تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

خدعة عيد القديسين تستحضر الأشباح الساكنة في العقل

وَهْم «ماري الدموية» يستحضر مناظر غريبة إلى المرآة. ويُواجِه مراسلنا بشجاعة طيفًا يمكن أن يساعد حالات مرضى الفصام.

بينما رحت أعدُّ الغرفة، شعرت كأنِّي أعدُّ العدَّة لجلسة استحضار أرواح. أسدلتُ الستائر حتى أحجب معظم الضوء، ووضعت مقعدين كلٌّ منهما على بُعْد نحو متر من الآخَر. وضعتُ مرآة كبيرة على أحدهما، وجلستُ على الآخَر حتى أتمكَّنَ بالكاد من رؤية انعكاس صورتي في الغرفة شبه المظلمة. ثم ضبطتُ المُوَقِّت على ١٠ دقائق وانتظرتُ ظهور الوجوه في صبر.

عندما تظهر الوجوه، يكون الأمر مباغِتًا. في البداية تظهر اختلالات طفيفة في المرآة؛ على غرار حاجب مرفوع أو اختلاجة في الفم، ولكن بعد سبع دقائق بدا انعكاسي زائفًا فجأةً، وكأنه تمثال من الشمع، ثم لا يعود الوجه وجهي. ولبضع ثوانٍ يحدِّق فيَّ رجل عجوز ذو جبهةٍ تشوبها تجاعيد غائرة وفم مترهل.

عندما رأى جيوفاني كابوتو الوجوهَ لأول مرة، زاره أيضًا طيف رجل عجوز، فقال: «أذكر جيِّدًا جدًّا أنِّي خفت من التعبير شديد الجدية الذي ارتسم على وجه الرجل العجوز المحدِّق فيَّ.» وقد سجَّل كابوتو — عالِم نفس في جامعة أوربينو بإيطاليا — ظهورَ الوهم مرات عديدة حتى الآن لدى أشخاص كُثُر، وهو يرى أنَّ الأمر أكثر بكثير من مجرد حيلة مخيفة تُنَفَّذ في الاحتفال بعيد القدِّيسين.

بتحليل عملية التعرُّف على وجهنا ذاته، يمكن لذلك الوهم أن يخبرنا الكثير عن طريقة تكويننا لحس الذات والهوية. ويبدو أنَّ تلك الرؤى المزعجة تُثِير أيضًا شعورَ الانفصال ذاته الملاحَظ لدى الأشخاص المصابين باضطراب إجهاد ما بعد الصدمة والفصام، وهو ما قد يساعدنا على فَهْم العمليَّات التي تخلق الأعراض المفزِعة لهذين المرضَيْن.

وعلى الرغم من أنَّ كابوتو كان أول مَن وصف ذلك الوهم من وجهة نظر علمية، فربما كان معروفًا في التراث الشعبي منذ آلاف السنين. فيقول دفين تيرهون مختص علم النفس التجريبي في جامعة أكسفورد: «ثمة تقليد متَّبَع منذ قديم الأزل لاستخدام الناس الأسطح العاكسة في خلق هلاوس.» على سبيل المثال: يُظهِر تصويرُ الإغريق للطقوس الديونيسية المستجَدِّين وهم يتطَّلعون إلى مرآة، ربما في محاولة منهم لرؤية الأرواح من العالم السفلي. ثم هناك الألعاب التي يردِّد فيها الأشخاص عبارةَ: «ماري الدموية»، أمام المرآة؛ أملًا في استحضار طيفها. وفقًا للأساطير، يمكن لتلك الروح أن تكشف عن المستقبل.

ألفَى كابوتو ذلك الوهم لأول مرة مصادفةً منذ أربعة أعوام. ففي إطار تجربة تناولَتْ مسألة الهوية الذاتية، كان قد أعدَّ مكانًا محاطًا بالمرايا من جميع النواحي، يمكن للمتطوعين أن يواجِهوا فيه انعكاسات متعددة لأنفسهم. عادةً ما كانت تلك التجارب تُجرَى في إضاءة طبيعية، إلا أنَّه قرَّر في ساعة مبكرة ذات صباح أنْ يجلس أمام المرايا فيما كان المكان شبه مظلم، وعندما شرعت الأوجه الغريبة في الظهور خشي أنْ تكون نِتاج هلوسة، لكنَّ فضوله استبدَّ به. في نهاية الأمر، جرَّبَ ذلك الوهم على أشخاص آخَرين ووجد أنهم رأوا وجوهًا أيضًا.

منذ اكتشافه الذي جاء بطريق المصادفة، وجد كابوتو أنَّ معظم الناس يلاحِظون درجةً ما من الاختلال الغريب في وجههم إذا حدَّقوا في المرآة في إضاءة خافتة لمدة ١٠ دقائق على الأقل، وقال: «عادةً بعد نحو دقيقة واحدة من التطلُّع إلى المرآة، تبدُر من العينين حركة أو بريق، أو ينفتح الفم، أو يصير الأنف ضخمًا للغاية. وإذا واصَلْتَ التطلُّعَ إلى المرآة تحدث تغيُّرات كبيرة جدًّا، حتى تظهر وجوه جديدة كليًّا.» والوجوه التي تظهر ليست وجوهًا آدمية فحسب؛ فبعض الأشخاص قالوا إنهم شاهدوا حيواناتٍ وكائناتٍ خياليةً أخرى أو وحوشًا.

في البداية، داخَلَه شك في أنَّ الأطياف الظاهرة قد تكون وليدةَ تأثير تروكسلر، الذي تبدأ فيه الأجسام الواقعة في محيط بصرنا في الاختفاء عند التحديق في مشهد ما، وهو ما يذهب العلماء إلى أنه يحدث عندما تكف الخلايا العصبية عن الاستجابة للمدخلات غير المتغيِّرة. ولكن على الرغم من أنَّ مثل تلك الاختلالات يمكن أن تفسِّر سببَ بدء بعض أجزاء الوجه الظاهرة في المرآة في التبدُّل والتغيُّر، فما لا يتضح هو سبب انبثاق ملامح أخرى مكانها.

تلك السمة تجعل ذلك الوهمَ شبيهًا بآخَر يحدث عندما تحدِّق النظر في نقطة تقع خارج إطار صورة لشخص، بحيث يصير الوجه في مجال الرؤية المحيطية. فعلى غرار الانعكاسات الظاهرة في وهم المرآة، يمكن أن تلوح على الوجه تعبيرات وملامح جديدة، بل وربما يتحوَّل إلى وجه شخص آخَر.

أنتَ لم تَعُدْ أنتَ

أحد التفسيرات المحتملة لهذا الوهم هو أن الرؤية غير المكتملة للصورة تخلُّ بطريقة ربط الدماغ بين ملامح مثل العينين والأنف والفم حتى يكوِّن وجهًا معروفًا. وبينما يجتهد الدماغ في استيعاب ما يراه، ربما يجذب أجزاءً من الذاكرة لتعويض ضعف الإدراك الحسِّي، وربما يجمِّع «صورةً مركَّبة» من ملامح مختلفة، بحيث تأخذ في الاقتراب من ملامح شخص آخَر. وفي وهم المرآة الذي اكتشفه كابوتو، ربما تحدث اختلالات مشابِهة بسبب ضعف الإضاءة، وتختفي الأطياف عندما تشتد درجة الإضاءة.

ولكن ما يُكسِب وَهْمَ كابوتو غرابةً هو أنَّه يغيِّر الوجه المطل عليك من المرآة! فيقول كابوتو: «فجأةً تعي أنه ثمَّةَ شخصٌ آخَر خلف المرآة.»

يُظَن أنَّ التعرُّف على انعكاسنا علامة رئيسية على حسِّ الذات لدينا. عادةً يتضمَّن ذلك تفاعلات دقيقة بين عملياتنا الحركية والإدراك والإحساس الداخلي بالحركة؛ إذ يربط الدماغ بين ما يشاهده في المرآة والمشاعر التي يحسها الجسد، حتى ينشئ حس الهوية لديه. ولكن عندما يبدأ انعكاسنا في التغيُّر يختلُّ حسُّ الذات — الحد الفاصل بيننا وبين الآخَرين — هو الآخَر، وهو ما قد يفسِّر سببَ كون تلك التجربة مزعجةً أكثر بكثير من غيرها من الأوهام البصرية.

الأمر الواضح هو أنَّ قدرتنا على معالجة الوجوه والتعرُّف على الذات أكثر تقلُّبًا بكثير مما قد نتخيَّل، وإنْ كان ثمَّةَ حاجة إلى بذل جهد أكبر لتأكيد العمليات المحدَّدة التي تُساهِم في ظهور تلك الرؤى الطيفية. ولكن أيًّا كان السبب الذي يُعزَى إليه هذا الوهم، فقد بدأ يجتذب دائرةً أوسع من الاهتمام؛ نظرًا لأن آثاره المزعجة تُنشِئ على ما يبدو أعراضَ حالةٍ ذهنيةٍ شهيرةٍ أخرى.

يقول كريس بروين من كلية لندن الجامعية: «ما اكتشفه كابوتو بطريق المصادفة يمثِّل وسيلة لإحداث صورة من صور الانفصال.» يتميَّز الانفصال باختلال الخبرة الواعية، على غرار إدراك أنَّ الوقت يمرُّ بمعدَّل أسرع أو أبطأ، والشعور بأنَّ كل شيء يبدو غير حقيقي أو يحدث بوتيرة معينة. تلك الأحاسيس — التي يبدو أنها تظهر أثناء التحديق في المرآة — شائعة الحدوث في الخبرات المؤلمة؛ مما يجعل ذلك الوهم مهمًّا بالنسبة إلى مختصِّي علم النفس السريري مثل بروين. ثم يقول: «ثمة أدلة قوية جدًّا على أنَّ الأشخاص الذين يتعرَّضون لخبرات انفصالية أكثر أثناء المرور بواقعة مؤلمة، يكونون أكثرَ عُرضةً للإصابة باضطراب إجهاد ما بعد الصدمة.»

كثيرًا ما يتضمَّن ذلك الاضطراب استرجاعَ ذكريات حيَّة بصفة متكرِّرة، وهو ما يرى بروين أنه يمكن أن يكون مرتبطًا بطريقة تكوين الذكريات أثناء التعرُّض للخبرة الانفصالية. وقد ابتكَرَ بالتعاون مع عالِم الأعصاب نيل برجيس وآخَرين في كلية لندن الجامعية نموذجًا لتكوين الذاكرة تتشكَّل فيه الذكرياتُ على جزأين: ذكريات قائمة على الخبرات الشخصية تضع الحَدَث في سياقه، و«لقطات» تسجِّل المشاهد بتفاصيل كثيرة لكن بقدر بسيط من السياق.

وفقًا لنظرية بروين، يعيق الانفصال عمليةَ تكوين الذكريات المشتملة على سياق. فدون تلك الدعامة، يصير الأرجح أن تعود الذكريات التي تأخذ شكل لقطات في صورة استرجاعات لا إرادية لذكريات الماضي. وبالمِثل، أثبتت الأبحاث أنَّ الأشخاص الذين يُواجِهون صعوبةً في تكوين الذاكرة القائمة على التجارب الشخصية، هم أيضًا أكثر عُرضةً للإصابة باضطراب إجهاد ما بعد الصدمة؛ ربما لأن مشاهد الذكريات المسترجَعَة تكون غير متصلة ببقية قصة حياتهم.

العلاج بالتأمُّل

يتحوَّل بروين الآن إلى وهم كابوتو بغيةَ اختبار الفكرة. استخدم فريقه استبيانًا سريريًّا قياسيًّا لتقييم مستويات الانفصال لدى الناس بعد فترة من التحديق في المرآة. نتج عن ذلك الاستبيان كثير من الأعراض ذاتها، بما في ذلك الشعور بالانفصال الجسدي واختلال الإحساس بمرور الوقت.

وقد كلَّفَ المتطوعين أيضًا بسلسلة من مهام الذاكرة، مثل أن يَحكِي لهم قصة عقب التعرُّض للوهم مباشَرَةً، ثم يطلب منهم تذكُّر تفاصيلها بعد مرور ١٠ دقائق. فبعد تلك الفترة، واجَهُوا صعوبةً جمَّةً في تذكُّر القصة، وهو ما يبدو متماشيًا مع مشكلات ترميز السياق التي تنبَّأت بها نظرية بروين. فأحيانًا يسترجع الأشخاص المصابون بحالةِ انفصالٍ خبرةً من الماضي بعد رؤية فيلم مخيف؛ لذا قد يكون من المهم أن نعرف إن كان وَهْم كابوتو — والآثار المقترنة به على الذاكرة — يزيد تلك الاحتمالية.

يرى تيرهون أنَّ الوهم أداة مفيدة، فيقول: «إنَّ إحداثَ حالة الانفصال لَذو قيمة كبيرة.» فهو يستخدِم ذلك الوهم في محاولة فَهْم طبيعة تأثير انفعالاتنا على حالة الانفصال، لكنه يحذِّر من أنَّ الإيحاء قد يضطلع بدور في الوهم؛ فبما أن الباحثين ملزمين لدواعي أخلاقية بأن يخطروا المشاركين مسبقًا باحتمال مشاهدتهم رؤًى، فإنهم بهذا يهيئونهم لرؤية أشياء.

أما اهتمامات كابوتو فتنصبُّ على حالة مختلفة، وإنْ كانت تخلِّف دمارًا مساويًا؛ فقد شكَّل فريقًا في الآونة الأخيرة من مجموعة من الباحثين من جامعة ميلانو وجامعة فيرونا، بهدف دراسة تأثير الوهم على الأشخاص المصابين بالفصام. في بعض الحالات رأى أنه يمكن استخدام ذلك الوهم استخدامًا علاجيًّا.

وجد الفريق أنَّ الأوهام كانت قويةً بصفة خاصة فيما بين المصابين بالفصام؛ إذ بدأت أسرع وتضمَّنت وجوهًا متعدِّدة. في البداية كان كابوتو قَلِقًا مما قد يُحدِثه الوهم من ضرر، إلا أنَّ عدة أشخاص قالوا: إنَّ رؤية وجه شخصية كانوا قد استبطنوها عادَتْ عليهم بالنفع. على سبيل المثال، زعمت امرأة ذات ميول انتحارية أنها استحضرت وجه الشخص الذي يحاوِل قتلها. ويقول كابوتو: «تحدَّثَ المرضى عن إدراكهم خطرًا كان كامنًا داخلهم.»

تتمثَّل الفكرة في مواجهة الرؤى أثناء العلاج. وشجَّع نهج مشابِه مرضى الفصام على تكوين نماذج رمزية حاسوبية تجسِّد الأصوات التي يسمعونها داخل رءوسهم. بعد ستِّ جلسات — ساعَدَ فيها المعالِجُ المشاركين على التفاعُل مع النماذج الرمزية حتى صارت أقل تهديدًا لهم — سجَّل معظم المشاركين تحسُّنَ الأعراض التي كانوا يعانون منها. ويظن كابوتو أنَّ وهم المرآة يمكن أن يكون له الأثر ذاته دون استخدام برامج متخصصة.

في الوقت الحالي لا يزال كابوتو عاكفًا على استكشاف مدى قدرته على توسيع نطاق الاستفادة من الوهم؛ فمنذ دراسته الأولى مضى ليُثبِت حدوثَ تأثير مشابِه عند ارتداء الأشخاص الخاضعين للتجربة القناع المُستخدَم في طقوس ديانة الشنتو. ففي تلك الحالة، دبَّتِ الحياةُ في القناع ونظر متجهِّمًا إلى المشاركين في التجربة! ووجد كابوتو أيضًا أنَّ بعض الناس يتعرَّضون إلى الوهم نفسه عندما يحدِّقون في شخص آخَر في إضاءة خافتة. والمثير للفضول أنَّ المشاعر تكون أشدَّ؛ ربما لأنَّ الاستجابة الدقيقة المتبادَلَة بين وجه وآخَر — إذ تحاكِي تعبيراتُ كلٍّ منهما التغييراتِ الطفيفةَ التي تطرأ على الآخَر — تضاعِف الشعور بالاختلال.

ربما تكون الرؤى الأكثر قوةً خطوةً أبعد من اللازم بالنسبة إليَّ. فآخِر طيف يظهر في المرآة يكون كائنًا ممسوخًا شبيهًا بالوحوش، ولحُسْن الحظ سرعان ما يدقُّ المُوَقِّت الذي استخدمته بعد ظهور ذلك الطيف، فقد انقضَتِ الدقائقُ العشر، وبَطَلَ مفعولُ السحر.

06 ديسمبر, 2015 01:35:51 مساء
0