تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
عيسى مخلوف كتاب «ضفاف أخرى»… عزفٌ لا يحتاج إلى آلاتٍ موسيقية

«هناك عزفٌ لا يحتاج إلى آلاتٍ موسيقية. وهناك طريقة في الاستماع إلى الموسيقى، تبدو جزءا منها». هكذا يشرح عيسى مخلوف علاقته بالأشياء، والحياة والفنون والأدب. عزفٌ مستمر، على أوتار خفية، تقود العالم إلى «ضفاف أخرى».


في كتابه الأخير «ضفاف أخرى» الذي وضعه مخلوف في خانة السيرة، الصادر هذه السنة، عن دار الرافدين، هو عبارة عن حوار مطول مع علي محمود خضير، عن الحياة التي عاشها، ويعيشها، وسيعيشها عيسى مخلوف. في نسخةٍ خاصة به، لا تُشبه الآخرين. ولا تسعى إلى ذلك، بل تسير وحدها وفق إيقاعها الخاص، وموسيقاها الخاصة. من أجل جعل العالم أفضل. لعل هذا أكبر هاجس يلاحظه القارئ في»ضفاف أخرى».

ولعل عيسى مخلوف الشاعر الوحيد، الذي لم يُغرقه انشغاله بنفسه، طوال حياته كان يفكر في الآخرين، وفي المحيط الذي يتشاركه معهم، بدلا من أن يُطيل الوقوف عند نوافذ طفولته، وهواجسه الشخصية والفردية، ونظرته الخاصة إلى العالم. وبدلا من أن يُشاركنا همومه الذاتية، وشعورا سائدا لدى الجميع بالحيف، وعدم الإنصاف، شاركنا هموم العالم، وسعيه لجعله أفضل. وشاركنا محبته للآخرين، وكرمه في العطاء. عطاء الشاعر الغني بالشعر، والممتلئ بالمحبة، والصديق الصدوق لأصدقائه.


ما قاله عيسى عن إتيل عدنان الشاعرة والفنانة اللبنانية، لا مثيل له في المحبة والتقدير: «لا تُحصي الوقت ولا تتذمر من الأيام التي تمضي، لأنها مأخوذة بشيء آخر: البحث عن جوهر الأشياء، وعن سر الذات والكون. لكن هذا البحث الفلسفي والبحث الشعري معا لا يلهيانها، ولم يلهياها يوما، عن أحوال العالم الراهن وقضاياه، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، ووضع المرأة في العالم أجمع، وفي العالم العربي خصوصا. هذه النحلة منشغلة برحيق الأزهار، مأهولة لوحاتها بالجبال والوهاد والتلال، بالبحار والشواطئ والخلجان، وبدعوة مستمرة إلى السفر، وعدم الركون والثبات. كتبت عن الجبال قائلة: «الجبال والبحار هي وجهي الآخر. الوجه الأكثر ثباتا في الزمان» هكذا تسابق إتيل عُمرها وتسابق زمنها، بل تعرف أن زمنها غير محدد بزمن».


أعود إلى لحظة الموسيقى، لشرح هذه المحبة التي يقرأ بها عيسى مخلوف إتيل عدنان: «تحضرني الآن لقطة من فيلم «كازابلانكا» تطلب فيها أنغريد من سام عازف البيانو، أن يعزف مقطوعة موسيقية، كانت تحب الاستماع إليها. تطلبها بإلحاح، ويرتعش الجانبُ الأيسر من شفتها العليا. هذه الحركة أقوى بكثير من الكلمات التي رافقتها، وتذهب أبعد منها، ففيها توسل المنكسر المفعم بالرجاء. كأن حياة برغمان تتوقف على المقطوعة الموسيقية، التي طلبت الاستماع إليها».


كان أنسي الحاج، ثاني صديق يلفتني ما كتبه عنه عيسى، في سياق حديثه عن شخصيات أدبية صديقة له: «أخبرني أُنسي في مسائه الباريسي الأخير، وكنا نجتاز المدينة من أولها إلى آخرها، بأنه كتب قصيدة يتحدث فيها عن طفل يتيم، يلتهم ثدي أمه، أو أنه يلتهم أُمه بأكملها. لست أدري حين سمعته باتت الكلمات مبعثرة، مشوشة وغامضة. لم أجرؤ على الالتفات إليه لأتأكد مما جاء على لسانه، كنت أفكر في ما يمكن أن يقول رجل مثله، فقد والدته وهو بعد طفل. والذي قاله بالتحديد؟ أي كلام لفرط وضوحه يعصى على الإدراك؟ تابعنا طريقنا. عبرنا الجسر إلى الضفة الأخرى.. عبرنا الكلام الذي يُشعل حرائق، كأنني لم أسمع شيئا، أو كأنني، بلا وعي مني، لا أريد أن أكون شاهدا على مجاعته إلى أم، أو إلى الأمومة، إلى أن يكون هو الأم والابن معا، الثدي الذي يُرضع والرضيع في آن واحد». عدا عن احتفائه بالجمال والصداقة، احتفى عيسى بالإنساني، حين كانت همومه إنسانية محضة، تتجاوز الجغرافيا، والانتماء العرقي والديني والجنسي. ليقف مع الإنسان، كيفما كان جنسه، أو لونه أو ثقافته أو انتماءه.

 

وشغَلهُ مصير الإنسان وبيئته التي تعاني بشدة من قسوته وأنانيته أحيانا، ومن قلة حيلته أحيانا أخرى. لكن ما يلفت بقوة أيضا، هو وقوفه بجانب المرأة، من معرفتي بعيسى، أعرف أنه أكثر من يهتم بالمرأة، ويكترث لحقوقها وإنسانيتها، بين الرجال الذين قرأت لهم أو التقيت بهم، إيمانه بالمرأة ليس ذلك الإيمان الفلكلوري الذي يتبناه البعض، أو ذلك الانشغال السطحي العابر بوضعها، بل هو النسوي أكثر من النساء، والقلقُ على إنسانيتهن أكثر مما يقلقن هن أنفسهن، فهو العارف بشروط العيش الإنساني، روحيا وجسديا وعلائقيا، يُدرك كم هي ورطة النساء عميقة في عالم ذكوري، ويبدأ من أصغر جزء وأدق تفصيل، إلى القضايا الكبرى التي تمس المرأة: «تكتب إلين سيكسو صرختها العالية، التي يمتزج فيها وجع الذات بالعالم، تتحرك فوق رقعة واسعة من الأساليب، وأنواع التعبير من الرواية والشعر إلى الفلسفة، هل تنفصل الرغبة في المرأة عن جسدها؟ تلك الرغبة التي «قد لا تكون سوى نزوع مقنع إلى اللحم البشري» وفق تعبير نوفاليس، أو كما كتب بودلير تحت رسم المرأة: هكذا يُمسي الحب لعبة على حافة العدم، شكلا من أشكال الاندماج فيه، والاتحاد به. من هنا أراها طالعة غيومه، كلماته، كيف يمكن كلمة أن تحمل هذا الذي يحملها إياه، ولا تنوء؟». وحتى في حديثه عن فنانات أو كاتبات، يُلامس العمق في عطائهن، وأرواحهن الموضوعة على طاولة الفن: «كانت فاني أردن وحدها على الخشبة، تؤدي نصا عنوانه «هيروشيما حبي» لمارغريت دوراس. لم تكن تؤدي النص بإتقان وحسب، بل كانت تعبر عن حبها لها أيضا، لذلك ذهبت به إلى أماكن بعيدة. لا تنفصل موهبة بعض الممثلات عن وعيهن الثقافي.. وتُعبر إيزابيل أدجاني حين تحكي عن الحب، عن تجربتها الشخصية في الحب، وينصت إليها السامع، لا تخجل أدجاني من نزعتها الرومانسية، وهشاشة قلبها، وتفصح عن معاناتها، وتقول أوجاعها وجروحها بلا تردد، وتتحدث عن تجاوز المحن، وعن طريقتها الخاصة في حماية الذات، من الاعتداءات الخارجية المتكررة، تركز على الحب الخائب والمعذب، الذي هو في الغالب من حصة النساء». ثم، ينشغل عيسى بمصير المرأة العربية، خلال عصر الثورات العربية، التي حمل بعضها إسلاميين إلى الحكم: «بعد سقوط القذافي أطل رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي مصطفى عبد الجليل، بهيئته الصوفية السمحة، وهدوء صوته، معلنا اتخاذ بلاده الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع، وأشار إلى إنهاء تقييد تعدد الزوجات بموافقة الزوجة، فبدت المرأة، في هذا الحديث الذي يُكرس دونية المرأة، في يوم تحرير ليبيا من القذافي، أنها من غنائم الحرب».


ويعود إلى الوراء، بادئا بالإشارة إلى «المزج بين الطبيعة والمرأة، التي حسب قول ابن الرومي، «يُشمس الليل منها» يلفت انتباهنا إلى «أن الالتفاف على المرأة وربطها بالمشهد الطبيعي، يركز في نسبة كبيرة منه في الأدب العربي، على جمالها الحسي الملموس، أي الجمال البدني، غافلا في معظم الأحيان الجانب النفسي والحياة الداخلية، عازلا جمالها عن وجودها ككائن يفرح ويحزن ويعاني». ومنتهيا، بأن يذهب أبعد في تناول معاناة المرأة، بالعودة إلى تاريخ من الظلم، ساهمت بعض النصوص الدينية في نظره في تكريس دونية المرأة: «في سفر التكوين، كانت جنة عدن مليئة بأشجار من كل صنف ونوع، في مكان منزه كهذا، رفع «العهد القديم» قصة آدم وحواء «كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل» إلا شجرة واحدة محرمة في «وسط الجنة» هي شجرة معرفة الخير والشر، إنها الشجرة التي تحولت معبرا للخطيئة، ومدخلا للموت ورمزا لدونية المرأة: «إلى رجلك يكون اشتياقكِ وهو يسود عليكِ».


بحثتُ عن باريس في عيني عيسى مخلوف، ووجدتها كثيفة ولافتة في «ضفاف أخرى»: باريس متحف مفتوح، إلى يسار المسرح محل لبيع الأزهار، آخر مرة مررت به، كنت رفقة الصديق المترجم فيليب فيغرو، يتصدر الواجهة الزجاج، كتابان لبودلير محاطان بالورد والزنبق: «أزهار الشر» و«قصائد نثرية قصيرة». أمام في أعلى الجدار، عبارة لراينر ماريا ريلكه، جاء فيها: «صحيح أن الجذر لا يعرف شيئا عن الثمار، إلا أنه يغذيها». رآنا ستانيسلاس صاحب المحل، نتملى العبارة، فاقترب منا ودعانا إلى الدخول، وأخبرنا عن اهتمامه بالأدب والأزهار. قال إن والده الممثل إتيين درابير لطالما ردد على مسمعه وهو طفل، العبارة التالية: «لا تدخل بيتا لا يحتوي على كتب وأزهار». جوابا على سؤال: ما أكثر ما غيرته باريس في نفسك؟ يجيب عيسى: «النقد الذاتي المتواصل قبل نقد الآخر، قبول الاختلاف، إعادة النظر الدائم في الأشياء. وما توفره من كتب وأفلام وعروض مسرحية، وفنون تشكيلية وموسيقى وأوبرا ورقص وندوات.. والذائقة الجمالية هنا، لا تظهر في الفضاء الإبداعي وحسب» فباريس «قبل أن تحضر في الواقع كانت صورة متخيلة في ذهني، قراءات كتب روائيين وشعراء فرنسيين ونصوصهم، يوم كنت ما أزال في لبنان.

 

بعد وصولي إلى هنا، اكتشفت كيف أن الأدب يعيد صوغ الواقع، ويضفي عليه انطباعات الكاتب وأحاسيسه ورؤيته ونظرته الخاصة، هكذا يعيد كل كاتب صوغ المكان وفق مزاجه الخاص. وفق أثره في نفسه، فتتعدد المدينة الواحدة، من هنا يساهم الأدب في صناعة المدن، ومخيلة جماعية عالمية. لا تحضر باريس كتاباته بصورة وصفية أو خلفية للحدث، وإنما بصورة أكثر التحاما مع الذات والذاكرة والوقت، تغير المشهد المحيط ببرج إيفل، بعد أن وضع على طول الرصيف الفاصل بينه وبين الطريق العام، جدار مرتفع من الزجاج المقوى تتقدمه أعمدة صغيرة من الحديد الصلب، لا يمكن اختراقها أصبحت الآن قاعدته مكبلة بهذه الاحتياطات الأمنية، التي لم يكن لها وجود منذ بنائه. أصبح البرج الأشهر في العالم خائفا على نفسه وزواره. هناك حالة هلع في أغلب الأمكنة، ومتاجرة سياسية بالخوف، أصبح استعمال هذه الورقة سياسة دولية قائمة في ذاتها، الهدف منها تحويل العالم بأمله ثكنة كبيرة، تعيش مظلة الخوف، بدلا من معالجة الأسباب التي تولد العنف».


في «ضفاف أخرى» لا يتمنع عيسى عن العودة إلى كتبه، والاستشهاد بها: «في عين السراب تبدأ فقرة عنوانها الحلم، على هذا النحو: «يراودني الآن، مرة أخرى، ذلك الحلم، وكنا فيه نجتاز معا «الساحة المربعة» الكبيرة في متحف اللوفر. نخرج من بوابتها الحجرية إلى الشارع العام. أمامنا الكنيسة القديمة بأحجارها المحفورة بإتقان، يتلاعب بين زواياها الضوء والظل». «نحن أيضا محصلة الأماكن التي نعيش فيها. وهذه الأماكن ليست مجرد حجارة وعمارة، وشوارع وساحات، إنها أكثر من ذلك، يتشربها جسد الكائن وروحه وتصبح جزءا من كيانه».


حين سمى عيسى كتابه ضفافا أخرى، كان يعني أنه سيقف عند كل الضفاف، التي تشغل الإنسان المعني بالفنون والجمال والإنسانية، لأن كل ذلك لا يتجزأ، وأنه سيواصل مساره شاعرا ورائيا ومفكرا في الكلمات، والأشياء، والإنسان، الذي هو مصدر كل شيء جميل، أو غير جميل. هو صانع الكلمة ومتلقيها، كيف يتدبر حمله من الكلمات، وكيف يعتني بشجرتها. هنا أقول ما تمنيت أن يكون، وهو أن تطول بعض الأجوبة التي كانت بالغة التركيز، رغم أنها تُعنى بمسألة جوهرية. لعله الحرص على حجم الكتاب، لكن لا أظن حجمه الحالي كبيرا، بل أظن القارئ لن يمانع أن تفوت سيرة فكر وحياة عيسى مخلوف – التي تأتي في 340 صفحة – الأربعمئة صفحة، الضفاف التي وقف عندها عيسى مخلوف زاخرة، وعميقة وخصبة تستحق الإطالة والتمهل في اكتشافها. لكن العزاء أن كتبا مقبلة أخرى، ستواصل الشرب من النهر الكبير للشعر والفن والجمال والفلسفة، الذي يغترف منه عيسى مخلوف.

 

 

 

 

المصدر: القدس العربي.

16 ديسمبر, 2021 01:16:41 مساء
0