تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
المرآة.. الساكن المدهش

ليلى جاسر سلامة
حدث قبل عشرين عامًا أن التقيتُ بطفلٍ في مكان ما على هذه الأرض. كانت تلك مغامرتي الأولى عندما رحلتُ لأُعلّم في قرية نائية لم ير أهلها في حياتهم أبعد من الجبال التي تحتضن قريتهم.
عشتُ مأخوذةً بالمغامرات والتوق إلى السفر والعيش بين الخطر في عالمٍ مهزوز هربًا من إثم، ذنب، أوربما فَقْد أو جرح نازف. وكأي شابّة لم تكن تلك المغامرة التي حبوت لأجلها وفكّرت أنه ليس ثمّة مغامرة.. لا ماء ولا كهرباء أو حياة مدنية.. وأقرب مكان للترفيه يبعد مسافة ثلاثة أيام في السيارة. لم يكن هنالك سوى مجتمع صغير يجهل شكل العالم الخارجي، ينامون قبل أن تخيط العتمة فتق السماء، لا شيء سوى النجوم في السماء، ونهر عذب في الأسفل وخراف تتجول بحُرّية أكثر من المارّين في شوارع المدن المكتظة، وكان هنالك بئر ماء فارغة وذلك الطفل الصامت.
العمر دهشة.. الحياة مغلّفة بالدهشة فليس كل ساكن خالٍ من الدهشة! أذكر ذلك الطفل، شاهد، البالغ آنذاك السادسة من عمره، أذكرهُ أكثر من أي شيء آخر. ذلك الطفل الذي جعلني أحسُّ بزلزال يضرب صدري وأنقذ حياتي من الخطر. علمتُ من زملائه أنّه لا يتكلم! بذلت ما بوسعي لأجعله ينطق. لا جرم أنّ لكل امرئ من اسمه نصيب، شاهد اسم لا يتكرر. لم أعرف ماذا ينبغي علي فعله، ولم يكن لدي أي فكرة فيما إذا كان يعاني من مشكلة صحية؛ إذ لم يأتِ أحد من أهله لمقابلتي مطلقًا، ولذا كنت على مقربة من نسيان أمره وتجاهله تمامًا وتملّكني شعور اليأس والإحباط. في يوم مشمس أخذت أتمشى باتجاه الوادي لأملأ دلو الماء من مياه النهر وفي الطريق وجدت مرآة كبيرة قديمة فجعلت أنظر إلى وجهي وملامحي، تأملتُ الظل المغترب المجنّح تحيط عينيه عزلة مخملية، مسحت الكحل السائح، راحة يدي مرّت على السمرة الأخّاذة .. دققت النظر في الخدوش الصدئة وفكّرت أني سأروضها، ثمّ حملتُ المرآة وعبأتُ نصف دلو ماء. اصطحبت المرآة ..اصطحبتُ انعكاسي المشوّش إلى غرفتي الطينية ذات السقف المنخفض، وفي صباح اليوم التالي حملتُ المرآة معي إلى المدرسة. وضعت المرآة المجلوة في المنتصف، تجمّع الأولاد حولها وأخبرتهم أن يصطفّوا في طابور..، قلتُ لهم أن يقفوا أمام المرآة بالدور ويرددوا: «أنا بطل خارق.. أستطيع أن أفعل أي شيء!». مرّت ضحكاتهم واحدًا تلو الآخر تمسح المرآة.. يخاطبون انعكاسهم بلفتة سريعة قانعة.. يرون سعادتهم بصفاء وروح تألفها جبالهم الخضراء، ولكنّ شاهد ظلّ جالسًا لا يتحرّك مثل صمته.. ذهبت إليه ..أمسكت يده، وضعت شالي على كتفيه ليبدو كسوبرمان وقلتُ له أنظر إلى المرآة، همهم شاهد.. زمَّ شفتيه.. اعتصر الدم في شرايينه حتى كادت تتفتق.. صمت الأولاد إلا أنّ أيديهم كانت تلوح كأشرعة في عاصفة.. وملامح وجوههم تلوح بالخيبة.. لم أفهم ما يجري.. لم أدرك ما يودُّون قوله بإلحاح، تجاهلت حركاتهم الصبيانية ثمّ جعلت أحاول وألحُّ أن يخرج شاهد من صمته.. أن يشعر بالسعادة إذ يتسيّد حاسة النطق.. ويغرّد كبقية الأطفال.. قبض بكلتا يديه على الشال، أغمض عينيه.. حبس النور في حدقتيه.. التقط هواء الجبال في رئتيه وأعتقته حنجرته لمّا صاح من بين أضلعه: لم يكن ذلك انعكاسي في البئر.. كان ذلك أخي يغرق بصمت.

 

 

 

المصدر:الدستور

03 سبتمبر, 2020 02:11:50 مساء
0