تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

ثلاثة لا يكلمهم الله

ثلاثة لا يكلمهم الله

الرواية الأولى

روى أبو ذر الغفاريّ -رضيَ الله عنه- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَومَ القِيامَةِ، ولا يَنْظُرُ إليهِم ولا يُزَكِّيهِمْ ولَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ قالَ: فَقَرَأَها رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ثَلاثَ مِرار، قالَ أبو ذَرٍّ: خابُوا وخَسِرُوا، مَن هُمْ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: المُسْبِلُ، والْمَنَّانُ، والْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بالحَلِفِ الكاذِبِ)، ففي الحديث الشّريف يُخبر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- صحابته عن ثلاث فئات يغضب عليهم الله -تعالى- يوم القيامة، ولا يكلّمهم ولا ينظر إليهم، وسينالون العذاب الأليم، ثمّ يُعيد رسول الله كلامه ثلاث مرّات، فيتلهّف الصّحابة لمعرفتهم، وكلّهم بانتظار واستماع لرسول الله، وقد جازاهم الله -تعالى- على أعمالهم فجعل جزاءهم من جنس عملهم.

 

يُخبر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في الصنف الأوّل من الحديث عن المُسبل، وهو من يطوِّل ثيابه من باب التكبّر والعجب والخيلاء، فيُشعر الفقراء بفقرهم وذلّتهم، ويرى نفسه أعلى منهم، فيجازيه الله بذلّته وخزيه، والإزار هو ما يُلبس على الوسط فيُغطّي الجزء الأسفل من الجسد، والإسبال قد يكون ممّا جرت العادة عليه، أو قد يكون بدافع إخفاء عيب، أو من غير قصد، أو من باب الكِبر والخيلاء.


والمراد من الحديث هو الصّنف الأخير، بدلالة ما رواه أبو هريرة عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ إلى مَن جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا)، وكذلك أبو بكر -رضي َ الله عنه- لمّا أخبر رسول الله عن إزاره الطّويل الذي يسترخي عليه لنحولة جسده، فردّ عليه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلَاءَ).

 

المنّان الذي يعطي الناس منّة

المنّان هو الذي يقدّم للنّاس شيئاً فيمنّ به عليهم، ممّا يبطل ثوابه، فيمنع فضل ربّه ورحمته عنه، ويُفسد أجر ما قدّمه، كما أنّ المنّ من الأسباب التي تُبطل الصّدقات، قال -تعالى-: (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ)، ويعود المنّ في أصله إلى البخل والكبر وجحود نعمة الله وفضله، فيرى المنّان ما بيده عظيماً يصعب عليه أن يقدّمه لغيره، وحين يقدّمه يشعر أنّه أنعم على من قدّم إليه، وقدّم إليه فضلاً كبيراً، فقد أخبر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أنّ الله -تعالى- توعّد المنّان بالعذاب الشّديد يوم القيامة.

 

المنفق سلعته بالحلف الكاذب

قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّـهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَـٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّـهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، فالذي يبيع سلعته بيمينٍ كاذبٍ ارتكب أربعة كبائر؛ اليمين الكاذب، والتّغرير بالمشتري، وأخذ المال من غير وجه حق، والاستخفاف بحق الله -تعالى-، فالمنفق سلعته بالحلف الكاذب يشبه السّارق، وإن اختلفت الوسائل والطّرق في الحصول عليها، أمّا الحلف الصّادق فمنهيّ عنه، لقول الله -تعالى-: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّـهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ)، وذلك لِما فيه من تقليل شأن الله -تعالى- وعظمته، وذلك ينافي توحيده.

 

الرواية الثانية

روى أبو هريرة -رضيَ الله عنه- عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَومَ القِيامَةِ ولا يُزَكِّيهِمْ، قالَ أبو مُعاوِيَةَ: ولا يَنْظُرُ إليهِم، ولَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ: شيخٌ زانٍ، ومَلِكٌ كَذّابٌ، وعائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ)، وكلام الله -تعالى- الذي لن يكلّمهم به هو ما يفرح قلوبهم به، ولن يُطهّرهم ممّا ارتكبوا من الذّنوب، ولهم عذاب أليم، وقد ذكر رسول الله هذه الفئات، وأخبرهم بالعذاب الشّديد من الله -تعالى- بسبب ارتكابهم للمعصية رغم أنّها بعيدة كلّ البعد عنه، وبإمكانه أن يتجنّبها ويستغني عنها، ومع ذلك ارتكبها.

 

الشيخ الزاني

ورد لفظ الشيخ الزاني بروايةٍ أخرى بلفظ أشيمط زانٍ، والأشيمط تصغير أشمط؛ وهو الشّيب، وقد صغّره تحقيراً له وإقلالاً لشأنه، لأنّه ارتكب فاحشة الزّنا رغم بعدها عنه، حيث وصل إلى سنٍّ قد ضعُفت فيه شهوته، فدلّ على أنّ المعصية فيه طبيعة وعادة، وزِنا الشّيخ الكبير أشدّ من زِنا الشّاب الذي قويت شهوته فكان الدافع إلى الزّنا أكبر من دافع الشّيخ الكبير، والزّنا فاحشة بكل أحواله سواء أكان من الشّاب أم من الكبير.

 

الملك الكذّاب

يجب على من يتولّى الرّعية أن تتوافق أقواله لأفعاله، ذلك أنّه لا حاجة له للكذب، وإلّا كان ممّن لا ينظر الله إليهم، ولا يُزكيهم يوم القيامة، وقد ذكره رسول الله بلفظ كذّاب للمبالغة، فالملك كلمته عليا بين النّاس، ويجب أن يكون صريحاً معهم فيما يوافق عليه أو يرفضه، فلا يخاف أحداً من النّاس، ولا يخشى أن يتعرّض أحد رعيته له، ولا يحتاج مساعدة أحد ليضطر إلى الكذب، فكان ممّن لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يُزكيهم حال كذبه.

 

الفقير المستكبر

الفقير الذي يتكبّر على النّاس ويستعلي عليهم، بالرغم من أنّه لا يملك ما يدعو إلى التكبّر من الجاه والمال، فدلّ ذلك على أنّ الكبر من طبيعته رغم عدم وجود دواعيها، أمّا الغني فلديه المال والجاه اللّذان يدفعانه إلى الكِبر، والكِبر حرام سواء أكان من الغنيّ أم من الفقير.

 

الرواية الثالثة

روى أبو هريرة -رضيَ الله عنه- عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (ثَلاثٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَومَ القِيامَةِ، ولا يَنْظُرُ إليهِم، ولا يُزَكِّيهِمْ ولَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ: رَجُلٌ علَى فَضْلِ ماءٍ بالفَلاةِ يَمْنَعُهُ مِنَ ابْنِ السَّبِيلِ، ورَجُلٌ بايَعَ رَجُلًا بسِلْعَةٍ بَعْدَ العَصْرِ فَحَلَفَ له باللَّهِ لأَخَذَها بكَذا وكَذا فَصَدَّقَهُ وهو علَى غيرِ ذلكَ، ورَجُلٌ بايَعَ إمامًا لا يُبايِعُهُ إلَّا لِدُنْيا فإنْ أعْطاهُ مِنْها وفَى، وإنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْها لَمْ يَفِ).

 

من يمنع الماء عن محتاجه

عظّم الله -تعالى- تحريم مَن يمنع الماء عن ابن السّبيل، فالله -تعالى- حرّم منعها عن البهيمة، فكيف بتحريم منعها عن الآدميّ الذي انقطعت به السّبل، والفئة المقصودة من الحديث هي مَن عنده بئر، أو مزرعة، أو مورد ماء في مكان فارغ من السّكان، وكان ذلك المكان مكان عبور للنّاس والمسافرين، لكنّه يمنعهم من وروده والشّرب منه، ويجب أن يكون الماء زائداً عن حاجته ليدخل في معنى الحديث.

 

الحلف على البيع

ذكر الحديث الحلف على البيع، والحلف أشدّ في وقت ما بعد العصر من غيره من الأوقات، ذلك أنّ هذا الوقت هو الوقت الذي تشهد فيه ملائكة اللّيل والنهار، ففي هذا الوقت تقوم الملائكة برفع الأعمال إلى الله -تعالى-، فتعظُم فيه المعاصي والذّنوب، وإن كان اليمين الكاذب هو آخر ما رُفع والأعمال بخواتيمها فالذّنب أعظم، وقد كان من عادة النّاس الحلف بمثل هذا الوقت؛ لأنّهم أرادوا فعل ذلك في الوقت الذي يفرغ فيه السّوق،ويُعتبر هذا الأمر من الكبائر، وفي المجمل فإنّ كثرة الحلف فيها اجتراء على الله -تعالى-، وبعدٍ عن تعظيمه.

 

رجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا

الرّجل الذي يُبايع إمامه لدنيا فقد نقض عهد ربّه، وأثار الفتن بين النّاس، فهو قد أظهر لهم أنّه بايعه لأمر دينيّ وما هو من ذلك بشيء، والمبايعة للإمام تكون على طاعته وعدم الخروج عنه ونصرته، والبيعة للإمام واجبة، سواء أكان الإمام عامّا أم خاصاً لمنطقة معينة، والمراد من الحديث مَن يبايع الإمام لمصلحته ولكسب الدنيا، إن أعطاه ما يحتاج بقيَ على البيعة وإلّا فلا.

 

دلالات "لا يكلمهم الله" في الحديث

يُقصد بـِ -لا يكلمهم الله-؛ أي نفي كلام الله -تعالى- لهذه الفئات كما ورد في الحديث الشّريف؛ فالله لن يكلّمهم كما يكلّم الرّاضي عنهم يوم القيامة حين يُجازيهم على أعمالهم، وقيل معناها الإعراض عنهم، وقال جمهور المفسرين لا يُكلّمهم بما يسرّهم وينفعهم، وقيل لا يرسل إليهم الملائكة بالتحيّة.


ولا يقتصر العقاب الوارد في الحديث على هذه الأصناف وحسب، بل قد يدخل فيه غيرهم، فهذه الأصناف ليست على سبيل الحصر، كما أنّ ترتيب الذّنوب في الحديث لا يوجب ترتيب ذنبها تصاعدياً أو تنازلياً، فالذنب المترتب على كلّ منها بحسب ما يترتب عليها من الآثار والمخاطر، وهذا العقاب ليس لأشخاص بأعينهم، بل المراد من الحديث هو الفئات الذين اتّصفوا بهذه الصّفات مهما بلغ عددهم.

 

الخلاصة

ذكر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في الحديث ثلاث فئاتٍ من النّاس الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يُزكيهم ولا ينظر إليهم، وقد ورد الحديث بثلاث روايات؛ فالرّواية الأولى أصنافها: المُسدل ملابسه تكبراً بين النّاس، والذي يمنّ على النّاس بما يُقدمه لهم، والبائع سلعته بيمين كاذبة، والرّواية الثانية أصنافها: الشّيخ الزّاني، والملك الكذّاب، والفقير المُستكبر، أمّا الرّواية الثالثة فأصنافها: الذي يمنع الماء عن محتاجه، والحالف على البيع، والمبايع للخليفة على الدنيا، وهذه الأصناف لا تنحصر بشخصٍ معيّن، بل تشمل كل من اتّصف بها، فينال العقاب بجنسها من الله -تعالى- يوم القيامة.

 

07 أغسطس, 2021 04:10:37 مساء
0