلى كتبه العديدة المتعلق معظمها بالقارة المتجمدة الشمالية وبجزيرة غرونلاند وبالإسكيمو بشكل عام، يعيش جان مالوري في شقته الأنيقة وسط باريس، قمة مجد بناه على مدى عقود طويلة من السنوات، وبفضل نحو ثلاثين حملة استكشافية قام بها في القارة الثلجية، وكذلك بفضل بدايات متميزة في الصحراء الجزائرية، ولكن بخاصة بفضل سلسلة كتبه الأشهر في عالم النشر الفرنسي، التي أصدرت منذ أواسط الخمسينيات وحتى اليوم أكثر من مئة عنوان تتناول حياة الشعوب ومغامرات البشر ومعتقداتهم.

هذه السلسلة التي أسسها جان مالوري ولا يزال يشرف عليها، رغم دنوه الحثيث من عامه المئة (هو من مواليد العام 1922) كان الكتاب الأول فيها مؤلفه هو نفسه الأساسي، "آخر ملوك تولا" الذي صدر حتى اليوم في نحو خمس عشرة طبعة وما يتجاوز العشرين ترجمة، ولا يزال مالوري، مؤلفه وصاحب المغامرة كلها، يضيف إليه صفحات وفصولاً في كل طبعة جديدة. هذا الكتاب الذي يتناول عالم حياة الإسكيمو ومآسيهم في مواجهة الحضارة الحديثة، التي "هجمت" عليهم في أربعينيات القرن العشرين، على شكل شركات للتنقيب عن النفط، يمكن اعتباره من أوائل الكتب التي أسست لعلم البيئة والدفاع عن الطبيعة والحياة ضد "همجية الحضارة الحديثة" حسب تعبير مالوري نفسه.

Les-derniers-rois.jpg

من عوالم كتاب مالوري المؤسس في بلاد الإسكيمو (موقع الكتاب)

حصتنا الطيبة

في نفس هذه السلسلة أصدر مالوري، كما أشرنا، عدداً من الكتب التي تتناول العالمين العربي والإسلامي، ومن أبرزها كتاب جان دوفينيو عن قرية في الجنوب التونسي، وكتاب التركي محمود مقال عن مغامرات أستاذ ريفي في إحدى قرى الأناضول، وكتابا الرحالة الإنجليزي الشهير ويلفريد تيسيغر عن الربع الخالي وعن أهوار العراق، وكتاب ليفي ستروس "مدارات حزينة"، وبخاصة كتاب "يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم، الذي أصدر مالوري ترجمته الفرنسية في السبعينيات، ودعا للمناسبة توفيق الحكيم إلى فرنسا حيث احتفل به احتفالاً كبيراً. وكان من الطبيعي لنا، يوم التقينا مالوري في شقته الباريسية العريقة المليئة بذكريات رحلاته إلى بلاد الإسكيمو وإلى أقاصي سيبيريا، أن يكون سؤالنا الأول له عن توفيق الحكيم، فابتسم ومد نحونا صورة تجمعه بكاتبنا العربي الكبير وأجاب قائلاً، "صحيح أن "يوميات نائب في الأرياف" لم يكن أنجح كتاب في السلسلة، لكنه كان الكتاب الذي أثار أكبر قدر من فضول القراء الفرنسيين، وأعتقد أن وراء ذلك الاهتمام بالمجتمع المصري الحديث منذ ذلك الحين. قبل ذلك، كان الفرنسيون مهتمين بمصر الفرعونية. وأنا شخصياً طلعت من مغامرة هذا الكتاب الفذ بصداقة مع توفيق الحكيم، الذي أعتبره من أكبر المؤلفين حكمة ورصانة وثقافة. خلال لقائنا بهرني، في الحقيقة، بحديثه المتشعب عن الفكر وعن الفنون واحترمت حبه العميق لشعبه واحترامه لدينه ومعتقدات الناس وانفتاحه على أديان الآخرين. وأعتقد أنني لم أكن الوحيد الذي فوجئ بغزارة علم توفيق الحكيم وطيبته، بل أذكر أن كلود ليفي ستروس الذي تعرف إليه في مكتبي، لم يتوقف عن إطرائه، وقد حزن حزناً شديداً حين علم بوفاته بعد ذلك بسنوات. قبل توفيق الحكيم كنت، في الحقيقة، قد تعرفت على جزء من المجتمعات العربية في الجزائر، لكني بعد اطلاعي على كتاب الحكيم وكذلك على كتب صديقي ويلفريد تيسيغير بتّ شديد الفضول لمعرفة المزيد عن مجتمعات المشرق العربي".

tropiques.jpg

غلاف أحد أهم  كتب السلسلة في طبعته الشعبية "مدارات حزينة" (موقع السلسلة)​​​​​​​

كل كتاب كنز في مجاله

قد تكون سلسلة "أرض البشر" متباطئة بعض الشيء اليوم في وتيرة إصداراتها، ربما بسبب الأزمة العامة للكتاب، وربما لانحصار هذا النوع من الدراسات الإنسانوية داخل العمل الجامعي، غير أن ما أصدرته حتى الآن يمكن اعتباره ثروة فكرية إضافة إلى كونه حين بدأ الصدور ثورة كبيرة في عالم النشر. بل مغامرة حقيقية أيضاً. ففي سنوات الخمسين لم يكن ثمة اهتمام شعبيّ واسع بالكتب الأنثروبولوجية يبرر الإقدام على خلق سلسلة كتب تريد لنفسها أن تكون ذات توزيع عريض. لكن "المعجزة الصغيرة" حدثت، واليوم لا تكتفي كتب السلسلة بمكانتها المعترف بها عالمياً كمرجعية في مواضيعها، بل إن عدداً كبيراً من كتبها، وربما أكثر من الثلثين، يصدر بصورة منتظمة في طبعات جيب زهيدة السعر توضع في متناول كل طبقات القراء، لا سيما أولئك الذين لا يمكنهم شراء نسخ من الطبعات الأولى الأنيقة المجلدة  التي نفد معظمها على أية حال.

لقد ذكرنا أعلاه عدداً من الكتب التي صدرت عن السلسلة انطلاقاً من كونها تتعلق بالعالم العربي أو المناطق الإسلامية، غير أن تلك الكتب لا تشكل سوى جزء يسير من "الكاتالوغ" الغني الذي يسرد كتب السلسلة ويعرّف بها، علماً بأن مالوري أصدر قبل سنوات كتاباً جامعاً حول السلسلة يضم الصفحات الأولى لنحو خمسين كتاباً من كتبها الرئيسة، التي لا بد من الإشارة إلى أن عدداً لا بأس به منها كان أثار قدراً كبيراً من الضجة حين صدوره. ولنذكر هنا في هذا السياق "مدارات حزينة" لكلود ليفي ستروس و"أربعة شموس" لجاك سوستيل، و"مدونات هنود غواياكي" لبيار كلاست، و"شرايين أميركا اللاتينية المفتوحة" لإدواردو غاليانو، و"من أجل أفريفيا، إني اتهم" لرينيه دومون، و"فلنثن الآن على رجال كبار" لجيمس آيجي ووالكر إيفنز، و"الصيف الإغريقي" لجاك لوغوف، و"كراسات تحقيقات" لإميل زولا...

 

المصدر:وكالات

02 سبتمبر, 2020 12:53:40 مساء
0