تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
ميمونة الشيشاني الذات في رواية «دمعة ذئب»

هل تغني الرواية عن التاريخ؟ وهل يمكن للتاريخ وحده أن يوثق الصلات المرجوة مع قلب القارئ، وهل يمكن للواقع أن ينحاز للمتخيل ليقدم مشهداً يسكن القارئ ولا يغادره؟ كل تلك الأسئلة، أجابتنا عليها ميمونة الشيشاني في روايتها «دمعة ذئب».

 

يقال نقدياً: أن العنوان هو عتبة النص، وهو مفتاح المتن والأبواب المغلقة، لوحة الغلاف بصورة الذئب القوقازي الأبيض في المساحات الشاسعة للثلج وخلفها جبال الشيشان، كانت الدلالة الأولى، بأننا سنكون حتماً أمام تلك التجربة الانسانية التي حدثت قبل مئة عام لشعب هُجر من موطنه الأصلي (الشيشان) هرباً من بطش السوفيات الذين لاحقوهم في دنياهم ودينهم، والسؤال المطروح هو، لماذا الدمعة؟ والمتعارف عليه بأن الذئب هو الحيوان الحيد صاحب الأنفة فهو لا يروض ولا يؤسر وان حدث بأن يقع بالأسر فانه يموت بعد ثلاثة ايام فقط!

 

هنا لا بد من الوقوف عند هذه الإشارة المهمة (الدمعة) دلالات العنوان أو سيميائيته أصبحت واضحة وفي متناول القارئ، الذئب ذلك الفارس الشيشاني الذي لا يرضى بالضيم والاحتلال، لكنه برغم كل تلك الأنفة، سقطت دمعته رغما عنه وهو يودع جبال وسهول الشيشان والثلج الذي ربما كان تسيل دموعه بفعل حرارة الفراق.

 

كان لا بد لميمونة وهي الشيشانية، أن تظل تلك الحكاية تؤرقها دائماً لتقولها على طريقتها الخاصة وليس على طريقة المؤرخين التقليدية، كان لا بد من اشعال النيران في جبال الشيشان الباردة، ولا بد تأخذ الحدث الكبير الذي طالت تبعاته أمة كاملة، بعين (بيتمت) تلك الفتاة لشيشانية التي أحبها ذات لحظة هاربة في غروب يوم شيشاني الفارس (ايدمر) بكامل تفاصيله وزيه التقليدي من الخنجر الى القبعة الى الثوب وحزام الرصاص الى الحذاء الجلدي الذي يرتديه الفرسان

 

كل تلك التوليفة انسجم معها قلب الفتاة الصغير لتنتهي علاقتهما بزواج على الطريقة الشيشانية.

 

صنعت ميمونة تلك القصة لتكون بمثابة الإطار الذي ستضع القارئ به، حول كل ما يخص أبناء جلدتها بقالب روائي باذخ، فهي تحدثت عن العادات الشيشانية في الأعراس، والزواج وقصص الحب واللباس وموسيقى الاوكورديون وحلقات الرقص التي يشتهر بها ذلك الشعب، والأطباق الشعبية والثيران والعربات وكل تفاصيل المجتمع الشيشاني، إذن هي بذلك تؤثث لذاكرة جمعية ستظل حية في لدى الأجيال اللاحقة، ولأن كل ما يكتب يبقى وكل ما يقال يذهب أدراج الرياح، فقد أثرت ميمونة بأن تكتب هاجسها لتظل الكلمات في دفتي الرواية مرجعاً لمن يريد الوقوع في الحنين الشرس (لديغستا) أرض الشيشان.

 

لم تترك الرواية ذلك الحدث الدامي وممارسة القتل والتعسف من قبل السوفيات على الشعب الشيشاني، ومحاولة السوفيات بفرض احتلال لأرضهم وجرهم للتبعية لهم، من هنا انبثقت شعلة المقاومة لدى الشعب الشيشاني، فذهب منهم الكثير للمقاومة والدفاع عن أرضهم وتاريخيهم وتراثهم ودينهم.

 

عمدت الروائية الى شخصيات أسطورية مثل (بحارمات) كانت موجودة أصلاً لدى الشعب الشيشاني وأسقطت الواقع بكل ما فيه من مقاومة، فأحدثت نوعاً من الانسجام بين الواقعي والمتخيل، مسجلة بأسلوب أدبي مليء ومصورة أيضاً للأبطال الشيشانيين الذي استبسلوا في الدفاع عن أرضهم وثقافتهم الراوي.

 

تلك الأحداث التي ساقتها ميمونة هي أحداث تاريخية حدثت قبل مائتي عام تقريباً، والتركيز جاء في الرواية على وصول المهاجرين الشيشان الى منطقة السخنة في مدينة الزرقاء، والمصادر التي سوف تعتمد عليها في روايتها بالتأكيد ليست موجودة الآن، لذلك عمدت إلى أسلوب احترافي باختلاق شخصية خيالية (عمر) المعمر الشيشاني الذي سوف تستنطقه عن الحكاية المثقلة بالاغتراب.

جاء الحكي الروائي عن طريق الاسترجاع (الفلاش بالك) وعلى لسان عمر بذلك خرجت الروائية من سؤال القارئ التاريخي، كيف عرفتِ؟

 

تحدث عمر عن بدايات هجرة الشيشان والعائلات الكثيرة التي فرت من بلادها، لأمرين، البطش السسوفياتي بهم والهروب بدينهم، وجاء ذلك على لسان الشخصية الشيشانية (توسولت) حين رأى رؤية كان لها دلالاتها وهي رؤية الظلام الدامس الذي غطى الأرض الشيشانية فكانت تلك الرؤية هي السبب الرئيسي في الهجرة.

 

 البدايات

تجمعت العائلات الشيشانية بعرباتهم التي تجرها الثيران، والروائية تستلهم التاريخ من شخصيتها الرئيسية عمر، الذي كلما تريد أن تبعث للفكرة للقارىء تلجأ اليه ليتحدث بلسان الراوي العليم، وقد أجادت ميمونة بتصوير ذلك المشهد المليء بالأسى لشخصيات الرواية الكثيرة.

 

في الهجرة حدث الكثير، ولادة وموت ومرض وبرد قارس وقصص الحب وسهول الثلج الأبيض والأكثر من ذلك هو في كل خطوة يبتعدون عن البلاد هي بمثابة لا عودة، تلك المشاعر جاءت بها ميمونة على معظم شخصياتها وهو يتنقلون – مودعين – بلدهم التي دفعوا الغالي والنفيس ليحافظوا على وجودهم بها، لكن وأمام تلك الالة العسكرية الهمجية لم يستطيعوا الوقوف بوجهها في ظل القصف اليومي العشوائي للبيوت المتواضعة.

 

 الزرقاء (السخنة)

تؤثث الروائية لتاريخ وصول السكان إلى مدينة السخنة، القرية التي يحدها سيل الزرقاء والخالية تقريبا من كل شيء باستثناء الأشجار التي تنمو على ضفاف السيل، فيبدأ المهاجرون بتشييد تلك المدينة وبناء بيوتهم بجانب السيل واستخدام الأراضي للزراعة، وهنا دلالة على تأسيس المدينة من خلال وجود المهاجرين بخبرتهم وثقافتهم الزراعية وهكذا يكون تأسيس المدينة، ولاحقاً بالاندماج مع المجتمع ثقافياً واجتماعياً.

 

 فلسطين، أبو محمود اليافاوي

ثمة انسجام وتطابق كبير أرادت الروائية بحسها القومي والعروبي أن تقدمه للقارئ، حيث جاء في الفصل الأخير قصة ذلك اللاجىء الفلسطيني الذي اقتلع من يافا ولجوئه، هنا يكمن التطابق بين الهجرتين، الفلسطينية والشيشانية، وكيف أن الشعبين قدما كل تلك التضحيات في سبيل أرضهم، وقاربت بين الاحتلال الصهيوني الغاشم وبين بطش السوفيات آنذاك، فهي بذلك تضعهما في بوتقة واحدة، وخاصة أن ميمونة قد صورت أيضاً تفاصيل الشعب الفلسطيني في الاحتفاظ بهويته ولثقافته ولباسه التقليدي، وكأنها بذلك تريد إيصال فكرة، أن المقاومة تشمل كل شيء حتى في الحفاظ على اللغة واللهجة والتراث الذي ينتقل الى الأجيال

في رواية دمعة ذئب مادة جديدة وقديمة معاً، فهي قديمة لوجودها في كتب التاريخ والدراسات، لكن ميمونة تريد كروائية يسكنها ذلك الحنين المر، أن توثق بالمشهد حكاية شعبها بكامل تفاصيله.

 

 

 

 

 

المصدر: الدستور 

23 يناير, 2022 10:36:45 صباحا
0