تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
هيا صالح «جسر بضفة وحيدة» وإشكالية الحب الأول

«جسر بضفّة وحيدة» نوفيلا جميلة تأخذنا إلى عوالم غائرة في أعماقنا من الحنين والحب والذكريات والأمل والموسيقى، مشاعر وأحاسيس تدوسها عجلة الحياة كل يوم ولا نفعل شيئًا سوى الشعور بالألم والتّفجّع بصمت مرير، ننام ونصحو وكلّنا أمل بيوم أقلّ سوداويّة من الذي سبقه. هي رواية داخل رواية ولكن ليس على الطريقة الكلاسيكية المعروفة، ولعلّ هذا ما يؤرق الروائيّون والروائيّات؛ فيجدّون في البحث عن شكل جديد وعباءة مختلفة لإثراء المشهد الذي أصبح التكرار آفته المزمنة. تكتشف سامية أنّ ما توّهمت من أحداث مرّت بها، موجودة في الرواية التي تقرأها وهي بعنوان: جسر بضفّة وحيدة.


جاءت الرواية الصادرة عن (الآن ناشرون وموّزعون) في أحد عشرة فصلًا حملت عناوين دالّة على المضمون وهي: جسر الموصل العتيق، فتاة التصوير، الحبّ الأوّل، عزلة اختياريّة، الأحد الكئيب، قبل السقوط.. بعد السقوط، رصاصة في الرأس، عمّار من جديد، قدرات فائقة، جسر النور، الوصول. يتَتَابع السرد على لسان ساميّة؛ الشخصيّة المحوريّة في الرواية، لكن ما كان مختلفًا هو تفاوت زمن الفعل بين المضارع والماضي للتأكيد على ما يحدث الآن في زمن السرد وما حدث في وقت مضى، وهذا على سبيل الشكل وتوظيف التّشكيل اللغوي أمر يُحسب للرواية.


سامية هي الشخصيّة الطّاغية في الرواية حضورًا وفعلًا وقولًا. عائلة جدّها هُجّرت قسرًا بعد النكبة، وأقامت في ضواحي الموصل، وهناك وُلِد والد سامية وعاش، كما وُلدت سامية وعاشت حتّى بلغت الثانية عشرة. تقول: «العراق بلدي، والدماء التي تسري في عروقي ممزوجة بمياه دجلة. لم أفكر أثناء طفولتي لحظة أنني أنحدر من أسرة فلسطينيّة لاجئة، كنت أعتقد أن جميع البشر عراقيون، ويعيشون حياة تشبه حياتي». من نكبة إلى سقوط ومن تهجير إلى فرار حيث تضطرّ العائلة لمغادرة الموصل بعد سقوط بغداد والتّوجّه إلى عمّان لتكبر الصغيرة وتذهب إلى الجامعة وتعمل في مجال التصوير الفوتوغرافي وتتزوج وتنجب ولدين؛ عمر وخالد.


ولكن ما هي بواعث شخصيّة سامية؟ لعلّ هناك مجموعة من العوامل التي تجدر الإشارة إليها للغوص في أعماق سامية. هي الابنة الوحيدة لوالدين محبّين ومتفهّمين، وهذا يضع مزيدًا من الضغط على الطفل الذي يحاول باستماتة حتى يكون مثاليًّا. يموت الأب والأم بشكل متلاحق مما يدفعها للإنكفاء على ذاتها والدخول في عزلة مؤلمة. تتعرف على ماجدة في الجامعة في عمّان وهي صديقة قديمة من الموصل. تشارك سامية بالمظاهرات مع ماجدة رغم عدم اقتناعها بجدوى الحراك والمظاهرات. تقول: «أظنّ أنّ على من يطالب بالتغيير أن يتغيّر أولًا.. لا أستوعب أنّ صاحب سيّارة الأجرة الذي يسرق قرشًا واحدًا من راكب، يمكنه أن يطالب بألّا يسرقه أحد، أو أن رجل الدين الذي يوقف سيارته في منتصف الطريق ويعطّل حركة الناس بحجّة أنّه ذاهب ليصلّي يمكنه أن يطالب الآخرين بالتزام القيم العليا والأخلاق الفاضلة». خلال إحدى المظاهرات يُلقى القبض على مجموعة من الناشطين وتكون ماجدة وسامية من ضمنهم. يُطلق سراح سامية قبل الآخرين بشكل مريب. تواجهها ماجدة: «أنتِ الوحيدة التي خرجتْ بسهولة، وأنتِ من قدّم لهم الصور التي أدانونا بها عل طبق من ذهب. حتى إنك لم تكلّفي نفسك زيارتي أو السؤال عن أحوالي». يقول حماها زياد طاهر رجل الإعمال الفاسد في حديث مع سامية: أنا أفهمك جيدًا لأنّك تشبهينني.. تحطّمين كل ما يعترض طريق رغباتك ثم تقفين فوق الحطام وتقولين ببراءة الأطفال: أنا لم أفعل شيئًا. الذنب ليس ذنبي. وعندما تسأله: هل تراني هكذا؟ يقول: بل أراك أسوء، ولا أنكر أنّ هذا يعجبني.


الأمر الآخر الذي يكشف جانبًا من شخصيتها هو موقفها من سالم شقيق صديقتها نرمين؛ يُغرم بها الطّالب الجامعي في كليّة الطب، تسايره لبعض الوقت ثم تقرّر قطع علاقتها به، فينهار على غرار المتيّمين العرب القدماء. يتوقف الزمن بالنسبة إليه عند تلك اللحظة، وتتوقف حياته فيترك الجامعة وينطوي على ذاته ويصبح مثل شخص غادرته الحياة منذ زمن بعيد. ويبقى أن نتحدّث عن صلاح؛ الزوج المحب والمتفهّم لشخصيتها. يمنحها الدفء والرعاية والاهتمام، وتبادله بالقليل القليل الذي يقيم أود العلاقة بينهما.


عقدة سامية هو الحبّ الأول الذي ظلّ يعود بها إلى تلك الذكريات في الموصل حتّى بعد مضي عشرين عامًا. ولعلّ بيت الشعر الخالد يعيننا على فهم ما تمرّ به سامية:


نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحبّ إلّا للحبيب الأوّل
أنّ هذا الحب جاء في زمن البراءة، جاء في أول عمر البلوغ فانطبع في وجدانها وقلبها وروحها ولم يزحزحه من مكانه نكد الدّنيا ولا تصاريفها الجائرة. سامية شخصيّة رماديّة وليست منحازة للون واضح، شخصية تشبهني وتشبهك وتشبه بائع الأيس كريم والذي يبيع كرابيج حلب على عربة خشبيّة متهالكة، وتشبه المذيعة الجميلة التي تتحين زوجتك أيّ فرصة لتغيير القناة خاصة عندما تراقب نظراتك إليها. سامية هي إنسان هذا العصر بمفهومه الخاص للأخلاق والمادّيّة والخير والشر. بقيتْ أسيرة لهذا الحب على الرغم من تكوينها لأسرة وانشغالها بعملها وعائلتها، ثم تأتي هذه الرواية لتفتح جروحًا لم تندمل. يختلط عليها الأمر وتتوه بين ما تقرأ في الرواية وما يمرّ بها من أحداث حقيقيّة، ويصبح التمييز بينهما في غاية الصعوبة. حالة من الاستغراق والوهم والهذيان. يظهر لنا في النهاية أنّ فتى المقهى، وظهور عمّار حبّها الأول في الموصل، والجسر أحادي الضفّة مجرد هذيانات مرتبطة بشعور عميق مدفون في اللاوعي. التفكير بالموت ومواجهته وفلسفة الغياب والفراق والموت الفيزيائي والروح الأثيريّة أمور تخطر لنا كلمّا خفّت الضوضاء، واستكان الليل وران من حولنا صمت مخيف. وما الجسر الذي بضفّة وحيدة سوى الشوق والحنين إلى الذين غادروا الدّنيا من الأحبّة وما زالوا ملتصقين بنا. الموت لا يعني الفراق بل اللقاء المؤجل. هذا البناء السوريالي والانتقال بين الحقيقة والوهم، بين الخيال والواقع أضفى على الرواية شيئًا من التشويق حيث وظّفته الكاتبة بذكاء لشدّ انتباه القارئ ليظلّ يبحث وينبّش وخاصة في البداية التي غالبًا ما تكون متباطئة وثقيلة، وعلى الرغم من كون الرسالة والشخص الذي أوصلها جزءًا من اللعبة السورياليّة اللذيذة إلّا أنها شكّلت مدخلًا مشوقًا للرواية، وهذا أمر مهم وصعب في الوقت عينه.


اهتمّتْ الرواية بثقافة الطعام والغناء واعتبرتهما من دعائم ثقافة البلد؛ فظهرت أطباق عراقيّة معروفة مثل الدّولمة والسمك المسكوف، كما ظهرت أغاني سعدون جابر والتراث الشعبي العراقي. ظهر الحوار مشبعًا ومعبّرًا عن جوّانيّة الشخصيّات، مع أنّني كنت أحبّذ استخدام بعض الحوارات باللغة المحكيّة العراقيّة أو الأردنيّة لتكون من المؤثّثات المعنوية في بناء المشهد الدرامي. استخدمت الكاتبة المونولوج بطريقة مختلفة ومغايرة. تقول سامية: «احتقرتُ الفتاة التي عكستها مرآتي: لماذا تتصرف بأنانيّة مطلقة؟ كيف تبيح لنفسها التّلاعب بمشاعر الآخرين وهي التي طالما تبجّحتْ بطيبتها وبرغبتها ألّا يُصاب أحد حولها بسوء.. قلت أصرخ في وجهها: لقد منحك سالم مشاعره كلها. لم يبقَ لأخرى تأتي من بعدك، ماذا تريدين أكثر؟ ردّتْ فتاة المرآة: ليس الذنب ذنبي، سالم رغم كل شيء يعيش في عالم محدود، أمّا عالمي فيتمدّد أمامي ويكبر».
وحتّى تتمدّد الرواية في الاتجاه السّوريالي الذي انتهجته، طرقتْ باب الماورائيّات والقدرات الخاصة التي يمتلكها بعض الأشخاص، كما ظهر في حادثة مقتل أو انتحار زياد طاهر. تقوم سميّة؛ سكرتيرته التي ينوي الاقتران بها بالإيعاز له ليطلق النار على نفسه وينتحر من خلال الوصول الى مركز التّحكّم في عقله الباطن. كان قد اعتدى عليها وعلى غيرها وأجبرهنّ على ممارسة الجنس معه فكانت نهايته على هذه الشاكلة المأساويّة.


تمعن الرواية في ذاتيّتها وذاتيّة شخصيّاتها، لكنّها لا تهمل المحيط وما يجري حولها من تداعيات اقتصادية واجتماعية وسياسية. الشخصيّات تعيش واقعًا مقلقًا وتشارك بالشأن العام، لكنّها لا تنخرط فيه كليّةً، وهذا برأيي خيار موفق نأى بالرّواية عن التّسجيليّة وتعدد المسارات التي تربك وتؤثر على الحبكة النفسيّة المقصودة. تناولتْ الرواية مواضيع مثل الفساد والحراك والمظاهرات ورفع الأسعار وتغوّل المدارس الخاصّة واغتيال الشخصيّة وسقوط بغداد والربيع العربي والنّفاق السّياسي وتحوّل المعارضين إلى سفراء ودبلوماسيين وغيرها.


حضرت الثقافة الموسيقيّة بقوّة بين دفّتي الرواية، ولعلّ هذا يعكس رؤية الروائيّة بأهميّة الموسيقى في حياتنا لتخفيف التّوتّر والاحتقان وارتفاع ضغط الدم نتيجةً لإيقاع الحياة المربك؛ النّاس يتراكضون دون سبب واضح، السيّارات تطلق أبواقها المزعجة، أمطار طينيّة، أطفال يتسوّلون على الإشارة الضوئيّة، والبقيّة يبتسمون للشاشات الذكيّة. بعد عمر خيرت في مقطوعته (حنين)، وياني في (انعكاس العاطفة)، وشوبان في (ذكريات الماضي)، ونصير شمّا في (ليل بغداد) تأتي أوبرا كارمن لتفضح كل شيء. تقول الكلمات: «عندما تعتقد أنّ الحبّ أصبح بحوزتك، يرحل.. وعندما يرحل يُحكم قبضته عليك.. الحب مثل طفل غجريّ لا يعرف أيّ قانون.. الحب مثل طائر مشاكس، لا أحد يستطيع ترويضه». ولعلّ هذا ما حدث مع سامية التي ظلّ حبّها الأول ينمو وينمو حتى احتلّ روحها وجسدها ولم يترك متّسعًا للآخرين.


هيا صالح تكتب الرواية والقصّة والدراما والنقد والمسرح، وشاركت وتشارك في عضويّة لجان تحكيميّة كثيرة، كما أنّها برعت في الكتابة للطفل. حازت على جوائز كثيرة منها كتارا عن رواية (لون آخر للغروب) وجائزة اتصالات عن روايتها (شقائق النعمان). زاهدة بالضّجيج والضوضاء، تعمل بصمت وتسعّى للتّميّز وتخلص لنصّها. هيا صالح نجمة أردنيّة في سماء عالية.. عالية.

 

 

 

 

المصدر: الدستور

22 أكتوبر, 2021 06:25:27 مساء
0