تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
صفاء الحطاب تأملات في رواية «لصوص الآثار»

تستثمر الكاتبة صفاء الحطاب في روايتها الموجهة للفتيان، تلك القيمة التي غابت نوعاً ما عن الواقع العادي واليومي والمألوف للفتية، وهي قيمة المعرفة الحقيقية لتلك الكنوز التي بقيت مخبأة الاف السنين في معابد الفراعنة، والتي تمثل قسمة فنية وتاريخية وعلمية، من خلال حدث روائي قالت به كل ما يمكن قوله في الحصص المدرسية والتي قد لا توصل الفكرة بذلك الشغف لتلك الفئة المستهدفة (الفتيان) بالقدر الذي حققته الرواية من خلال عنصري المتعة والتشويق، فالطفل في هذه المرحلة ينجذب الى القصة وتداعياتها أكثر من انجذابه للتلقين المباشر.


جاءت الرواية الصادرة عن دار المأمون للنشر والتوزيع في ثمانين صفحة، بغلاف أنيق يشي بالمضمون بلوحة تمثل العصر الفرعوني وما يحمله من تحف فنية ذات أثر خالد، ولأن العنوان والغلاف يمثلا العتبة الأولى للمتن، وخاصة أن الرواية تستهدف الفتيان، فقد وفقت الكاتبة في الاختيار، ليستطيع الطفل في تلك المرحلة من الانجذاب للرواية، فقد احتوى العنوان على لفتة (حركة سينمائية) وذات بعد في عقول الفتية وهي مغامرات اللصوص، التي من الممكن أن شاهدوها من خلال البرامج والمسلسلات التي قدمت لهم سابقاً.


تحكي الرواية عن أخوين هما سيد عبدالله وبدوي، الشخصيات مصرية، لتطلب السياق ذلك، لأن الرواية تحكي عن الكنوز الفرعونية، شخصية سيد، تكاد تكون أقرب للأنانية والمادية وحب المال، أما بدوي فقد ظهر أنه شخصية مثالية نوعاً ما وبضعف ظاهر لا يستطيع رفض طلب أخيه المتنمر، وهنا قدمت الكاتبة شخصيتان اشتركا بالفعل نفسه، وهي دلالة أن الخير يتطلب قوة ما لتحميه ولا يكفي أن يظل مجرد سلوك.


في الليلة العاصفة يذهبا إلى المقبرة الفرعونية، وهناك يجدا كنوزا لا تقدر بثمن، من وجهة نظر العلم وتساوي بعض الجنيهات من وجهة نظرهم الجاهلة بقيمة هذه الكنوز، في المقابل هناك تاجر آثار جشع (مصطفى باشا) يتفق مع بعثة أجنبية من خبير بالاثار وابنته عالمة المصريات اللغوية القديمة، ليبيع لهم تلك الكنوز بأبخس الأثمان، ليقوما بدورهما بنقلهما إلى بلادهما، لما تحويه من معلومات طبية وعلمية نادرة.


في الواقع ان الكتابة للفتيان لها خصوصيتها التي تختلف عن الكتابة للكبار، ومن هنا نجد أن ثمة صعوبة ما بتحقيق الانسجام بين الاطار الأدبي بعناصره المختلفة من دلالات وصور ولغة، وبين تحقيق عنصر الامتاع الذي يبحث عنه الفتية في القصة، من هنا جاءت رواية لصوص الآثار ومنذ أول فقرة بإدخال القارئ وبشيء من التشويق المتقن الى القصة بمباشرة تطلبها السياق وحققت ذلك الشغف لمتابعة أحداث القصة المتلاحقة.


في الكتابة للفتيان، لا بد من توفر رسالة ما، وهذا شرط الأدب الجيد بشكل عام، حقيقة استوقفتني كثيراً تلك الجملة، وراق لي التكثيف الشديد مع المعنى الهائل التي تريد صفاء إيصاله إلى فتيانها القراء، وبأقل أقل الكلمات والمعنى الكبير، وأرى أن الكاتبة نجحت بالتوعية التي تبتعد عن التلقين بعبارات مدرسية جاهزة، قد يسمعها الطفل يومياً بدون أحداث ذلك الأثر، من هنا نستطيع القول بأن الكتابة الأدبية للفتيان لها مفعول (الإيهام) الذي يدخل به المتلقي، بعيداً عن التلقين.


حققت الرواية عنصرا مهما في الكتابة السردية وهو (المشهد) ففي كل فصول الرواية نجد المشهد حاضراً بقوة، وكأن صفاء تحولت الى مخرجة فيلم سينمائي ليس عبر الكاميرا وإنما عبر الكلمات.


تلك المشهدية كانت واضحة منذ بداية الرواية، بتصوير الأجواء الليلة والمطر المنهمر ومعاناة سيد وبدوي في الدخول إلى المقبرة الفرعونية، والتوقف عند كل حدث بلغة مكثفة ووصف أكبر، ثم إبراز عنصر المفاجأة بنقل صورة الكنوز وتفاصيل المكان التاريخي، والمشهد الأكثر حضوراً هو ذلك الحفل الملكي الفرعوني الذي جاء لسيد في الحلم، وبسببه نقله من عالم المادة الى عالم الروح وبفضله عاد سيد إلى رشده وإنسانيته ومصريته.


نقلت الكاتبة في ذلك الشهد القارئ وعادت به إلى آلاف السنين، إلى حضارة الفراعنة الخالدة وبدقة متناهية أدخلت جميع عناصر التشويق والخبرة في توصيف الأعمدة واللباس وصورة الملكة ومقتياتها ووجوه الخدم والحراس بتقنية بصرية باذخة، وهنا تحديداً أشركت صفاء الكبارأيضاً بلغة مشتركة فصار بوسع أي قارىء ومن أية فئة عمرية أن يقرأ الرواية وقد تحقق له رؤيا ما.


شخصيات صفاء في الرواية، ساعدت على إعادة تشكيل عقل الفتيان من خلال تسليط الضوء، على انتهازية العلماء الغربيين بنقل وسرقة تلك التحف العلمية التاريخية في الطب والهندسة ونسبها إليهم، وقد تمثلت تلك الشخصيات بأدوين سميث الأمريكي المهتم بالاثار وابنته أدوين اللذين قاما بسرقة بردية مهمة في الطب أخذوها من بدوي (الساذج) مقابل جنيه واحد، وعمدت الكاتبة إلى اظهار الوجه الاخر للفكر الاستعماري البغيض بأسلوب قصصي ممتع، وبتصوير متقن لتلك الشخصيات وكيف تعمل وكيف تفكر. مع أني تمنيت لو أن الشخصيات كانت أقرب عمراً للفتيان، لتحقق بذلك تفاعلاً خاصاً من قبلهم، بحيث يروا أنفسهم من خلال أبطال الرواية، وإذا تعذر الأمر بسبب السياق العام للرواية، فكان من الممكن ادخال شخصية صغيرة بالعمر ذات أثر فعال، لتكون الرابط بين الحدث الذي يقوده الكبار وبين القراء الفتيان.

 


أيضاً من الشخصيات لتي حركت مستوى السرد بشكل عامودي، هي شخصية المصري تاجر الآثار الجشع (مصطفى باشا) الذي كان يجمع الاثار ويبيعها ومن ضمنها تلك البردية التي أوصلها بيديه الى أدوين سميث وابنته داروين، وأرسلت صفاء رسالة مهمة إلى الفتيان، كيف أن نهاية مصطفى كانت قاسية من خلال الحادث الذي سببه له الأجانب وأصبح مقعداً على كرسي متحرك.


لصوص الآثار، رواية مهمة للفتيان، قيلت باحتراف المشهد واحتراف المضمون، وبلغة سلسة منسابة، بدون تعقيد أو ضبابية وقدمت رسالة مهمة للناشئة وللقائمين على التعليم أيضاً بضرورة الحفاظ على تلك الكنوز الفرعونية واستثمارها بشكل يخدم الأمة، والرسالة الأكبر تلك التي حملها سيد عبدالله، الشخصية المركزية في الرواية إلى الفتيان والكبار أيضاً، وهي عودة (الابن الضال) إلى وعيه وعروبته وإنسانيته وأن المال زائل ولا يساوي شيئأ أمام المعرفة التي تحارب الجهل.

.

 

المصدر: الدستور

22 أكتوبر, 2021 06:17:20 مساء
0