تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
المصطلح الصوتي في الدراسات العربية لعبد العزيز الصيغ.. ملاحظ وتصويبات

من المعروف أن علم الأصوات علم جديد إذا قُصد به الاصطلاح، والتخصُّص، إلا أنَّ مباحث هذا العلم قديمة قِدَم اللغات، ويحسن بنا أن نذكّر بما يقوله أحد اللسانيين المحدثين: إنّ مباحث العلم بالصوت اللغوي عرفت منذ عرفت الكتابة الهجائية، لأن الذين وضعوا، أو اخترعوا، بكلمة أدقّ، رسومًا تمثل الأصوات الهجائية، هم رواد هذا العلم بلا منازع. غير أنّ المباحث لم تتوقّف قطعًا. وقد نشأ علم الأصوات في الشرق في حضني لغتين مقدستين بتعبير روبنز، وهما السنسكريتية – في الهند – والعربية في العالم الإسلامي. واختلط البحث في الصوت بالأغراض الدينية لدى قدماء العرب، والهنود. بيد أن هذا سرعان ما انتشر، وفشا، في مباحث لغوية أخرى، منها النحو، ومنها الصرف، ومنها فقه اللغة، وعلوم البلاغة والبيان، علاوة على علميْ القراءات، والتجويد، العربيَّيْن، فكانت آراء الصوتيّين متناثرة في كتب اللغة، من نحو، وصرف. وشاع هذا الأمر شيوعا كبيرا على مدى ثلاثة قرون من الزمن، قبل أن يُصنف ابن جنّي (392هـ) كتابه « سرُّ صناعة الإعراب» الذي استقل فيه الدرس الصوتي عن النحو والصرف، وقبل أن يُصنف ابن سينا (428هـ) رسالته في « أسباب حدوث الحروف». تضاربُ الدلالات

ومن المشكلات التي واجهت، وتواجه، دارسي علم الأصوات، كثرة المصطلحات فيه، وتضارب دلالاتها، وغموض القليل منها غموضًا يسبِّبُ الوقوع في اللَّبْس. والمتفق عليه أنّ وضوح المصطلحات لدى المشتغلين في علم ما، والباحثين فيه، وضوحًا دقيقًا، مطلبٌ أساسيٌ، إذ إن الخلط في المفاهيم يؤدي لترسيخ الأخطاء المُضلِّلة التي يصعُب تجنب خطرها لدى الدارسين، والباحثين. فعلى سبيل المثال ورد في الدراسات العربية، وتكــرَّر، اصطلاح الشِدَّة، وهذه الكلمة قد تُفهم على أنها تعني قوة الصوت، وعلوه Pitch مع أنَّ القدماء لم يقصدوا هذا باستعمالهم لها، فكانوا يقولون « الصوتُ الشديدُ هو المُتَمَكّن «. ويشرحون ذلك بقولهم: أيْ الذي يتمكّن فيه اللسان من المخرج، ولا يجري معه النَفَس. وهكذا نلاحظ أنّ هذا لا علاقة له بقوة الصوت، وعلوّه، وإنما أرادوا أن النَفَس يتوقف عند التلفُّظ بالصوت. ومثل هذا اختلافهم في معنى النون الخفيةعند سيبويه، ووصفوا القلقلة بالقول هي حركة ثانية من اللسان في المخرج بعد النطق، فكأنه يَتَقلْقَل.

 المُصطلح الصوتي

وقد وقع بين يديْ كتابٌ لعبد العزيز الصيغ كان قد صدر في طبعة أولى 1998 وأعيد نشره عن دار الفكر العربي بدمشق 2007 و 2020 بعنوان « المصطلح الصوتي في الدراسات العربية « وهو كتابٌ ينْحو فيه المؤلف منحى النظر في تصحيح المفاهيم، والتوافق على معنى دقيق للمصطلحات المتداولة في مباحث علم الأصوات بفرعيه النطقي، والفونولوجي(مستثنيا الإدراكي). وفي مقدمته القصيرة يُعرب عن هذه الغاية، مبيّنا الأثر السلبيَّ الناتج عن الالتباس في تداول المصطلحات. والكتاب في ثلاثة فصول؛ يتناول الأول أعضاء النطق، وما شاع لها من تسميات، ويتناول الثاني مخارج الأصوات، وما شاع من تسميات اصطلاحية لها، وصفات الأصوات، سواءٌ منها الصفات المخرجية، مثل: أنفي وأسناني وشفوي،إلخ.. أو ما كان منها من باب الوصف الفيزيائي، مثل: انسيابي، ومهتز، أو طبقي ومنفتح، أو جانبي و متكرر، أو وقفي واحتكاكي، إلخ. وتناول الثالثُ ما يطرأ على هذه الصفات من انحرافٍ، أو تغيير، عشوائي، أو مطرد، وعزا هذا كله، أو بعضه، لظواهر القلب، والإعلال، والإدغام، والإبدال، وغيرها من ظواهر حظِيَت بعناية علماء التجويد بصفةٍ خاصّة، والمهتمّين باللهجات.

وعلى الرغم من الجهد الكبير الذي يتَّضح في الكتاب، إلا أنه يحتاج لغير قليل من المراجعة، والتدقيق، في بعض المعلومات، والتعريفات. فقد ذكر المؤلف كتاب أبي البركات الأنباري الموسوم بـ « زينة الفضلاء في الفرق بين الصاد والظاء «(ص287) والصحيح أنه الفرق بين الضاد والظاء. ويورد المؤلف في ثبت المراجع كتاب حسام النعيمي « الدراسات اللهجية والصوتية «. وهذا عنوان ناقص لخلوه من « عند ابن جني « فأوهم أن الكتاب عامٌ شاملٌ مع أنه ليس كذلك (ص289) ولا يُعلم لم أورد في مراجعه ثلاثة عناوين لكتاب دو سوسير، فهو: علم اللغة العام تارة، ودروس في الألسنية تارة، وفصول في علم اللغة العام تارة أخرى (ص291) وهذا مثير للاشتباه.

 جهاز النطق

وفي تناوله لجهاز النطق خلَطَ بين الغضاريف التي وصفها ابن سينا في تشريحه للحنجرة، فنسب إليه تسمية أحدها بالغضروف الحَلَقي(ص26) وهذا غيرُ دقيق، إذ لم يتحدث إلا عن اثنين بالاسم، هما الطرجهالي، والدرَقي، أما الثالث، فكان يشير إليه بعديم الاسم تارة، وتارة بالمكبي، أي المقلوب*. وإنما المحدثون هم الذين سمّوه الحَلَقي لكونه يشبه الحلقة. وفي الحديث عن الحلْقpharynx ، وأقسامه، يزعم أن أدنى الحنَكِ soft palate جزءٌ منه عند المتقدمين(ص27) وهذا الزعم وقع فيه المؤلف بتأثير من النظر الحديث الذي خالف القدماء في تقسيم الحلق، فاضربوا عن التقسيم الثلاثي، وقالوا بالبلعوم الذي يوهم المؤلف بأن الحنك الأدنى ليس من الحلق. ووقع في مثل هذا الخلط حين أراد تحديد وظيفة اللهاة ، فزعم أنّ وظيفتها غير المباشرة هي الإسْهام في نطق القاف (ص30) ولم يذكر الوظيفة المباشرة، وهي منع الطعام والشراب من الاتجاه إلى جهاز التنفس. وقد فاته أن يحدّد العملية التي يراد للسان المزمار التدخّل فيها، قائلا « وهو بمثابة صمّام يسدُّ طريق التنفُّس أثناء العملية «. فهل هي عملية النطق، أمْ البلع؟ (ص32) ويُسمي الثُغْرة التي تقع بين الوتريْن الصوتيَّين مزمارا، يقول « وتسمى الانفراجة بينهما مزمارًا « (ص 33) وهذا مباينٌ للإجماع، إذ يطلق على تلك الثغرة اسم فتحة المزمار. ولسانُ المزمار هو الذي يسدّ هذه الثغرة سدًا تامًا عند النطق بهمزة القطع، وعند ابتلاع الطعام والشراب منعًا لدخولهما الحنجرة. وفي عرضه لتسميات الحنك الأوسط، أو الصُلب، لا يذكر شَجَرَ الفم (ص37) وهي تسميةٌ ذكرها الخليل، وغيره. وتلكَ مسألة مهمة لأن من الأصوات أصواتا يقال لها شَجَريّة، فكيف سيعرف القارئ موقع هذه الأصوات الشجرية ما لم تسبق ذلك معرفته بالاسم. ولكنه عاد وصحَّح نفسه فذكر أنَّ هذا الجزء من الحنك سماه القدماء شَجَرَ الفم، وإلى ذلك تعزى تسمية بعض الأصوات أصواتًا شجرية. وفي ذكره الحنك اللين – الرخو- يقول: وهذه المنطقة - كذا- تسهم في إنتاج صوتين اثنين يُدعيان أقصى حنكيَّين. وتسْهم كذلك في انتاج الأصوات المفخَّمة، فهو لا يذكر ما هما الصوتان، وهل هما الكافُ، والجيم المصرية، أمْ صوتان آخران. ويخلط بين التفخيم والإطباق. وهذا الخلط لا ينبغي أن يقع فيه باحث في الأصوات، فالإطباق في الأصوات ذو طابع فونيمي، خلافا للتفخيم.

وللمؤلف نظرةٌ للّسان، فهو مع تقسيم القدماء له، غير أنّهُ أضرب عن ذكر الحافة المدبَّبَة منه التي سماها بعض القدماء أسَلَةَ اللسان، وسمّاها بعضهم الذَلَق. (41- 44) وهذا القسمُ، وتسميته، مهمّان؛ لأن الأصوات التي تعرف بأصوات الذلاقة ستبقى مجهولة ما لم يعرف المتلقي هذه التسمية. ومن المعروف أن الخليل هو أول من استعمل هذا. وفطن المؤلف لذلك متأخرًا فذكر أصوات الذلاقة، وهي اللام والراء والنون (ص 76). وليست التسمية بالشيء المهم، فقد تكون شكليَّة، لكن الخلل يبدو فاحشا إذا وقع في توصيف المؤلف للمخارج، وهذا ما وجدناه في وصفه للفرق بين الفتحة وامتدادها الألف، والضمة وامتداها الواو، فذكر أن تباعد الشفتين مع هبوط اللسان إلى أقصى ما يمكن من قعْر الفم، يحددان صوت الفتحة، وامتدادها الألف. وهذا الوصف وصف للكسرة، وامتدادها الياء، وليس الألف أو الفتحة. ويبدو أن المؤلف في اقتباساته من إبراهيم أنيس خلط بين الألف والياء، كونه كرّر هذا الوصف مرة أخرى (ص45) في وصفه للياء.

أما ما يرويه عن ابن الجزَري، من حيث قولُه: إن الواو الشفوية عند سيبويه غير مدّيّة، فقولٌ بعيدٌ عن الدقة، إذ الصحيح أن ابن الجزري يخلط بين الواو التي هي صائتٌ، كالتي في يقول، والواو شبه الصامت، كالتي في وَجَد، (ص50) وكلتاهما يصاحبها تدوير في الشفتين، لكنه في المدّيّة أوضح. ولم يذكر أصوات الحلق - على فرض أنها سبعة - مرتَّبةً الترتيب المعروف من أقصاه إلى أدناه، بل جاءت عنده متداخلة من غير ترتيب(ص57). وعلى الرغم من اعتماده - ها هنا- على إبراهيم أنيس، إلا أنه يذكر الهمزة، والهاء، في الأصوات الحلقية، وأنيس يعدُّهما حنجريَّيْن. ومع أن المؤلف يوافق المحدثين في التفريق بين الحلق والبُلعوم، إلا أنه عدل عن هذا عندما وصف الغين والخاء بالصوتيْن الحلقيَّيْن، وكان في موْقع سابق قد نَصَحَ باحتسابهما صوتيْن بُلعوميَّيْن شأنهما في ذلك شأن القاف (ص68). وعاد فذكر الأصوات غ، خ، ق، زاعمًا أنها أصوات أقصى حنكيّة، دون أن يحْسُم رأيه في أيِّ المَخْرجيْن هي.

 صفاتُ الأصوات

وفي الفصل الثاني يتناول المؤلف صفاتِ الأصوات بعد أن أتمَّ الحديث عن المخارج، فأول هذه الصفات عنده هي الجهر، وقد تباين معناه عند القدماء، واختلف تعريفه من لغويّ لآخر. ونحن نرى في تتبُّع المؤلف لهذا التبايُن جهدًا لا طائل منه، طالما أن المحصّلة النهائية لهذا التتبع أنهم لم يقفوا على حقيقة الجهر(ص87- 91). فتعريفهم له تعريفٌ غامضٌ (ص94) خلافًا لمفهوم المحدثين الذين ميزوا الجهر بتذبذب الوتريْن vocal cords تذبذبًا ينتج نغمة تُسمى جهرًا(ص95). ولذا نرى في كلّ ما زاد على هذا ضربًا من الفضول (ص95- 105). أما الهمسvoiceless فهو ضدَّ الجهر، ولهذا لم يخُض المؤلف فيه خوضه في إشكالية الجهر، ولكنه توقف إزاء مسألتين، هما: الطاء، والقاف، وهل هما مجهوران، أم مهموسان؟ فالقدماء عدوهما من الأصوات المجهورة، وقد تبيَّن أنَّ هذا ضربٌ باطلٌ من الظنّ(انظر ص106- 114). والشِدَّة مُصطلحٌ تداوله القدماء تداولا فيه غموض، وهو توقف النفس عند النطق بالصوت. فالأصوات الشديدة لديهم هي) ب، ت، د، ض، ط، ك، ق، ء) وهذه الأصوات هي الأصوات الوقفية الاحتباسية stops على أنه لم يُضف لهذه الأصوات الجيم المصرية. واستثنى من هذه الأصوات الأصوات الانسدادية الأنفية؛ كالنون والميم، والجانبية كاللام، والمتكرّرة كالراء.

 التبدُّلات النُطقيَّة

ويتناول المؤلف، عدا ما سبق الرخاوة؛ وهي ضد الشدة، وتقابل ما يعرف اليوم بالاحتكاكية. فالأصوات صنفان: وقفي احتباسي، وقد سبق الحديث عنه، واحتكاكي، وهو الذي سلط عليه الضوء تحت مسمى الرخاوة. واستطرد فذكر من صفات المجموعات الاستعلاء، والتفخيم، والقلقلة، ولم يدَعْ صغيرةً، ولا كبيرةً، من صفات الأصوات عند الأوائل إلا وذكرها، بما فيها الصفات التي لا تنسحب إلا على صوتٍ واحد، مثل التكرير، فهو صفة في الراء، والجانبية وهي صفة في اللام، والأنفية - أو الغنة - وهي صفة في النون. ثم أعقب ذلك بالحديث عن الصفات المَخْرجية، وكان من الممكن تجاوز ذلك، لما سبق من الإشارة إليه عند الحديث عن المخارج (ص188- 205) مما يُضفي على هذه الفصلة تطابَعَ التكرار المـُملّ، أو شبه المــُمل. خلافا للفصل الثالث الذي انتقل فيه لحديث شيّق عن المتغيرات النطقية في الأصوات؛ كجهر المهموس؛ وهمس المجهور، وإطباق المنفتح؛ وإخفاء الهمزة، وإهماز الواو والياء، وما يعرف بالإدغام الكبير، والصغير، وبعض مظاهر التجويد، وموسيقى الكلام؛ كإطالة الصائت القصير (مدّ الصلة) أو تقصيره. واختلاس الحركة اختلاسًا، والرَوْم، والإشمام، والإمالة، والمـُماثلة كالتي تقع للتاء في مثل ادعى، واطرد، وازدجر، وهو ما سماه القدماء تقاربَ الأصوات، أو مضارعة الصَوْت صوتًا آخَرَ حتى كانه هو.

 كلمةٌ أخيرة

وقد استخلص المؤلفُ من جولاته في المصادر اللغوية، القديمة والحديثة، غنى تراثنا الصوتي بالمُصطلحات، وثراءَهُ. وكنا نأمل أنْ يضيف لما قام به من جهود مشكورةٍ محمودةٍ فِصْلةً يبيِّن لنا فيها ما المصطلحات التي يحتاج إليها الباحث في الصوتيات، ولمْ تتوافر في هذا التراث الضَخْم؟ فلعله يوفر علينا، وعلى الباحثين، الكثير من العَناء، والاضْطراب، في هذا السياق الذي لا يخلو من تخبّط، وغُموضٍ، مُصْطلَحِيّ.

* انظر، خليل، إبراهيم: صوتيات ابن سينا في ضوء علم اللغة الحديث، دراسات، مج 32، ع 3 ، تشرين الثاني، س2005 ص 541- 553.

 

 

 

 

المصدر: الدستور

16 أكتوبر, 2021 10:33:00 صباحا
0