تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
"انقطاعات الموت" .. حين يكون الموت شافيا

"انقطاعات الموت" .. حين يكون الموت شافيا

 

 

تبدأ وتنتهي الرواية بالعبارة نفسها، "في اليوم التالي لم يمت أحد"، وبين البداية والنهاية وقائع وأحداث امتدت تفاصيلها في أكثر من 200 صفحة، حيث يأخذك العبقري البرتغالي جوزيه ساراماجو في رائعته "انقطاعات الموت" إلى اللامكان في اللازمان، ليحدثك عن اللامعقول واللاممكن بفلسفته وسخريته الخاصة. في هذه الرواية، سقطت عناصر البناء الروائي "المكان والزمان والشخصيات" أمام قوة السرد وفرادة الموضوع واستمرار المفارقات.
تسعى الرواية جاهدة إلى توضيح أهمية الموت. نعم، ولن نبالغ في القول، إن ساراماجو يقدم ملحمة في مديح الموت. ماذا سيحدث إذا اختفى الموت، ماذا لو توقف عن قلتنا، ما معنى الموت أصلا، ولماذا نموت، وأي حياة حين يحقق الإنسان حلم الخلود؟ أسئلة فلسفية موجعة لا حصر لها، تتشابك داخل أحداث الرواية، لتكشف عن مفارقات تعبث بعقل القارئ، حتى يقتنع مستسلما بأن الموت ضرورة، وربما عبء البقاء أثقل من الخوف من الموت نفسه.
تدور أحداث الرواية داخل دولة حديثة، دون أي تحديد إضافي حول الاسم أو الموقع أو الحدود.. لكنها حتما دولة أوروبية، بالاستناد إلى تفاصيل نظام الحكم، ملكية برلمانية وحكومة تدبر الشأن العام، وملامح المجتمع الذي شكل مسرحا لمجريات وتفاصيل الأحداث في الرواية.

حياة بلا موت

تدخل الرواية في قلب الأزمة التي بدت مختلفة وغريبة على الجميع، حيث تبدأ الأحداث في يوم من أغرب الأيام التي مرت على البشرية قاطبة، ففي ذلك اليوم لم يمت أحد، 24 ساعة دون أن تحدث حالة وفاة واحدة، بمرض أو سقطة قاتلة أو حتى حالة انتحار، واستمر الوضع لعدة أيام متتالية، وكأن الموت اختفى من البلاد، وترك أرواح المتعبين والتعساء معلقة، لا تتمنى إلا أن يعود الموت ويخلصها من عذابها.
بدأت الحكاية مع "اختفاء الموت" لتتوالي دوائر الأحداث في الاتساع، فالمستشفيات بدأت تكتظ بالمرضى، بعد أن توقفت العملية الدوارة المعهودة، لمرضى يشفون ومرضى يموتون، ما أدى إلى ازدياد أعداد المرضى ممن يفترض أن تودي الأمراض والحوادث الخطيرة بحياتهم، لتضطر المصحات إلى وضع مرضاها في الممرات، بعد نفاد الأسرّة، حينها تدخلت الحكومة بأوامر تفرض نقل هؤلاء المرضى إلى أسرهم، بعد التأكد من انعدام الأمل في تحسنهم.
امتدت الأزمة أشهرا، فظهرت مشكلة المسنين، فقد امتلأت دور العجزة عن آخرها، حتى كادت تفيض بقاطنيها، تفاعلا مع هذا الوضع، قررت الحكومة، حل المشكلة عن طريق إقامة منشآت كبيرة، أشبه ما تكون بمقابر الأحياء، يحظى فيها هؤلاء بالرعاية اللازمة، فلا أحد يدري إلى متى سيستمر هذا الوضع، فأيامهم بلا نهاية، بعد توقف الموت عن زيارة الناس.
بدأت رحلة البحث عن الموت مع عائلة فقيرة، فيها مريضان "مسن وطفل"، اهتدت إلى فكرة مغادرة حدود الدولة، كي تمنحها فرصة معانقة الموت، لكن انتشار الخبر في المجتمع، أحدث اضطرابا، حيث شرعت العائلات في نقل من تعبوا من الحياة عبر المنافذ الحدودية، ليدفنوا في أقرب حدود لدولة أخرى بات فيها الموت متاحا.
أثار ذلك امتعاض الدول المجاورة، فأعلن جميعها معارضة انتهاك أراضيه بهذا الشكل، فما كان من الحكومة إلا أن استجابت لتلك الدول، على الرغم من أنها لم تكن تنظر بعين السوء لما يحدث، فنشرت القوات على الحدود، لتمنع مرور الجثث إلى الدول المجاورة. فالبلاد لم تكن في حالة تسمح لها بالدخول في حرب مع الجيران. مع مرور الأيام، ظهرت مؤسسة إجرامية تريد نقل الراغبين في الموت لينالوا حقهم الطبيعي، نظير مقابل مادي مغر جدا.

اقتصاد الموت

خلف إضراب الموت عن العمل إضطرابات في عالم الأعمال، فعديد من الأنشطة الصناعية والتجارية تضرر اقتصادها من توقف الموت، وصارت مهددة، ما دفع أصحابها إلى الاحتجاج على الحكومة، في مقدمتها أصحاب الشركات المسؤولة عن الأعمال الجنائزية، باعتبارها من أهم الأعمال التجارية الموجودة في الدولة التي تدر أرباحا مهولة، ما يعني أن توقفها سيشكل كارثة اجتماعية غير مسبوقة.
تعرضت شركات التأمين بدورها للإفلاس، بعدما سقطت فكرة التأمين عن الذاتي والأسري، إذ باتت بلا معنى ما دام الإنسان مخلدا، ما دفع المؤمنين إلى المطالبة باسترداد أموالهم. نظام المعاشات لم يكن أحسن حالا من قطاع التأمينات، فكبار السن لن يموتوا، ما يعني استمرار استحقاق معاشهم إلى أجل غير مسمى، وهي في جزء منها مجرد استقطاع من رواتب العمال النشيطين.
حتى الكنيسة رفضت أمر إعلان السلطة الحكومية خبر توقف الموت، فذلك بالنسبة إلى سلطة الكنسية أشبه بكارثة مدوية، فإقرار رئيس الوزراء في بيان رمسي أمام وسائل الإعلام، في نظر الكاردينال، يشكل خروجا سافرا عن تبعية العامة لتعاليم الكنيسة، ما يؤدي إلى كارثة كبيرة.
تمتد آثار اختفاء الموت لتهدد ركائز الحياة في المجتمع داخل الدولة، فأي قيمة ستبقى لدى القوانين والتشريعات المتعلقة بما بعد الموت، الميراث بالخصوص، ما دام الجميع مخلدا، وأي معني سيكون لقواعد القتل ما دام تحققه، والحالة هذه، متعذرا بسبب غياب الموت، يدخل هذا الأمر جزءا كبيرا من مرفق العدالة داخل الدولة في حالة شلل شبه تام.

رواية بعيون المستقبل

سيعود الموت إلى ربوع المملكة، ويختار أن يتخذ لنفسه لونا بنفسجيا.. وما إلى ذلك من أحداث، نترك مهمة اكتشافها للقارئ في الرواية الفكرية، خاصة، أنها نجحت تفاصيلها في التقاطع غير ما مرة مع جائحة كورونا، التي يعيش العالم على وقعها بعد مضي 15 عاما على تأليف الرواية.
استطاع ساراماجو بأسلوبه الساخر فضح جوانب من النظام العالمي القائم، سياسيا واقتصاديا وإعلاميا، فمقاطعة الموت لهذه الدولة كانت سببا لإغلاق الحدود في وجه رعاياها، على غرار ما حدث في أوروبا مع جائحة كورونا، حيث حاصرت دول الاتحاد الأوروبي إيطاليا، كما قررت الولايات المتحدة الأمريكية صد الأبواب في وجه مواطني دول الاتحاد الأوروبي.
عودة الموت باللون البنفسجي جعلت أصحاب وكالات الجنائز سعداء لما سيجنونه من أرباح من الأعداد الكبيرة للوفيات. تكرر المشهد ذاته أمام أعيننا، ولأكثر من مرة، في البدايات الأولى لفيروس كورونا، فقد استغل عديد من القطاعات الصناعية والتجارية الظرفية، والحاجة الملحة للأفراد والجماعات، لمراكمة ثروات ومغانم غير أخلاقية.
ألا تقترب صورة اكتظاظ المستشفيات في الدولة، بعد توقف الموت عن تحفيف الضغط عنها، من صور المصابين بفيروس كورونا الممددين على الأرض، وفي الممرات والحدائق في المصحات والمشافي في عديد من المدن الإيطالية، عندما تحولت هذه الأخيرة إلى بؤرة للوباء في القارة العجوز.
تعد "انقطاعات الموت" رواية فلسفية موجعة، بما تثيره من أسئلة، لدرجة يجد القارئ نفسه أحيانا في حالة تماه مع الكاتب، فيغدو الموت أمنية "إذا لم نمت فلا مستقبل لنا"، وفي الرواية أيضا "لقد صرنا نتحسر على نعمة الموت". هنا نذكر قول الشاعر العربي أبو الطيب المتنبي "كفى بك داء أن ترى الموت شافيا.. وحسب المنايا أن يكن أمانيا".

 

 

 

المصدر: الأقتصادية 

03 ديسمبر, 2020 04:10:45 مساء
0