تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
قراءة في «الخط الأبيض من الليل»

تسنيم الحبيب


يُدهشني – وفي كل قراءة لخالد النصرالله – تجدده الدائم وعبوره إلى مناطق جديدة في مساحة اشتغاله الأدبي، ولا أدري أَيُحسب للكاتب صوته المميز ونبرته الخاصة التي يتعرف عليه من خلالها قارئه في كل مرة فتكون أعماله بمنزلة بصمة خاصة تؤول إليه؛ أم يُحسب له ذلك التجرد من عمله السابق والانبثاق المختلف كليا في عمله الجديد.
حين قرأت زاجل تعرفت على صوت الروائي خالد النصرالله وقلت في نفسي آنذاك أن هذه الرواية بذرة طيبة، غير أني حين قرأت الدرك الأعلى أدركت أن صاحبها ناص مجدد بالفعل، يتقن الاشتغال على تطوير أدواته، لكني وبعد تعالقي مع قفلة «آخر الوصايا الصغيرة» بتقنيتها المختلفة ولغتها الموجهة.. تأكدت أني أمام كاتب متجدد ينبذ ذاتيته وينحاز دوما للعمل نفسه، ويمزّق قديمه ليلتم على نفسه، أما عمله الأخير «الخط الأبيض من الليل» فتلك حكاية أخرى!

 

 الحكمة البيضاء في سواد العتمة

 

تسرد الرواية حالة الصراع الدائرة بين الكاتب والرقيب، وللتخصيص قد نقدر أن نقول انها تصور المشكلة التي تحدث حين يحل طرف ثالث بين القارئ والكتاب، طرف يعيق عملية التواصل وينتحل صفة العين المسبقة التي تأكل من حرية التلقي. تبدأ الرواية بمشهد سردي سوداوي يهيئ المتلقي للأحداث اللاحقة ويمكنه من تخمين ما ستؤول إليه؛ على أن الكاتب يعيد تقديم مشهد البداية بنحو أكثر تفصيلا، وأعتقد أن تلك من التقنيات المتينة التي اشتغل عليها، إذ ساعدت على ترسيخ فكرة العمل وضم المتلقي في الأجواء، خصوصا أن التكرار قدم تعزيزا لفهم النص دون إثقاله.

ولم يكن عبثا أن العنوان مُيز بتضمين نقيضين، الخط الأبيض وهو فعل المقاومة والليل المعتم المعبر عن الفكر الظلامي والقمعي، ذلك أن النص عزز تضمين هذه الفكرة في العبارة التي استخدمها «الثوار» إن صح التعبير أو «المقاومون» كعلامة على الطمأنينة والثقة وهي عبارة «المعرفة في جوف الأرض وليست في عنق السماء» وحين تسير عجلة العمل نكتشف أن الحكمة كلها كانت في ذلك العمق من الأرض حيث ينحت بطل الرواية خلاصة روحه.

الشخصية المحورية أيضا قُدمت بهذا النحو المتناقض، فالبطل هو مدقق في جهة حكومية وقارئ نهم، يعايش صراعا دائما بين الشغف والتكليف، وتبدأ معاناته حين يتصادم مع نفسه عندما يُفاوض روائيا يعشق أعماله ليُغير في مسودة النص مفردة واحدة.  

 

بناء الشخصية

أعتقد أن كتابة الشخصية الفريدة من أصعب الأمور في الرواية، ذلك أن الكاتب يستطيع أن يقدم بأدواته الشخصيات المفهومة بنحو مقنع، لتصير قريبة من المتلقي، لكن الشخصية الفريدة تتطلب اشتغالا أكبر لتقنع القارئ بواقعيتها. شخصية المدقق من تلك الشخصيات الفريدة، قارئ نهم منذ الطفولة يمتد عطشه لقراءة لافتات المحال وحتى تفاصيل الفواتير، يقرر العمل في مكان يشببه مليء بالكتب وبفعل القراءة، يشترط على نفسه قراءة ألف كتاب قبل الاقتران بزوجة العمر. مثل هذه الشخصية قد تعرض الناص للسقوط في فخ المبالغة وعدم الإقناع، لكن خالد النصرالله قدمها بصورة تتناغم مع جو الرواية العام فصارت حقيقية ومفهومة تستجلب كل الأثر المطلوب لتفاعل القارئ معها.

فبناء الشخصية بهذا النحو مكّن سيرها في خطها السردي المناسب، وجعل من تطورها مقنعا بما يُناسب الأحداث اللاحقة، فنجد مثلا أن المدقق هو الأكثر تأثرا من قرارات الفكر الشمولي التي استفحلت في البلاد، وهو الذي يدمن أقراص تهدئة أعراض آلام المعدة من جراء كل خطر يهدد الكتب. ثم نجده من بعد حادثة المطر الشديد يصاب بكآبة عظمى تغير ملامح حياته فيُعاود استخراج «نقيضيه» من أعماقه، فيثور ويتعاون مع الروائي الفارس تارة ثم ينسحب لداخله ويرفض المشاركة في التظاهرات تارة أخرى، إلى أن يقرر أن يُغلّف ذاته بالعزلة مع الكتب.

ولكن أيهما يتضمن الآخر في عمل الخط الأبيض من الليل، هل يكتب المدقق على جدران العالم السفلي قصة الفتى القارئ الذي يلاحقه وصديقيه «عليوي والمهذب» شيطان المكتبات؟ أم يسرد الفتى القارئ قصة المدقق الذي غاب في نفق مظلم ولم يعرف إلى الآن مصيره كما آلاف الكتب المنتظرة على رف الإجازة أو الرفض.

الخط الأبيض من الليل رواية شديدة الذكاء.

 

اللغة المتناغمة

إن رواية محورها الكتب، وشخوصها مدقق وراوئي ومدير مطبعة وروائية جريئة حري بها أن تُكتب بهذه اللغة الفصيحة، المتينة، وحتى الحوارات جائت بالمستوى المطلوب منها. رغم ذلك لم تكن اللغة متكلفة، كانت سيالة بقدر متانتها و متناغمة مع الأحداث التي تتقدم بإيقاع خاص.

غلبت اللغة الوصفية في بعض الفصول، بحيث طغى الوصف على الحدث، وقُدمت بعض الفصول بإيقاع بطيء، لكني أجد أن هذه الخطوات مدروسة من قِبل الناص لخلق حالة متماهية مع ما يجول في ذهن الشخصية المحورية «المدقق».

 

 

الرواية.. والرواية الضمنية

 

الرواية الدستوبية تشكل جرس إنذار لما يمكن أن تؤول إليه الأمور في حال استمر التعسف تجاه قضية ما دون أن تتم معالجتها.

إنها طريقة الكاتب في الصراخ والقلق والإنذار والدعوة للالتفات. في الخط الأبيض من الليل مازج الكاتب بين الواقع والخيال بعدة وجوه وبأكثر من موضع في الرواية، إذ عرّض البلاد «المكان» إلى تطورات عديدة في تغير المنحنى البياني لسقف الحريات الفكرية، كان آخرها سيطرة الفكر الشمولي ومعاملة الكتب على أنها ممنوعات، وتطور الوضع إلى الملاحقات وسجن الكُتاب. وقدم الكاتب إسقاطات لافتة لتطوير الحبكة وابتكار أشياء النص مثل جهاز «صائدة الكلمات» على سبيل المثال أو مخاريط حرق الكتب، أو شخصية شيطان المكتبات. تلك الإسقاطات تم توزيعها بتناغم «متكامل» ضمن روايتين، الرواية والرواية الضمنية.

 

 

 

المصدر:صجيفة القبس

02 أغسطس, 2021 03:53:05 مساء
0