تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
ماجد البرهومي

«لأنهم لم يفهموا معنى الزمن العائد، وكيفية التوافق معه بمراسم تليق بالحدث، فقد أطلقوا من جديد شبح بورقيبة الذي غدا رمزا للمعارضة».
(ميشيل كامو)
«عندما يفعل الزمن فعله..ويفرز الغث من السمين ويحل التاريخ محل راهن الأحداث، سوف يخرج الحبيب بورقيبة من جحيمه، ويعود تمثال الفارس التونسي الأكثر مجدا ليتبوأ مكانه في تونس»..
(الباجي قائد السبسي)
إن العامل الأشد ضغطا هو الحديث عن الحبيب بورقيبة و«الثورة التونسية» التي تتأهب للاحتفال بعيد ميلادها الحادي عشر، وهي التي قامت على الدولة الوطنية التي وضع أسسها وخط لها طريقها الزعيم بورقيبة. ومن مفارقات التاريخ ومكره أن الشخصية التي طغت على عشرية «ثورة الحرية والكرامة» هي شخصية الحبيب بورقيبة، الذي «انبعث من مرقده الأخير» ليتحول إلى عامل مهم من عوامل تنشيط الحوار السياسي والأيديولوجي، بل إلى عامل محدد في توجيه مسارات الحياة السياسية. فقد اعتقد الإسلاميون حين تحصلوا على الأغلبية في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي لسنة 2011 أن ساعة «الانتقام الرمزي» من الحبيب بورقيبة قد حانت، وأن مشروعهم «البديل» سيقضي على ما تكرس من الرؤية البورقيبية في القوانين والمؤسسات، معتقدين أن رحيل «الأب سياسيا وجسديا» يجعلهم أمام مجتمع بلا قدوة، ولا مرجع، خاصة أن التيارات السياسية الأخرى كانت تستند إلى أيديولوجيات «انتهت مدة صلاحيتها» وفقدت قدرتها على التعبئة والتأثير.


لكن الحبيب بورقيبة كان له رأي مغاير وهو المسجى في قبره، فإرثه ترسخ وأبى أن يموت، وتحول إلى أداة حدت من جموح حركة النهضة في مرحلة أولى ثم إلى عنصر فاعل ومحدد في هزمها انتخابيا سنة 2014. ومن أكبر مفارقات التاريخ في الحالة التونسية أن الرئيس الذي وصل إلى سدة الحكم في انتخابات سنة 2019 بفضل شعار القطع الكلي مع الماضي، يجد نفسه أمام الأزمة السياسية الخانقة التي تهز البلاد، يدعو إلى العودة إلى دستور سنة 1959، وهو دستور الحبيب بورقيبة بامتياز، إذ لعب الأخير دورا كبيرا في سنّه وكانت التعديلات التي أدخلها عليه لاحقا وتحديدا سنة 1974 سببا من أسباب تطور حركات معارضته، التي اعتبرت أن حكمه الأبوي والرافض لأن يتحدد في الزمن، تحول إلى حكم فردي يحول دون تطور المجتمع. ويبدو أن ما تعيش على وقعه تونس في السنوات الأخيرة من مظاهر تفكك واضحة للدولة والمجتمع والوطن، سيزيد من الحاجة إلى «استعادة» الحبيب بورقيبة الذي كرس حياته لبناء الدولة وإصلاح المجتمع وتحرير الوطن ثم تكريس سيادته.


كان الحبيب بورقيبة مرحليا في تنزيل الإصلاحات، لكنه كان «شاملا» دون أن يقع في «الشمولية» في رؤيته للمجتمع التونسي، ولما يجب أن تكون عليه أوضاعه. ولعل ذلك ما جعله يتجنب الوقوع في الارتجال والتجريب والتلمس الطفولي، الذي وقع فيه الذين تولوا مقاليد الأمور بعد 14 يناير/ كانون الثاني 2011، لأنهم فككوا ثلاثية الدولة والمجتمع والوطن، التي شكلت قاعدة بناء الحبيب بورقيبة للنموذج التونسي. لأنه لا يمكن الحفاظ على حرمة الوطن، إذا كان المجتمع مأزوما ومتخلفا ولا يمكن للدولة أن تكون مهابة في مجتمع تنخره الأمراض الاجتماعية. هذه الجوانب جميعا كانت حاضرة في كتاب ماجد البرهومي عن الحبيب بورقيبة «الحاضر الغائب» وهو ما يمنح الكتاب خصوصية وأهمية، وإن كنت أميل إلى الاعتقاد، أن هذا الأثر يحمل صفات تفرد أخرى، خاصة أن الحبيب بورقيبة يعتبر من أكثر الشخصيات التونسية التي أُشبعت بحثا وتأليفا. وفي ما كتبه البرهومي انتقال مهم في زاوية المقاربة وقطيعة، يتعين إبرازها، مع ما «تكرس» من «تقاليد الكتابة عن الحبيب بورقيبة».


ففي ما يتعلق بالقطيعة، فإنه تجدر الإشارة إلى أن الكتابة عن الحبيب بورقيبة، ظلت حكرا تقريبا على المؤرخين المحترفين، ومن عاصروا أول رئيس للجمهورية التونسية، سواء من الذين عملوا تحت إمرته، أو من الذين اختلفوا معه وعارضوه، إلى جانب كتابات ذات محاور محددة اهتمت بعلاقة الحبيب بورقيبة بجانب من جوانب الحياة أو بملف من الملفات التي فتحها بطريقته. ودون إغلاق باب المستقبل ومصادرة الحق في التفكير، فإن ما أشرنا إليه آنفا من أنماط الكتابة عن الحبيب بورقيبة، قد استنفد تقريبا كل أغراضه، ولم يعد يثير الفضول المعرفي، إذ قيل تقريبا كل ما يمكن أن يقال.


أما ماجد البرهومي، فإلى جانب أنه تجنب هذه المقاربات، فإن كتابه عن الحبيب بورقيبة يمثل انتقالا مهما في مستويين على الأقل، هناك انتقال جيلي مهم لأن الجيل الذي ينتمي إليه البرهومي، سمع وقرأ عن الحبيب بورقيبة، أكثر مما عاش معه وهو ما يعني أننا أمام رؤية جيل تربى في المناخات التي وفرها الحبيب بورقيبة، دون أن يعايشه، وهذا معطى مهم من الناحيتين السياسية والسوسيولوجية، وما يقدمه البرهومي من إضاءات حول سياسات وشخصية الحبيب بورقيبة، يمنح القارئ زاوية نظر جديدة ويمثل عامل تواصل للحديث عن الحبيب بورقيبة، من جيل معاصريه إلى الأجيال التي ستأتي بعد سنوات. أما في مستوى القطيعة فقد استفاد المؤلف من الكتابات التي اهتمت بالحبيب بورقيبة من زاوية الصراع السياسي والأيديولوجي، أو تلك التي وضعها المؤرخون المحترفون، علاوة على اطلاعه على الكتابات التي تطرقت إلى علاقة الحبيب بورقيبة ببعض الملفات والقضايا، لكنه تجاوزها إلى مقاربة «تفهمية» لا تخفي التقدير الكبير للحبيب بورقيبة، لكنها لا تتعسف على الوقائع والأحداث، وهو ما يجعل من هذا العمل رحلة متميزة في تاريخ وحاضر ومستقبل تونس من خلال الجولة التي قام بها، بأسلوب شيق، قلم ماجد البرهومي في جوانب من سيرة وإنجازات الحبيب بورقيبة.


وللإشارة فقد صدر الكتاب حديثا في تونس عن دار «نحن» للإبداع والنشر والتوزيع في تونس. ويؤكد المؤلف رجل القانون والكاتب والباحث والمحلل السياسي، على أن كتابه هو انطباعات ذاتية خاصة به تتعلق بمحطات في مسيرة الزعيم بورقيبة، كما يتضمن تحليلا لأسباب عودة البورقيبية من جديد، وأسباب هذا الجدل المحتدم في تونس حول شخص الزعيم ومسيرته. كما يؤكد أن مؤلفه ليس كتابا تاريخيا، وأنه يحترم المؤرخين ولا يسطو على اختصاصاتهم.

 

 

 

المصدر: القدس العربي

 

22 ديسمبر, 2021 11:59:49 صباحا
0