تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
هناء خليل «قضايا أدبية» سجالات مثيرة في الأدب

في تقديمها لكتابها قضايا أدبية (دار وائل ، عمان، 2021) تقول د. هناء عمر خليل إنها تقف فيه عند أهم القضايا الأدبية التي كانت وما تزال مثار جدل وسجالات لدى المهتمين بالأدب شعره ونثره. وتقديمها تقديما جديدا لا يعوزه الوضوح، ولا تنقصه الجرأة، مع استقصاء الآراء التي تناولت هذه القضايا في القديم والحديث، واستخلاص ما يمكن أن يعد رأيا ترتئيه، واستدلالا تتوصل إليه من النبش في المصادر، والنظر في مختلف المراجع والمظان.

ففي الفصل الأول تتناول ما ادعاه بعضهم من ضعف الشعر العربي في صدر الإسلام من أمثال الأصمعي وأبي عمرو بن العلاء و أبي عبيدة و المحدثين أمثال شوقي ضيف وغيره. وفي الثاني تقف بنا وقفة مطولة متأنية إزاء فن من فنون النثر العربي القديم وهو المقامة. وفي الثالث وقفة أخرى أكثر أناة إزاء فن شعري أندلسي درست آثاره وهو الموشح، وتحدثت في الرابع عن المعارضات الشعرية ما كان منها في القديم كمعارضة بانت سعاد و بردة البوصيري، وما هو حديث كمعارضة شوقي لبعض قصائد المتنبي والبحتري وابن زيدون. أما الخامس، فهو واسطة العقد، وفيه تعرج المؤلفة مشكورة على الشعر الحر وتسميته، وبم يختلف شكلا وفحوى عن الشعر العربي الاتباعي، وما هي تياراته ومن هم رواده. وفي ذلك ما فيه من اتساع البحث، واستعراض الآراء استعراضا مترامي الأطراف، بعيد مناحي التجوال. وفي الفصل الذي يليه تقف بنا عند مسألة الالتزام في الأدب. وهي قضية تؤرق المبدع من جهة، وتهم الدارس الباحث من جهة أخرى، لا سيما أولئك الذين يفضلون التوقف عند علاقة الأدب بالحياة وبالمجتمع، وغاياته الرامية لتغيير الواقع، والسمو به لواقع آخر فيه ما يرضي الجميع. ولا تقل عن هذه الأهمية إشكالية الأجناس الأدبية، وما في الشعر والنثر من الأنواع. ذلك أن الأدب العربي القديم عرف بموقفه الخجول من سؤال التجنيس. ولو أننا لا نعدم من يفرق بين النثر والشعر، وأنواع كل منهما، كابن وهب (335هـ) مؤلف كتاب البرهان في وجوه البيان(1)، وأبي إسحق الصابي (384ه) مؤلف كتاب رسالة في الفرق بين المترسل والشاعرالذي حققه محمد بن عبد الرحمن الهدلق. ومنهم الجاحظ وأبو هلال العسكري وآخرون.

 

 المقامة

والذي لا ريب فيه ولا شك أن بديع الزمان الهمذاني (395هـ) هو مخترع فنّ المقامة، وقد تأثرت المؤلفة بالآراء التي تعزو هذا الفن لآخرين، كابن دريد صاحب الجمهرة، وابن فارس مؤلف الصاحبي. وقد فاتها أن تشير لمن يزعمون أن البديع اقتبس هذا الفن اقتباسا من مواعظ التنوخي في كتابه « الفرج بعد الشدة « ومن « نشوار المحاضرة «. ومن المستشرقين (شتيفان فايلد) من يدعي أن أصول المقامات موجودة في هذين المصدرين، فضلا عن حكايات ابن دريد المروية في أمالي أبي علي القالي. والصحيح أن الباحث الدقيق الذي لا يملّ التمحيص لا يجد حرجا في أن يضم صوته إلى صوت مارون عبود في قوله « المقامات من عمل الهمذاني، فلا لابن فارس، ولا لابن دريد، يد في ذلك، فالبديع هو الذي ألبسها هذا الطراز الموشى، وعلى طريقته سارت عجلة الأداب»

والواقع أن المؤلفة لم تترك صغيرة ولا كبيرة، ولا واردة أو شاردة، في هذا الشأن إلا وتابعتها حتى أنها لم تغفل عن القول بأثر بخلاء الجاحظ ورسائله ونوادره في نشأة المقامات. وأيا ما يكن الأمر فإن المقامة فن يفصح عن الكثير من الينابيع التي غذته لمن يتأمله شكلا، وفحوى. فهو فنٌ يعبر عن ثقافة البديع الذي هو ناثر، وشاعر، يتقن الفارسية، وينظم بها شعرا. وصاحب رأي في الأدب شعره ونثره. ذواقة نقادة نستخرج من مقاماته صورة للأديب الذي يعايش عصره، ويتلمس مشكلات مجتمعه، كانتشار الفقر، والكدية، والاحتيال، والصعلكة، والبخل، والسخرية، والفروق الكبيرة بين الطبقات والانحلال الخلقي مثلما يتضح في المقامة المضيرية، والإيمان بالشعوذة كما في المقامة الحرزية، كذلك الميل للتكسب بطرق ملتوية كما في المقامة الأزادية. أما أسلوب المقامة، فقد عرضت له عرضا أولت الجانب السردي فيه الأولوية. فالمقامة حكاية بيد أنها ليست قصة قصيرة بالمعنى الاصطلاحي الحديث. وشخوصها نمطيون يتكررون من مقامة لأخرى. ونهاياتها في الغالب مواعظ تلقى في كلام موزون مقفى، أو في كلام مسجوع مصنوع. وهذا ما يظهر جليا في مواضع من المقامة الموصلية، وهي المقامة التي لقيت من المؤلفة وجوب الدراسة التفكيكية، فيدرس كل مشهد منها على حدته، يتبع ذلك الوصف، ثم السرد، ثم الحوار، ثم الأسلوب، وهذه الدراسة بلا ريب أفادت فيها من دراساتها السابقة المتراكمة لروايات نجيب الكيلاني، والطيب صالخ، ورواية طابق 99 لجنى فواز الحسن، ورواية ابناء السماء، وغيرها من روايات. على أن شيئا غاب عن المؤلفة ذكره، وهو الطابع الدرامي الفكاهي الذي غلب على مقامات البديع. وذلك جعل بعض الدارسين ومنهم صاحب كتاب رأي في المقامات يعدّ المقامات مسرحًا من النوع المعروف باسم مسرح (الفرجة) وهذا غير غريب، ولا مستنكر؛ فالطيب الصديقي حوَّل مقامات البديع إلى عمل مسرحي كوميدي بعنوان مقامات بديع الزمان الهمذاني. وحقق عرضها لمدة طويلة نجاحا كبيرا. ومن ناحية أخرى غاب عن المؤلفة أن تذكر - ما دامت تستقصي وجهات النظر والآراء- ما كتبه جيمز مونرو في كتابه مقامات بديع الزمان الهمذاني و قصص البيكارسك. وأظنّ لو أنها عادت لهذا الكتاب القيم الذي ترجمه للعربية خليل أبو رحمة وصدر في منشورات جامعة اليرموك 1995 لوجدت فيه ما يغني دراستها الجادة للمقامة(2).

 الموشح الأندلسي

ومثلما وقفت المؤلفة عند قضية المقامة وقفة جادة، جاءت معالجتها لقضية الموشح الأندلسي. أصالته، وما يختلف فيه عن الشعر العربي من حيث البنية والأغراض. فعرضت لثلاثة آراء في أصل الموشح. أولها يزعم القائلون به أن الموشح مشرقي بل بغدادي المنشأ. وهذا الفريق يتخذ من الموشح الذي أوله (أيها الساقي إليك المشتكى) المنسوب لابن المعتز (296هـ) دليلا على صحة هذه الفرضية، مع أن هذا الموشح غير موجود في ديوانه المحقق. ويزيدون: إن الأندلسيين فتنوا به وقلدوه في القرن الثالث الهجري. والثاني يزعم القائلون به أن الموشح نشأ بتأثير من الأغاني الشعبية الجليقية التي كانت متداولة في إسبانيا، وأن الغناء العربي كالشعر تأثرا بهاتيك الأغاني، فكان الموشح من نتائج هذا التأثير، وممن يقولون بهذا الرأي خوليان ريبيرا، وغارثيا غومث، واحتجا لصحة هذه الفرضية بوجود كلمات إسبانية في الجزء الأخير من الموشح المعروف باسم الخرجة. ومن هذا الفريق أناس يردون نشأة الموشح لشعر التروبادور الذي انتشر على أيدي شعراء البروفانس في الجنوب الفرنسي. والمؤلفة ليست ممن يقبلون بهذا، فهي تؤكد أن شعراء التروبادور هم الذين تأثروا بالموشحات لا العكس.

أما الرأي الثالث الذي تميل إليه المؤلفة، فهو الرأي القائل بأن الموشحات ابتكار أندلسي خالص، واستندت في ذلك لأدلة منقولة عن كبار المؤلفين؛ كابن سناء الملك، وابن بسام الشنتريني، وابن خلدون، والعنسي صاحب المقتطف. وأدلة أخرى غير منقولة؛ كملاءمة الظروف الثقافية، والحضرية، لظهور هذا اللون من الغناء الشعري؛ استجابة لدواعي الطرب والتلحين في مجالس الأمراء، وملوك الطوائف المترفين. على أنّ قضية الموشح لا تقتصر على الأصول، وكيف نشأ، وإنما تتسع للبحث في شكل البنية، والخروج على قوالب القصيدة. وفي هذا السياق تحدد لنا الدكتورة هناء المخطط البنيوي؛ من مطلع يتضمن أغصانا، ومن دور يتضمن أسماطا، ومن قفل يتضمن أغصانا بدوره، ومن مركز يتضمن ما يعرف بالخرجة، وهي لا زمة لا بد منها في نهاية الموشح. وتورد فضلا عن ذلك اختلاف مفهوم البيت، والمطلع، وتنوع القوافي، واختلاف طرق الالتزام بها من حين لآخر. وأوزان الموشحات، وهي على نوعين؛ شعرية، تجرى على بحور الشعر العربي تامة، أو مجزوءة، وغير شعرية وهي التي لا تتوافق مع البحور.

وللموشحات أغراضٌ محددة، ففي البدايات اقتصر الموشح على الغزل، والحب، وذكر الشراب، ومجالس اللهو. وربما تطرقت لوصف الورود والرياحين. إلا أنها في القرنين السابع والثامن تجاوزت ذلك لأغراض المدح، والزهد، والرثاء. وممن اشتهروا بالموشحات لسان الدين بن الخطيب صاحب الموشح المشهور(جادك الغيث) الذي نسج فيه على منوال ابن سهل الإشبيلي في الموشح المعروف (هل درى ظبي الحمى أن قد حمى). ومما يؤسف له أنَّ المؤلفة لم تتناول في آخر هذا الفصل نموذجا من الموشحات بالتحليل والدراسة مثلما فعلت في تناولها للمقامة الموصلية في الفصل الثاني. ولا يعرف السبب الذي دعاها للتخلي عن هذا مع أن ذلك يوحي بوحدة النسق في الكتاب، وهذا ما تفطنت إليه في الفصل الخامس الموسوم بعنوان الشعر الحر؛ إذ ختمته بدراسة نقدية لقصيدة (من مذكرات المتنبي في مصر) لأمل دنقل.

 الشعر الحر

كعادتها لا بد من إثارة إشكالية في مقدمة كل فصل. وهنا أثارت مشكلة التسمية، فما الذي نعنيه بالشعر المرسل، والشعر الحر، والشعر المعاصر، والشعر الحديث، والشعر المنطلق، وشعر التفعيلة، وهذه الأسئلة لها ما يسوغها لأن بعض الدارسين والباحثين يستعملونها استعمال المترادفات، وآخرون يجدون بينها فروقا لا يجوز أن نغض عنها النظر. بيد أن المؤلفة أقحمت بين هذه التسميات عبارة « الشعر الواقعي « (ص176) وأظن وصف الشعر بالواقعي، أو غير الواقعي، شيء لا علاقة له بالتسمية، ولا بالمشكلة المطروحة على بساط البحث. أما بقية التسميات فهي – في رأينا- ومثلما يتضح في متن الفصل شيءٌ افتراضي يخفي طيه ضربا من سوء الفهم لا أكثر ولا أقل. لأن العبرة في مضمون المصطلح لا في اللفظ ذاته. وكانت نازك الملائكة قد أطلقت على هذا الشعر اسم الشعر الحر، لكن جبرا إبراهيم جبرا اختلف معها لكون الحر من الشعر هو الذي يخلو من الوزن.

ويبدو أن الكتاب وُضع للتدريس أي ما يسمى text book بدليل أنها تخصص مساحة كبيرة لنشأة هذا الشعر، ومن هو أول من كتب، أو نظم، قصيدة يصدق عليها وصف القصيدة الأولى. وهل هو بدر شاكر السياب (1926- 1964) أم نازك الملائكة، أم لويس عوض، أم عرار على ذمة محقق ديوانه عشيات وادي اليابس، أم هو سلم الخاسر على رأي عبدالله الغذامي. ومهما يكن الأمر، فليس الوقوف على من هو صاحب أول قصيدة بالمهم، إنما الأهم هو معرفة من الذي أوصل هذا النوع من الشعر إلى ما وصل إليه من إتقان، وهل هو نازك الملائكة أم السياب أم البياتي أم بلند الحيديري. وعند طرح هذا السؤال تتوارى أسماء أخرى ذكرت كلويس عوض وعرار وعلي أحمد باكثير.

وفي الحديث عن العوامل التي تؤدي لظهور تيارات أدبية، وفنية، جديدة مضطربٌ واسع للاجتهادات. إذ يكثر الحديث عن الدوافع النفسية، والنفور من النموذج التقليدي الراسخ، والسعي للتجديد، والتمرد على العادات والتقاليد الجامدة، والتحرر من القديم الذي تضيق به المواهب الفردية، والتأثر بالأدب العالمي. وفي هذا الجانب جاء حديث الدكتورة هناء خليل مشبعا بالقرائن والأمثلة الكافية. ولعلها بذلك تغذ الخطى لتقفنا على أمر آخر نراه أولى بالحديث، والتوضيح، وهو معمار القصيدة. وهذا ما أجادت الحديث فيه غير أن الحديث عن مخاطر الشعر الحر (ص203) نقض ذلك؛ فالمخاطر والمزالق لا تقتصر على الشعر الحر. فالشعر عموما عرضة للكثير من التعثر لا سيما إذا كثر مدعو الشعر من غير الموهوبين. فمثلما يوجد في الشعر الحر شعر رديء كذلك يوجد في الشعر غير الحر شعر رديء. ولو اطلعنا على هذا الفصل قبل نشره لاقترحنا على المؤلفة حذف ما جاء فيه من ص 203 – 205 فهو من لزوم ما لا يلزم.

وقد أحسنت المؤلفة إذ اختارت قصيدة أمل دنقل(من مذكرات المتنبي في مصر) لدراستها بصفتها نموذجا من الشعر الحر. فالاختيار مناسب، والدراسة جيدةٌ، نفذت منها إلى إيضاح ما لم يتضح من الجانب النظري. سواء أكان الأمر مما يتصل بالقناع، أو البناء الدرامي، أو التناص، فضلا عن الوحدة، والتماسك النصي. وهذا ما كان يحتاج إليه الحديث السابق عن مزايا الشعر الحر. (ص189- 203) فهذه الدراسة وَضَعت مثلما يقال النِقاط على الحروف.

 كلمة أخيرة

ويطول بنا الأمر إذا نحن واصلنا تناول فصول هذا الكتاب وعددها سبعة بمثل ما تناولنا هذه الفصول الثلاثة. وهي في نظرنا مهمة من جهتين، الأولى أنها تتناول نوعين أدبيين عربيين درست معالمهما، وامحت آثارهما، وهما: المقامة والموشح. ومن جهة أخرى، فإن تناول الشعر الحر – المسمى معاصرا وحديثا ومنطلقا وتفعيليا – من زاوية فنية جادة مثلما جاء في دراستها لقصيدة أمل دنقل المذكورة يُعدُّ في نظرنا من المسائل الأدبية المعاصرة التي ما تزال في حاجةٍ ماسةٍ للدراسة والبحث.

 1.انظر خليل ، إبراهيم: مقاربات في نظرية الأدب ونظرية اللغة، ط1، مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، 2007 ص 26

2.انظر خليل، إبراهيم، في نظرية الأدب وعلم النص، ط1، بيروت، الدار العربية للعلوم (ناشرون) والجزائر، دار الاختلاف، 2010 ص 19- 23

 

 

 

المصدر: الدستور

26 نوفمبر, 2021 12:51:30 مساء
0