مصطفى رجوان جولة في عقل «الكائن البلاغي» للمغربي
يعد أبو عثمان عمرو بن بحر، الملقب بالجاحظ (ت 255هـ) علامة فارقة في تاريخ الثقافة العربية والأدب العربي، فقد كان عالما موسوعيا، وباحثا دؤوبا، وبلاغيا كثير المؤلفات، وقد كتب في شتى مناحي المعرفة المتاحة في عصره؛ فاستحق الجاحظ أن يكون رمزا ثقافيا، ليس للعرب وحدهم، بل للبشرية كلها.
الجاحظ من أكثر المؤلفين تأثيرا في غيرهم اتفاقا واختلافا، وقد دار حوله العديد من المناقشات، لكن الجميع يقر له بالريادة والتفوق والنبوغ، حتى صار أهم كتاب العصر العباسي وأكثرهم براعة وتنوعا. تعد كتب «البيان والتبيين» و»الحيوان» و»البخلاء» المؤلفات الأشهر والأهم للجاحظ والأكثر تأثيرا في غيره، خاصة كتاب «البيان والتبيين» الذي كثرت حوله الجدالات، فهو من الكتب الرائدة في الثقافة العربية، وكان مصدر إلهام لباحثين كثر، وكثرت الكتب التي تناولته شرحا وتفسيرا ونقدا وتعددت القراءات عنه.
كتاب «البيان والتبيين» من الكتب التي يمكن أن يُطلق عليها وصف الكُتب الحية، يتفاعل معها المتلقي في كل زمان ومكان، تلك الكتب التي نخرج منها بأفكار ورؤى جديدة مع كل قراءة، لقد أثبت هذا الكتاب أن الجاحظ ذا عقلية فذة غير تقليدية، عقلية متميزة، لا تكتفي بالحفظ فقط، بل تتجاوزه إلى الإبداع، ولا تكتفي بالنقل، بل يكون الابتكار شريكا له، كتاب «البيان والتبيين» من الكتب التي تولد المعرفة وتتشاركها، وليس من الكتب التي تحجر على المعرفة وتقيدها، إنه كتاب يتناول الثقافة بمفهومها الشامل والأدب في إطاره العام.
وجاء كتاب «الكائن البلاغي اللغة والعقل والاستطاعة في كتاب البيان والتبيين» للباحث مصطفى رجوان، ليكون من الكتب التي قدمت قراءة جديدة لكتاب «البيان والتبيين» بمنطلقات معرفية تتسق مع العصر الراهن، ولا تتغافل عن العصر الذي ألّف فيه الكتاب، وقد استطاع الباحث أن يستلهم الجاحظ على نحو كلي استلهاما جيدا. إن الإنسان لا يستطيع أن يعيش دون لغة، فبها يتواصل وبها يعرف الأشياء ويدرك ماهيتها، إن الإنسان يتكون معرفيا من خلال اللغة؛ فقد قيل إنّ اللغة ـ أي لغة – وعاء الفكر، فاللغة وسيلة الاتصال الكبرى ودونها لا يتحقق التفاعل، وهذا ينطبق على كل أشكال اللغة، حتى اللغة المشفرة واللغة الرقمية وغيرها، ولا سبيل للمعرفة إلا من خلالها. أما العقل فهو أداة التفكر والتبصر والتأمل، إنه المتلقي للغة والمترجم لها والمعيد لتشكيلها، واللغة لا توجد على نحو جيد إلا في عقل جيد، يستطيع فهمها وتأويلها، ثم تأتي الاستطاعة التي تتحكم في العقل واللغة معا، وتخرج ما أنتجه العقل في إطار اللغة وتمنح الإنسان حرية القول، كما تمنحه حرية الفعل. إن اللغة تبقى ساكنة ما لم يتلقفها العقل ويتفاعل معها ويعيد إنتاجها، والعقل يبقى مقيدا، ما لم تحرره الاستطاعة وتمنحه ما يستحق.
إذن فالإنسان من خلال هذه الثلاثية (اللغة – العقل – الاستطاعة) يعد كائنا بلاغيا بالمفهوم الشامل، فالإنسان بحاجة إلى التواصل مع نفسه ومع الآخرين، يحتاج لأن يملك أشكال الخطاب كافة، التي تمكنه من التعامل مع كل السياقات، ويتأتى له ذلك من خلال اللغة والعقل والاستطاعة، ليصبح بذلك كائنا بلاغيا، لا على مستوى الخطاب الأدبي فقط، بل على مستوى الخطاب التداولي أيضا، وقد جاء كتاب «الكائن البلاغي» ليدرس هذه الثلاثية (اللغة – العقل – الاستطاعة) في فكر الجاحظ من خلال كتابه «البيان والتبيين».
يبدأ الكتاب بتقديم لمحمد الولي، الذي يعد الجاحظ أول المبشرين بالشكلانية قبل شيوعها في الدراسات غير العربية، ويحتفي بفكر الجاحظ، ويشير إلى أهم الكتابات التي أعادت إنتاج الجاحظ بعد هضمه، أما كتاب الكائن البلاغي لمصطفى رجوان فيتكون من ستة فصول، تتصدرها مقدمة وتعقبها خاتمة.
الفصل الأول بعنوان: سياج أوّلي، ويتناول تنظيم كتاب «البيان والتبيين» ومدى اتساقه من خلال دراسة نسقية داخلية تتعلق بالترتيب والمركز والهامش، وبنية الكتاب، حل من خلالها إشكالية التناقض الظاهري البادية على الكتاب، أما الشق الثاني من هذا الفصل فيتناول السياج الخارجي ويدرس من خلاله مدى انسجام الكتاب مع العصر الذي كتب فيه، فيتناول فيه الذات ودوائرها، وحلل فيه عنوان الكتاب، وعتبة الاستهلال.
أما الفصل الثاني فكان بعنوان: الفصاحة والبيان والبلاغة، وتناول المنطق والعقل والاستطاعة والفصاحة والبيان والبلاغة، من خلال تعريف النطق والفصاحة والبيان والبلاغة، ثم تطرق إلى المنطق والبيان والبلاغة في كتاب «الحيوان» وتناول أيضا التركيب والدلالة والتداول والمعتزلة في الفصاحة والبيان والبلاغة.
وجاء الفصل الثالث بعنوان: قضايا الخطابة، تكلم فيه رجوان عن «البيان والتبيين» من الخصوصية إلى التعليم، وتعليم الخطابة، وكذلك أبرز وجهة نظر الجاحظ المضادة للصمت والدفاع عن الخطابة، والخطابة كونها وسيلة سياسية والعصا بين الخطابة والثقافة.
وجاء الفصل الرابع بعنوان: قوانين الخطاب التداولي، مثل: مقدمات الخطابة ومذهب التوسط والطبع والتكلف وبلاغة المستمع والتبين، بين الخطيب والمستمع ومبدأ المحاسبة والإيجاز والإطناب.
أما الفصل الخامس فبعنوان: الإنسان كائن بلاغي: عرف فيه الباحث الإنسان والأنا والآخر، ثم تطرق إلى الحيوان كمقياس للإنسان وبلاغته، ثم البلاغة والحيوان وناقش مقولة أرسطو (الإنسان حيوان ناطق) على نحو مستفيض، ثم تناول الطبيعة والتعلم.
وجاء الفصل السادس بعنوان مقام الخطابة ومقام الشعر، وتناول الخطابية والشعرية والبلاغة الشعرية في «البيان والتبيين» والتداول والتخييل والإقناع والإمتاع والإيتوس بين المناسبة والإغراب والذاكرة.
يتميز كتاب «الكائن البلاغي» لمصطفى رجوان بالعديد من المميزات، نذكر منها:
ربط الكتاب بين الجاحظ وسياقه الخارجي، وعلى رأسها تأثر الجاحظ بالمعتزلة ودفاعه المضمر والصريح عنهم واحتفاؤه بفكرهم وشيوخهم.
استطاع أن يرصد تأثر الجاحظ بسابقيه ومعاصريه وأثر الجاحظ في من جاء بعده من كتاب مشرقيين وغربيين في آن، وتصحيح بعض المفاهيم المغلوطة حول الجاحظ وفكره، مع دعوته أيضا إلى دراسة الجاحظ في سياق الجاحظ لا في سياق غيره.
استطاع الكتاب إدارة السجال الذي دار بين أنصار العقل، ممثلين في الجاحظ وأنصار النص ممثلين في الإمام الشافعي، ومناقشة مصطلح البيان بينهم بطريقة ذكية، دون أن يميل لأحد الفريقين، أو ينتصر لأحدهما على الآخر، خاصة أن الفريقين يدافعان عن الثقافة العربية ويتصديان للشعوبية.
أثبت الباحث أن كتاب «البيان والتبين» تحققت فيه صفة الانسجام، ونفى عنه مقولة التشتت التي ظلت لصيقة به ردحا من الزمن.
لم يكتف الكتاب بتحليل كتاب «البيان والتبيين» فقط، بل امتد ليشمل الكثير من كتب الجاحظ، حتى كاد كتاب «الحيوان» يباري كتاب «البيان والتبيين» داخل مدونة الدراسة، وقد أثبت ذلك كلية فكر الجاحظ وترابطه، رغم التشعب البادي عليه.
نفى الكاتب عن الجاحظ تأثره بأرسطو، فوعي الكاتب بالنتاج الأرسطي والجاحظي في آن، ساعده في الخروج بتلك النتيجة المهمة.
لم يتوقف الباحث كذلك عند تحليل كتب الجاحظ، بل امتد ليشمل خطابات سابقة للجاحظ تأثر بها، مثل «صحيفة بشر بن المعتمر» وأقوال لواصل بن عطاء والنظام وغيرهم، ثم طبق بعض ما استخلصه على نصوص معاصرة، شعرا ورواية وسينما، ليستخلص من فكر الجاحظ أدوات لتحليل الخطاب بمفهومه الشامل في عصرنا الحالي.
دعوة الباحث على الانفتاح على الآخر؛ فالمعرفة إنسانية غير منغلقة ولا يحتكرها قوم دون قوم، وضرب لنا بالجاحظ وجيله مثالا لذلك.
ونخلص إلى أن كتاب «الكائن البلاغي» ليس كتابا في البلاغة، بقدر ما هو كتاب في فلسفة البلاغة وما يكمن خلفها، إنه كتاب يبحث في أصول العلم وغاياته، كتاب لا يبحث عن المعروف المتداول، بل يبحث عن المضمر ليعيد من خلاله قراءة العلم بطريقة جديدة ويعيد تأويل المعرفة بما يتناسب مع متطلبات الواقع.
المصدر:القدس العربي