تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
«قافلة الإعدام» .. قصص من أقبية سجون إيران

غالبا ما تكون الأعمال المتمردة على قواعد التصنيف الأدبي نوعية في مضمونها، لقدرة أصحابها على إبداع إيقاع جديد في الكتابة والتأليف، يمزج في محتواه بين ضوابط أكثر من جنس أدبي. كان هذا حال بهروز قمري، الأكاديمي الإيراني أستاذ علم الاجتماع والتاريخ في جامعة برينستون الأمريكية، في مؤلفه الصادر باللغة الإنجليزية، بعنوان "تذكر أكبر: داخل الثورة الإيرانية" (2016)، والمترجم حديثا إلى اللغة العربية، "قافلة الإعدام: مذكرات سجين في طهران" (2020)، حيث يجد القارئ نفسه، طيلة 270 صفحة، في منزلة وسطى بين المذكرات والرواية.
يمزج كتاب "قافلة الإعدام" بين التأمل والتوثيق والرأي، فحضر التأريخ لذاكرة الثورة الإيرانية، ومعه سرد جرائم أصحاب العمائم في حق الشعب الإيراني، وظهرت الهواجس ومعها الأماني والأحلام، فيما يشبه سجل يوميات للراوي، أو البطل "أكبر" الاسم التنظيمي لبهروز قمري، خلال فترة الاعتقال. وبينهما صرف الكاتب المواقف السياسية لشرائح واسعة في المجتمع، حول مجريات الأحداث في الساحة الإيرانية بعد الثورة. ما سبق نسج خيوط تجربة روائية بمسحة أكاديمية، حول العقد الأول للثورة الإيرانية، بانتصاراتها وانكساراتها، من خلال تحولات حياة أناس عاديين.
دافع قمري عن هذا الأسلوب في الكتابة، في أكثر من حوار ومقابلة، فقد منحه فرصة التعبير بحرية أكبر عن لواعج وأحوال المعتقلين السياسية والإنسانية، في لحظة تحول تاريخية "ملهمة" بالنسبة إلى كثيرين، وإن كانت بعض تفاصيلها مجهولة داخل إيران وخارجها، وأتاح له إمكانية الخروج عن ردهات "أدب السجون"، بما يعنيه من سرد مأساوي للحياة داخل المعتقل، وما يرافقها من بطش وعنف وعسف سياسي، نحو التركيز على الجانب الإنساني، وذلك بإنعاش الذاكرة بتفاصيل دقيقة وحميمية من عالم السجناء، تجعلهم في أعين القراء بشرا عاديين أكثر منهم أبطالا، يتحدثون ويتصرفون كأي إنسان آخر يتحرك في ضوء شبكة معقدة من التفاعلات، اندمجت فيما بينها بكل إرادي أو لا إرادي، فألقت بهم في السجن باعتبارهم أعداء للثورة.


حاول رجال المرشد جهد الإمكان الترويج لسردية مثالية حول الثورة الإيرانية، لكن الواقع اليومي بحكاياه وأخباره، يصر على خدش الصورة بحقائق صادمة ومؤلمة، عن ثورة مسروقة، من خلال ذكريات أقاربه وأصدقائه عن إيران، قبل دخوله سجن الخميني وبعده. ذكريات كشفت - كما جاء على لسان السارد - عن تحولات عميقة داخل إيران، فقد كشفت عن "التعطش إلى السلطة وتحول الأصدقاء إلى أعداء، والثوار إلى موظفي أمن، والسجناء إلى محققين، وقادة المجتمع إلى جواسيس، وأفراد العصابات المدنيين إلى قتلة، والمعلمين إلى شرطة أخلاق، والطلاب إلى مخبرين...".


نسجت هذه التحولات داخل المجتمع بتفاعلاتها المختلفة خيوط قصص الشخصيات التي تشارك معها قمري حجرة المحكومين بالإعدام، في سجن إيفين السيئ السمعة في إيران، وتخللها بين الفينة والأخرى سرد لتجارب إنسانية مؤثرة في صدقيتها وصدقها، تفيض ألما وحبا للحياة، عاشها سجناء ينتظرون الإعدام في غياهب السجن، فيملأون فراغات الموت بالموسيقى الكلاسيكية والشعر والأحلام. ذلك بعدما قرر نظام الملالي تسجيل حقوق ملكية الثورة باسمه وحده، مقررا تصفية اليسار الإيراني بمختلف تلاوينه بشكل وحشي، عبر قوافل الإعدام التي ذهب ضحيتها آلاف المناضلات والمناضلين الثوريين.


نجح الروائي في تلبس كل شخصية من المعتقلين، ونقل بلسانهم أهم الأحداث التي سبقت اعتقاله وسجنه، وضمه إلى فئة المحكومين بالإعدام، واصفا الوضع داخل سجن إيفين الشهير المثقل بأعمال التنكيل التي كانت ترتكب بحق المعارضين. وكشف أهوال ما يجري هناك، في عبارة بليغة أوردها رجل سجن، "دخلت عموديا وستغادر أفقيا".


ما أكثر قصص الثورة التي تأكل أبناءها التي يسردها الكتاب، بعدما استولى المرشد على الحكم في إيران، وأحيانا ظلما وجورا، كحال السجين نصرالله، الذي اعتقلوه بدلا من أخته الصغيرة، "جاءوا من أجل أختي. لم تكن في المنزل فأخذوني. لا يمكنني فعل شيء لأختي. لم أرها منذ أشهر"، أو الخال حسين صانع الأحذية "لم يكن الخال حسين رجلا سياسيا، كان صانع أحذية، صانعا جيدا للأحذية، لم يكن يهتم بالاتحاد أو العمال أو الملكية أو الاشتراكية".


نقل الكاتب مقاطع معبرة عما يجري خلال أطوار التحقيق داخل المعتقل، "عند نهاية التحقيق في ذلك الوقت شيء من اثنين، إما أنهم ظنوا أنك كنت مذنبا لا يمكن تخليصك، وتستحق أن تعدم، وإما أنك كنت تافها، ويجب أن تبقى في السجن حتى إشعار آخر". وفي لحظة ما يدخل القارئ معه إلى غرفة التحقيق "نهضت أخطو في الغرفة التي كان طولها 12 قدما، وعرضها تسع أقدام، لفتت قطرات ولطخات الدم المرشوشة على الجدار انتباهي، بعد بضع دورات فقط من السير جيئة وذهابا. من المفترض أنهم تركوا اللطخات على الجدران كتذكير بكل اللغات الأخرى التي جرى التحدث بها هنا".


يكشف الراوي أن كل ما يتم من إجراءات شكليات لن تغير شيئا في مصير المعتقلين، كما عبر عن ذلك محقق بقوله "دعني أقول لك هذا، لسنا بحاجة إلى أن تخبرنا أي شيء حقا، الأسئلة بالنسبة إلينا هي لنرى هل أنت جاهز لتحمل مسؤولية ما فعلته، وإبداء الندم، ليست المعلومات هي ما نريده، نحن بحاجة إلى أن نحدد أين تقف الآن، هذا عائد إليك". وفي سياق الحديث عن معتقل آخر، ينقل على لسان المحقق "نحن بحاجة لأن نحدد هل تغيرت وتريد أن تصلح الضرر الذي سببته أنت ورفاقك للثورة، أم أنك تنوي الاستمرار في مخططاتك وعصيانك".


المعاناة النفسية للمعتقلين حضرت بقوة في الرواية، في شكل حوارات داخلية، تكشف خوفا ممزوجا بالرهبة لدى السارد، "فكرت في كل المشتبه فيهم المحتملين، وكيف كانت علاقتي بهم، ما الذي عرفه كل واحد منهم عني، وكيف يمكنني أن أبتكر قصة قابلة للتصديق في كل حالة، ليس لحماية نفسي فقط، إنما لإنقاذهم أيضا"، ويتابع مناجاته في موضع آخر فيقول "ليس هناك ما يمكن قوله، واجه الأمر، إما أن تعترف وإما أن تموت، ليس الأمر بذلك التعقيد، هل أنت خائف من الموت؟ لا، أنا لست خائفا من الموت، بصدق أنا لست خائفا من الموت".


مع كل صفحة في الكتاب يتيقن القارئ أن البون شاسع في إيران بين القمة والقاعدة، وأن الوعي الجمعي بأن النظام أساس كل مشكلات الدولة في تزايد وارتفاع. ولا أدل على ذلك مما قاله "أكبر" عشية خروجه من السجن 1984، بعد إصابته بمرض السرطان الذي صار منقذا له، عندها اقتربت منه إحدى الأمهات وسألته "كيف الوضع في الداخل؟"، فأجابها "نحن بخير في الداخل"، ثم العبارة المنقوشة على كرسي التحقيق التي اختارها عنوان فصل في الكتاب "هذا أيضا سيمر".

 

 

المصدر: الاقتصادية الدولية 

22 أغسطس, 2021 11:39:34 صباحا
0