علي البتيري في شعره الوطني
يرفع الشاعر علي البتيري في ديوانه الأخير (نهر لشجر العاشق) مكانة فن الشعر، ليرتقي جماليا، وليمتلك القدرة على المواجهة، فهو نبض وصوت المقاومة، والملتزم بهموم الأمة، ويرفض أن يكون الشاعر مجرد ظاهرة صوتية، بينما تتوالى انتهاكات الأعداء وممارساتهم التي تطال الأرض والعرض والمقدسات: (أنخلد للصمت نندب أشعارنا المستميتة/ أم سوف نطلق جمر القصائد ليلا على الطائرات).
ويمدّ البتيري المدن العربية التي حاول الإحتلال تركيعها وإذلالها، وعرّضها لأبشع أنواع الاحتلال والدمار والخراب، يمدّها بعزيمة قوية لا تلين، كي تنهض من كبوتها، لا لتدافع عن نفسها فحسب، بل لتلقن الغزاة درسا لا يعودون بعده لممارسة همجيتهم.
والمدينة في شعر البتيري ليست مكانا جغرافيا, لأنها أينما وردت، كانت محملة بالدلالات الوطنية والسياسية والتاريخية والجغرافية، إنها قطعة من الروح، وعزيزة حتى القداسة: (مدن تفقد الآن ذاكرة الاحتلال،/ وتفتح كل الشبابيك،/ تلقي بأحزانها للرياح../ وترخي ضفائر زيتونها/ لهواء الخلاص الطليق).. ويقول للقدس: (يا قدس معذرة/ فما عندي سوى/ دمع يبلل في النوى/ وجه القصيدة/ مهما ابتعدت وراء غربة دمعتي/ ما كنت عن عيني أو روحي بعيدة).
ويتجاوز البتيري في قصائده التي ترسخ حق العودة، ما ورد في الشعر الجاهلي من بكائيات على الأطلال، لتتحول قصائده إلى موجات من الإشتياق والحنين، ليبثّ من خلالها وصاياه الشعرية التي تـُطفئ نار غربته، وترفع من مكانة كل شبر مغتصب في نفسه وروحه، باعتباره الممثل لكل من تعرّضوا قسرا للجوء والنزوح عن أوطانهم: (يا عابر الجسر والحراس قد فزعوا/ من عاشق رافض صدا وإكراها/ إذا وصلت لدار تزيّنها/ بحسنها وبسحر من محياها/ فقل لها:إن قلبي بات يسألني/ في آخر العمر هل نحظى بمرآها/ اقرئي سلامي لها واشهد بأنّ يدي/ في الهجر تحلم أن تغفو بيمناها).
والبتيري الذي يكتب من برج الشعر العاجي، والذي غدا بعد هذا العمر الشعري الطويل، قادرا على التعبير بصدق وجمال عن وقع الوجود على وجدانه، يحشد في ثنايا قصائده كما هائلا من الصور الشعرية الجديدة والأخاذة، والتي تكتنز بقدر كبير من المجازات والكنايات والإستعارات والتشبيهات، فيقول مثلا: (الحبّ غيمٌ مرسلٌ أمطاره/ للظامئين،/ وبرقه البسّام/ بشرى لنهر حالم/ بضفافه/ تتعانق الأشجار والأنسامُ)..ويقول عن دور الشعر التنويري، ودور صولجانه في إيقاظ النائمين: (هو الشعر يمسي/ على شرفات الرداءة/ ذاك السلاح الجميل/ هو الشعر نبع الضياء الرقيق/ إذا ما سكتنا قليلا تدفق فينا/ ودفقته المستفيقة نار ونور/ يغامر في قرع أجراسه ويثور/ عند باب السكون العميق).
وتشارك الموسيقى الشعرية في قصائد البتيري: العمودية منها والمقفاة، وقصائد التفعيلة، تشارك الموسيقى المنسابة في ثنايا خياله المجنّح، وشعره المحلـّـق، لحظة جلده الأعداء: (سأقول بموسيقاي لكل المدعوّين/ الحقّ مع المحتلين/ في نصب حواجز قهر وحصار/ والتهديد بقتل الثوار/ وسجن الأحرار)، وتتجلى البلاغة العربية بما فيها من تجسيد وتشخيص يحيل الجمادات إلى كائنات حية، في اثناء جلده لذوي القربى وللأصدقاء المتخاذلين والمتآمرين: (يا حراس جدار الصمت الأسود/ من سدّ ثقوبا فيه..،يتسربُ منها بعض النور؟/ من هزّ بنادقه في وجه عيوني؟)..ويقول:(أقصى ما أدريه/ أن الموت بأسياف ذوي القربى/ ألف كريه/ فرسان قبائلنا في سوق عكاظ/ يتباهون بحرب الأخوة).
ولأنّ روحه خضراء، ونفسه طريّة، فإن الغزل يتسلل بين قصائد البتيري الوطنية، وتعيده المرأة المتخيلة إلى رشده، فتحيله إلى فنان من طراز رفيع، يتلاعب بالألفاظ، ويعزف على أوتارها، لعلّ روحه تخرج من وحدتها، وتجد من تؤنسها: (وأرسم بالشعر وجوه صبايا/ لم أبصرهنّ بعيني../ لأردّ الوحشة عن روحي/ لأرى الورد المتناعس يتغفى بين يديّ).
الوحدة الوطنية، والوحدة العربية، هي أسمى ما يتطلع إليه البتيري في شعره الذي تستحق بعض قصائده أن تـُغنى، والذي استخدم فيه كل ما يملك من لغة وبلاغة وعروض واسلوب: (إن لم توحدنا الجراح/ فما الذي/ فينا يوحد في الطريق/ خطانا).
المصدر: الدستور