تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
الشاعر عاقل الخوالدة قلـــق الوجــــود في ديوان «أول طقوس الرحيل»

تشكل الفكرة أول طقوس الكتابة عند الشاعر الذي امتلك تقنيات الشعر والقصيدة، وهل تكفي الفكرة والتقنيات لكتابة قصيدة؟ فكثير من الشعر ينتج عن موقف إنساني مثل قصيدة «المومس العمياء» لبدر شاكر السياب، أو موقف سياسي، مثل قصيدة «لا تصالح» لأمل دنقل، وقد نتجت القصيدة عند الشاعر اليمني عبدالله البردوني، عن مواقف اجتماعية مثل قصيدة «امرأة الفقيد»، أو لأنساق فلسفية مثل أبي العلاء المعري، فالشعر أنساق كما قال عبدالله الغذامي في كتابه «النقد الثقافي»، وهناك قصائد تكتبها المناسبات، مثل قصائد المتنبي في مدح سيف الدولة، ومعلقة عمرو بن كلثوم، افتخارا بقومه، وانتصارا لأمه.

ومثلما تشكل الفكرة القصيدة، تتشكل بعض القصائد من كلمات موسيقية، تأتي عفو الخاطر للشاعرالذي يرتبها على إيقاع ما، حتى تولد الفكرة، وتولد القصيدة، وكلما حاولنا الوصول إلى طقس في كتابة القصيدةعند شاعر ما، لا نجد هذه الطقوس عند شاعر آخر.

وهذا الذي أدخل النقاد عند دراسة القصيدة، لمحاولة التعرفعلى قصدية المفردة عند كتابة القصيدة، أو عفويتها، فالشاعر عاقل الخوالدة، رقيق الحاشية، ينتقي مفرداته بما يتناسب مع النسق الشعري، مع قصدية جميلة لا تخرج القصيدة عن مسارها الفني.

والصورة الفنية التي تنساب مع إيقاع القصيدة، ومفرداتهاعلى بحر أو تفعيلة، أومثل تلك الروح المحلقة في فضاء الشعر، التي تكتب الإلهام والعفوية، والتلقائية بحس مرهف، وذوق عال، حتى تولد القصيدة مثل مقطوعة موسيقية أو لوحة تشكيلية، يعيشها الشاعر طربا في ذاته، ويلقيها في المحافل أكثر إطرابا، وأكثر حلاوة، وهذا ما يفعله عاقل الخوالدة، حين استمعنا لقصائدهفي إحدى المناسبات، والتي وجدتها في الديوان ص 53 بعنوان «أشواق إربدية» وهو يقول:

«ما كان للبعد يا «حوران» معتادَ

فلتحضنيه كأمِ الطفل: إن عادا

ولتشهدي يا مروج «الحصن» أنّ فتى

من «الفدين» دعاه الشوق: فانقادا»

الشعر في طقوس الرحيل، صاف كأنه الماء في بلور شفيف، وقد جاء عنوان الديوان «أول طقوس الرحيل»ليؤشر على العدد مع الترتيب، ولم يفصح لنا العنوان عن أول هذه الطقوس، فهل علينا أن نستخلص أول هذه الطقوس من القصيدة نفسها، والتي أخذ الديوان عنوانه منها، لنتعرف إلى ثاني وثالث طقوس الرحيل، حيث يقول في قصيدته التي افتتح بها الديوان «أول طقوس الرحيل بقوله:

«غدا... حين أرحل نحو الحياة

كريشة ... بكف الرياح..

كسنبلة.. نقبتها الطيور..

كنسمة صبح.. تمر بصمت..

تدغدغ عمري... وفي الحال تمضي

تحاول وصل الغروب الشروق...»

لتتوضح لنا رحلته الأولى في أول طقوس الحياة، في الرحيل نحو الحياة منذ الولادة، مشبها هذه الرحلة بكف الريح، (كريشة طير، كسنبلة، كنسمة صبح)، فهذه التشبيهات الثلاث في رحلته نحو الحياة، خفيفة، رشيقة، سريعة، مضيئة، تمضي سريعا بعد أن تدغدغ العمر، حتى كأنها بخفتها ورشاقتها وسرعتها تصل شروق الشمس بغروبها في لحظة واحدة.

والطقوس هي عادات منظمة عند الشاعر والأديب المبدع، متكررة في كل نص حتى تشكل منظومة متكاملة عنده، وقد درست هذه الطقوس من قبل النقاد، وعلماء النفس، في سيكولوجيا الإبداع كما ورد في كتاب «سيكولوجية الإبداع في الفن والأدب» لمؤلفه يوسف ميخائيل أسعد، فلكل طقوسه، وإن تبدو متشابهة بعض الأحيان بين شاعرين، إلا أنها في الحقيقة منظومة متفردة عند كل شاعر، فلكتابة الشعر طقوسها، وكذلك القصة، والرواية، والفن التشكيلي، وكل مناحي الإبداع لها طقوسها الإبداعية، وللمبدع طقوسه الفنية الذاتية التي يعيشها بداخله، ونعرف هذه الدواخل من السلوك الناتج، أو المتبع عند الشاعر، والذي يبدا بالحلم غالبا، فهل الحلم أول طقوس الرحيل؟ حيث يؤكد قيمة الحلم، وأولويته في قصيدة «أشواق إربدية» ص 53:

«على يديه أطال الحلم غفوته/ وفي العيون تنامى الشوقُ وازدادا/ يخشى العواذل والواشين، إنّ لهم/ في حرقة الشوق لوّاما وجلادا»

وقد عرفنا الحلم في شعره، فلماذا الرحيل؟ وهل يحتاج الرحيل إلى طقوس؟ إن كان الرحيل معنويا في رحلة الشاعر مع قصيدته أو رحلته في عالم الشعر، أو تلك الرحلة في الحياة، هذا يدخلنا في إشكالية الرحيل، فإن كان الرحيل الذي ينتهي بالموت فهي طقوس بيولوجية، وقد يكون هناك شعورا وجوديا يتمحور حول قلق الوجود،يعيشه الشاعر فلسفة خاصة به جاءت من رؤيته للحياة والذات، وعلى القارئ والناقد أن يبحث عميقا في سلوك الشاعر ومعرفته وذاته، وهذا ما يجده القارئ في ختام قصيدة «أول طقوس الرحيل» التي افتتح بها ديوانه بقوله:

«غدا.. حين أسكن.. قلب الثرى...

سيفرح حتما في قريتي

من كان تزعجه رؤيتي

ويفرح قلبي رغم الممات»

فالذات بإشكالياتها درسها علماء النفس، وأهمهم روجرز الذي صنف الذات إلى ذات موجبة، وذات سالبة، ومن يعرف شاعرنا ينتصر للذات الموجبة عند عاقل الخوالدة، تلك الذات بأخلاقها العالية، التي تظهر فيها السلوكات الإيجابية، واهمها التفاعل الإنساني والمحبة، وتقدير الذات، فالذات الإيجابية لا تقبل إلا ذاتا موجبة، رافضة تلك الذوات السالبة التي تتنافى مع قيمه وعاداته وتقاليده وتربيته ونشأته الأصيلة،التي تضع في الميزان كل حركة لقياسها، وقد ظهر هذا الرفض في قصيدته، «في موسم تجفيف التمر» ص 9 حزنه المكنون التي أطلقها صرخة من خلال رمز النخلة، لأنه يعيش موسم آلام لا يجد من يبثه همه إلا تلك النخلة بقوله في القصيدة:

«أهٍ يا نخلة لو تدري

عن وجعي المكنون بلا سبب..

عن صرخة ميلاد الحزن... ولو تدري

فالموسم موسم آلامي المخزونة في الغيم

والغيمة تسرق أقماري... تلهمها في كبد الليل

والليل طويل... يا نخل ولو تدري..»

وهذا يعزز الصوت الداخلي عند الشاعر، فالصوت الداخلي القوي الذي يعرف ما له وما عليه، لنتعرف من خلال جوانية الشاعر عاقل الخوالدة، إلى شخصيته التي نعرفها جميعا، شخصية تحب الرحيل في البروالبحر والذاكرة، شخصية كثيرة التنقل والسفر، شخصية لا تخلو من حلم جميل، شخصية لا تلبس القناع، مؤدب أينما حل وارتحل، وقد تعرفنا إلى هذه الصفات، ولمسها الجميع فيه، وتعرف إليها في ذاته وشخصيته، تعرفنا إلى شاعر يحسن الكلام باختلاف المواقف، ولا يقول الشعر إلا تأدبا، فإن كان خيرا قال، وإن كان غير ذلك غيّره بلسان طيب، وهذا يؤكده في قصيدته،»كلام عن وجه المدينة» ص 15 إذ يقول فيها:

«أغلقت نافذتي وتابعت التهجد في الظلام..

ومنعت أنوار المدينة أن تعكر نسكنا

وحبست أنفاس الدخان فلا تدنس مسكنا..

وذهبت أبحر خلف تلك النافذة

البحر كان الذاكرة

كان التراب»

فمن أين الرحيل وإلى أين هذا الرحيل؟ قد يفصح لنا الديوان «أول طقوس الرحيل» للشاعر عاقل الخوالده عن هذه الأسئلة، وقد يبقيها خفية لنبقى في حالة حيرة، وبحث محاولة منا للإجابة عن تلك الأسئلة.

إن مؤشرات الرحيل في قلق الوجود، سببه الدوافع الغريزية عند الإنسان للبقاء، والحفاظ على هذا الوجود، والامتداد البشري، ولا يخلو القلق الوجودي من فلسفة كونية، يكون مبعثها الدين والإيمان والقرآن، فدرب الرحيل لو كان واحدا، إلا أنه يتعدد بالقلق، فالقلق دافع للبحث، والقلق دافع للإبداع، كما يقول علماء التربية، كما هو دافع للإحباط، فالنجاح والسقوط سببها القلق، والإيمان والقرآن يخففان من هذا القلق في رحلة الوجود، فهو شاعر متحصن بالدين، بهذا فهو أكثر تكيفا مع بيئته ومحيطه، فقد لجأ الشاعر في قصيدته، «نافذة تشرينية» ص 19 إلى تهدئة هذا القلق، بقوله:

«كانوا...

على الدرب..

يسقون الغراس ندى ولا يتأففون..

يشبعون الجو عطرا..

هم بتلك المرحلة..

كانوا مصابيحا..

وآيات من الذكر الحكيمِ..

مرتلة»

فالحلم مؤشر وجودي كما القلق، وكلاهما معاملان لمحاولة التوازن في هذا الوجود، فهل يكون التوازن بالعدل؟ أم يكون التوازن بالمساواة؟ وهل للبشر أن يكونوا متساويين؟فالمساواة ليست عدلا والعدل ليس بالمساواة، سؤال يطرحه الشاعر في قصيدة، «هذيان بانتظار الفجر» ص 25 بقوله:

«متى يتساوى جميع البشر/ ببسط اليمين وقبض الثمين/ ينام السهارى لأجل الدوام/ وجافاك أنت لذيذ المنام»

فالحلم والقلق ليسا مجرد زمان أو وقت معين، رغم أهمية الزمان، وطول هذا الخط، وانحناءه، إن كان له أن ينحني، لكن المكان ظاهرة وجودية عميقة، في ديوان «أول طقوس الرحيل»، فقصيدة «في موسم تجفيف التمر» يجمع الزمان في مفردة موسم، وتجفيف التمر(المربد) في المكان، وكذلك يبدو المكان أكثر نضوجا في ديوانه، في قصيدة «كلام عن وجه المدينة» بدلالات المدينة التي تمثل الحلم والقلق، والتي تمثل اللين والصعب، كذلك يحضر المكان في قصيدة دمشق، وقصيدة رواية حب للبلدة الحبيبة بلعما، وقصيدة أشواق إربدية، وقصيدة وللعشاق في عجلون قلب، فالمكان ظاهرة بارزة في طقوس الشاعر، كما الزمان هو الوجه الآخر للمكان الذي يمثل تلك الطقوس، حيث يتشكل الفضاء ورحلة الإنسان في الزمان والمكان، ومن قصيدة «رواية حب للبلدة الحبيبة بلعما» بلدة الشاعر ومسقط راسه والتي يقول فيها:

«تجلّت بلعما في كل دربٍ/ وفاح عبيرها في كل نادي/ ليأتي القاصدون لها وتمشي/ لها كل المواكب دون حادي/ فتفتح للأحبة الفَ بابٍ/ ويخجل من تكرمها الأعادي/ تفيض مروجها قمحا وحبا/ لتروي بالمحبة كل صادي/ زرعنا في ثراها الشمس حتى/ تجلى وجهها عند الحصادِ».

إن ثنائية المكان والزمان، والحلم، والفكرة وقلق الوجود، في ديوان أول طقوس الرحيل، وجدناه ممتدا في المكان، كم نجد قصائده الأخرى ممتدة في الزمان، أو تجمع الزمان والمكان، مثل نافذة تشرينية، وتمتد في الزمان مثل قصيدة هذيان في انتظار الفجر، وقصيدة في وداع رمضان، وقد يكون الزمان متمثلا في الحنين، المتعمق في الذات والنفس، في قصيدته حنين إلى عصا الراعي، حيث يأخذناالعنوان دفعة واحدة إلى الشاعر الراحل حبيب الزيودي، صاحب ديوان «ناي الراعي»، ولا يبحث الناقد هنا للمقاربة بين الشاعرين فنيا، بل هي المقاربة المكانية، بين بلعما والعالوك، وبالعودة إلى الزمان، نقرأ في قصيدة «في وداع رمضان» ص 29، حيث تتأجج العاطفة الدينية، وتقلل من قلق الوجود في طقوس الرحيل، يقول: «شرف السماء مراتب.. للقاصدين مواكب/ للعابرين إلى ضفاف الخلد... هنّ مراكب/ فالكون بحر وافر.. متنافر .. متقارب/ هو قائم.. متزاحم.. متراحم.. ومواظب/ تنبيك عن سر السماء دلائل وعجائب/ قمر يسبح ربه..... خلف المجرة راغب»

ختاما:

يحمل ديوان «أول طقوس الرحيل» دلائل ضمنية، تكمن في الذات والنفس، وتتحرك في الكون والوجود، فالزمان والمكان حاضران في طقوس الكون، كما هما حاضران في طقوس الشاعر، الذي يحلق في أحلامه، هذا الحلم ليس غرائبيا أو عجائبيا، بل هو واقع وجودي، شكل فكر الشاعر، وطقوسه، وفلسفته، ورؤيته للحياة، الحياة التي يحبها الشاعر، ويخافها في نهاية خط الزمان، يخافها حين الغروب، يخافها منذ الولادة، مما شكل قلقا وجوديا عند الشاعر، حرك دوافعه الإبداعية، لكتابة القصائد العمودية، والتفعيلة في لغة فصيحة حاذقة، ذات دلالة يحاول أن يواري فيها، لكن القارئ الحصيف يلتقط معانيها وصورها، هذا الحلم الذي تشكل مع ذات الشاعر ونفسه، وشكل رؤيته للوجود بكل معانيها السامية والأخلاقية والقيم العالية، فهو شاعر يحمل معاييره ويعيش بناء عليها، فلا يحيد عن درب مهما كان الرحيل طويلا.

من منا لا يعيش الحلم وقلق الوجود؟ مما يشكل من الديوان تعبيرا عن العقل الجمعي للمجتمعات المتدينة من خلال سيرة فردية، في ديوان أول طقوس الرحيل للشاعر عاقل الخوالدة.

 

 

 

المصدر: الدستور

26 نوفمبر, 2021 12:47:54 مساء
0