تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

كون فوضوي: كيف تقضي الفوضى على الطاقة المظلمة؟

يرتكز نموذج الكون لدينا على افتراض ذكي مفاده أنَّ الأشياء كلها تبدو متشابهة في كل أنحاء الكون. ولكن هل يجعلنا ذلك الافتراض نرى أشياء غير موجودة؟

 باب ينفتح على مصراعيه دون وقوف أحد وراءه. مزهرية تحلِّق في الهواء من على رفِّ المدفأة وتقذف بنفسها عبر الغرفة. قطع أثاث تشرع في الحركة من تلقاء نفسها.

إن الكون اليوم يشبه أحد أفلام الأشباح تلك إلى حد ما. تدور المجرَّات على نحو غير مفهوم، وتتسابق مجموعات النجوم في أنحاء الفضاء؛ إذ تتجاذبها قوًى تتجاوز حدود الكون المنظور. والنسيج الفضائي مَرِنٌ على نحو يتعذر تفسيره؛ إذ ما ينفك يتمدَّد بسرعة متزايدة مدفوعًا بطاقة مُبهَمَة قائمة بذاتها.

وعلماء الكونيات، الذين لا يؤمنون بالخرافات كثيرًا، يبتدعون أسماءً للأرواح الشريرة المسئولة عن هذه الظواهر — المادة المظلمة والتدفق المظلم والطاقة المظلمة — ويكرِّسون جهدًا كبيرًا لإثبات أنها حقيقية. ولكن هل من الوارد أنهم يطاردون أشباحًا أيضًا؟ هذا ما يراه بعض العلماء من زمرتهم؛ فهم يذهبون إلى أنَّ النموذج المعياري للكون قائم على تبسيط مفرط لنظرية النسبية العامة لأينشتاين — النظرية التي يرتكز عليها علم الكونيات بأكمله — وتتضمَّن افتراضًا غير مبرَّر بشأن كيفية توزيع الأشياء في الكون. هل إذا جردنا الأمور من هذه التصورات الخاطئة سنتمكن من تخليص الكون من تلك الظواهر غير المرغوب بها؟

تبدأ الحجج المطروحة بشأن الكون في يومنا هذا بأينشتاين وتنتهي عنده؛ فمعادلات النسبية العامة التي وضعها تَصِفُ كيف ينحني المكان والزمان حول تلك المادة، فتحدث معدلات التسارع المحلية التي نفسرها على أنها قوة الجاذبية؛ وعلى النطاق الأعظم، تحدد مسار تطور الكون. وطوال القرن الماضي، عمل علماء الكونيات على تدعيم معادلات أينشتاين بملاحظاتهم التحسينية، وشيئًا فشيئًا نقَّحوا النموذج المعياري. وها نحن أولاءِ في كون نشأ منذ نحو ١٣٫٨ مليار سنة في صورة ثقب كثيفٍ ملتهب إلى حد يفوق التصور، ومنذ ذلك الحين وهو يتمدد ويبرد على نحو متماثل في الاتجاهات كافة.

إلا أنه بُغية تطويع معادلات أينشتاين فائقة التعقيد والوصول إلى مثل تلك النتائج، لا بد أولًا من ترسيخ بعض الافتراضات في النموذج بغرض التبسيط. أحد تلك الافتراضات له أصول مميزة على نحو خاص؛ فعندما أرسى نيكولاس كوبرنيكوس مبدأه في القرن السادس عشر، كان مفاده أن الأرض ليست محور الكون. وفي علم الكونيات الحديث، تحوَّر ذلك المبدأ إلى المبدأ الفلكي القائل بأن الأرض ليست مميَّزَة عن غيرها على الإطلاق؛ فنحن نرى الكون من منظورنا الخاص، ونستخلص استنتاجاتٍ يمكن أن تسري على كل مكان آخر أيضًا. يسفر ذلك عن افتراضين متصلين؛ أولًا: أن الكون متجانس؛ إذ تبدو هيئته واحدة تقريبًا من المواقع كافة، وثانيًا: أن الكون متسق الاتجاهات؛ إذ تبدو هيئته واحدة تقريبًا من الاتجاهات كافة، من أي وجهة.

يرى البعض أن هذين افتراضان لا يدعمهما سند؛ فكوننا الحالي تسبح فيه مجرَّات على هيئة عناقيد وخيوط من المادة موزَّعة حول حدود فراغات هائلة على شكل فقاعة. تلك الفراغات تضم قرابة عُشر كثافة المادة التي تتكون منها العناقيد المجرِّيَّة، ولكنها تمثل أكثر من ٦٠ في المائة من حجم الكون. يقول توماس بوخِرت — من جامعة ليون بفرنسا: «الجميع يعرف أنَّ الكون غير متجانس. وإن إضفاء الصبغة المثالية على مثل ذلك الكيان المعقَّد بالقول بأنه متجانس هو عمل جريء.»

عادةً ما يُنَحَّى هذا التعارض جانبًا باستخدام مفهوم التجانس الإحصائي؛ ومفاده أنَّ الكون الذي نبحث عنه سنجده إن نظرنا إليه من على بُعد كافٍ. على نطاق يبلغ نحو ٤٠٠ مليون سنة ضوئية — أكبر من الكيانات التي نراها كافة — تصل الفراغات والعناقيد المجرِّيَّة في متوسطها إلى حدَّ الاتساق.

المشكلة أننا لا تتوفر لدينا نظرة إلى الكون من ذلك البُعد. يرى ديفيد ويلتشير — عالم الكونيات بجامعة كانتربري في نيوزيلندا — أنَّ ما يحدث أمام أعيننا مباشرةً ربما يُشَوه رؤيتنا.

فقد عكف على دراسة إشعاع الخلفية الكونية الميكروني، وهو الضوء الناتج عن تناثر الفوتونات من أولى الذرات التي تكونت بعد الانفجار العظيم بنحو ٣٨٠ ألف سنة. ومنذ ذلك الحين ظل ذلك الضوء ملازمًا للكون، مشتركًا معه في التمدد وانخفاض الحرارة. فإذا كان الكون متَّسِقًا، كان ينبغي أن يكون مقدار التمدد وانخفاض الحرارة واحدًا أينما تطلَّعنا إلى إشعاع الخلفية الكونية الميكروني في السماء.

والحقيقة أن الحرارة تبدو أعلى بدرجة كبيرة في اتجاه عن الآخر. تلك ظاهرة معروفة تُسمَّى «تباين الخواص ثنائي القطب»، وعادةً ما تُفَسَّر بحركة الأرض عبر الفضاء. فبفضل تأثير دوبلر، يبدو أي شيء ذي حركة نسبية بالقرب منا أكثرَ حرارةً من حقيقته، وأي شيء يبتعد عنَّا يبدو أكثر برودة من حقيقته. الأرض تدور حول الشمس، والشمس تدور حول مركز مجرة درب التبانة، ومجرة درب التبانة تسبح بين مجموعة المجرَّات المحلية، والمجموعة المحلية تندفع تجاه تركيز هائل من مجرَّات أبعد. إذا طبقنا هنا إزاحات دوبلر المتولدة عن كل تلك التحركات، فسنجد الرقع الحارة والباردة في إشعاع الخلفية الكونية الميكروني قد انمحت. كذلك تُظهر خرائط إشعاع الخلفية الكونية الميكروني — مثل الخريطة التي وضعت في العام الماضي بواسطة القمر الصناعي بلانك الذي أطلقته وكالة الفضاء الأوروبية، وهي الخريطة الأكثر تفصيلًا حتى الآن — صورة متسقة للأفق الفسيح للسماء، ولا تظهر تفاوتات إلا في نطاقات صغيرة للغاية.

يعترض ويلتشير على آخر الحركات المستخدَمة للقضاء على تباين الخواص ثنائي القطب؛ وهي حركة المجموعة المحلية بأكملها بسرعة ٦٣٥ كيلومترًا في الثانية تجاه «جاذب عظيم» في مكان ما في العنقود المجرِّيِّ العملاق البعيد هيدرا قنطورس. ودون وضع أي افتراضات بشأن كيفية تمدد الكون أو حركة المجموعة المحلية نفسها، حلَّل ويلتشير بالتعاون مع زملائه مسافة ما يربو على ٤٥٠٠ مجرة وحركتها الظاهرة حتى أربعة أمثال مسافة الجاذب العظيم المفترَض (دورية فيزيكال ريفيو دي، المجلد ٨٨، صفحة ٠٨٣٥٢٩).

وهم يزعمون أنَّ حركات المجرات تبدو أكثر منطقية إذا كانت المجموعة المحلية لا تتحرك على الإطلاق، وإنما تُبطئ الكثافة الأعلى للمادة بالقرب من عنقود هيدرا قنطورس تَمَدُّدَ الكون في مجال رؤيتنا؛ لتمنحنا بذلك انطباع حدوث تلك الحركة. وفي المقابل، فإن فراغًا مكافئًا في الاتجاه الآخر يخلِّف أثرًا عكسيًّا، ويُسْفِر عن منطقة تمدد أسرع خلفنا. وإن آثار أوجه عدم التجانس على طول المحور موضعية نسبيًّا؛ إذ تحدث على نطاق يصل إلى نحو ٣٠٠ مليون سنة ضوئية، ولا تُبدِّل معدل تمدُّد الكون إلا بنحو ٠٫٥ في المائة، إلا أنها غير كافية لمعالجة تباين الخواص ثنائي القطب كله تقريبًا؛ ومِن ثَمَّ تؤثِّر على رؤيتنا للكون كله (انظر الشكل التوضيحي).

وهم كوني: عند النظر من الأرض، يبدو نصف إشعاع الخلفية الكونية الميكروني أكثر حرارة (إزاحة زرقاء)، والنصف الآخر أكثر برودة (إزاحة حمراء). ما السبب في ذلك؟

وهم كوني: عند النظر من الأرض، يبدو نصف إشعاع الخلفية الكونية الميكروني أكثر حرارة (إزاحة زرقاء)، والنصف الآخر أكثر برودة (إزاحة حمراء). ما السبب في ذلك؟

يؤكِّد ويلتشير أن كل ذلك لا يتجاوز حدود نظرية النسبية لأينشتاين، ويقول: «التمدد المتفاوت هو ما ينبغي افتراضه من نظرية أينشتاين. إنه ليس أمرًا مثيرًا للجدل، ولا يبعث على الدهشة، وإنما هو وضع طبيعي، وإن لم يتفقْ مع النموذج المعياري.»

يظن ويلتشير أيضًا أن التفسير الذي وضعه يمكن أن يبدِّد كذلك تصور الطيف الكوني الذي ابتدعه أليكسندر كاشلينسكي — من مركز جودارد لرحلات الفضاء التابع لوكالة ناسا في جرين بِلت بولاية ميريلاند عام ٢٠٠٨ — بالتعاون مع بعض زملائه؛ فقد تبيَّن من دراستهم ٧٠٠ عنقود مجرِّيٍّ أنها تُجذَب عبر الفضاء في الاتجاه ذاته تقريبًا كالاتجاه الذي يُفترض أن المجموعة المحلية تسلكه.

كان التفسير الذي وضعه كاشلينسكي لهذا «التدفق المظلم» هو تأثير جاذبية الأجسام التي تكونت في اللحظات الأولى للانفجار العظيم وقُذِفت إلى أقاصي أفق كوننا المرئي بفعل فترة التمدد الجامح اللاحقة المعروفة بالتضخم. ومن وجهة نظر ويلتشير، قد تكون تلك المصادفة وليدة إضافتنا حركة المجموعة المحلية التي لم تكن موجودة في الأساس.

المعضلة

لم يقتنع كاشلينسكي بوجهة نظر ويلتشير، فقال: «أرى أن دراسة ديفيد ويلتشير فائقة الأهمية، ولكني أرى أن البيانات التي يحللها مشَوَّشة إلى حد يحول دون أن تكون إثباتًا لفرضيته.»

يظن عالم الفيزياء بول هالبرن — بجامعة العلوم في فيلادلفيا، بولاية بنسلفانيا — أن مثل تلك الدراسات جديرة بالمتابعة، لكنه يحذِّر من التبعات بعيدة الأثر، ويقول: «حتى وقت قريب لم يكن أحد يشكك في تجانس الكون؛ ولذا كان الجميع يكتفون باستخدام أبسط النماذج. فما إن تقُلْ إن الكون يمكن أن يكون شديد الاختلاف في أجزاء أخرى من الفضاء حتى تجلب لنفسك متاعب جمَّة. وسيزداد علم الكونيات تعقيدًا إلى حد غير متصوَّر.»

يرى بوخرت أن ذاك تحديدًا بيت القصيد؛ فالرسالة المعبِّرة عن حالته على برنامج سكايب التي قال فيها: «لقد ولَّت أيام الطاقة المظلمة.» لا تدع مجالًا للشك بشأن ماهية الطيف المظلم الذي يسعى في إثره. وهو يظن أن في إمكانه القضاء عليه بالسلاح ذاته الذي يستخدمه ويلتشير؛ ألا وهو عدم التجانس.

نشأت فكرة الطاقة المظلمة بُغْيَةَ تفسير الحقيقة المحيرة التي تفيد بأن عملية التمدد الكوني بدا أن وتيرتها بدأت تتسارع منذ نحو ٧ مليارات سنة. وهذا الاستنتاج وثيق الصلة بافتراض التماثُل واستخدام علماء الكونيات له في سبيل استخلاص تنبؤات من معادلات أينشتاين عن تاريخ الكون ومآله.

المادة تتسبب في انحناء المكان والزمان؛ فإذا زادت ينحني الزمكان بشدة حتى ينغلق على نفسه فيما يشبه شكلًا كرويًّا رباعي الأبعاد، وفي نهاية الأمر ينكمش إلى العدم في انفجار عظيم معكوس. وإذا قَلَّت المادة، ينحني الزمكان إلى الخارج مكوِّنًا شكلًا هندسيًّا منبسطًا ممتدًّا إلى ما لا نهاية.

قبل تسعينيات القرن العشرين، كان الاعتقاد السائد هو أن الكون يحتوي على ما يكفي من المادة لوضعه في منتصف الطريق تمامًا بين هذين النقيضين، وأن الكون شبه «مسطَّح»؛ فمتوسط كثافة المادة فيه يُغْنِيه عن الانحناء سواء إلى الداخل أو الخارج. وفي تلك الحالة، تتنبَّأ معادلات أينشتاين بأن التمدد الكوني سيستمر إلى الأبد، وإن كان تأثير الجاذبية سيعمل على إبطائه تدريجيًّا.

لكن اكتشاف مجموعتين من رواد الفضاء في أواخر تسعينيات القرن العشرين — أثناء محاولة مستقلة لقياس ذلك الإبطاء — أن العكس تمامًا هو ما يحدث أحدَثَ صدمةً؛ فقد أصلحت الطاقة المظلمة الأوضاع، فيما يُعد حدًّا إضافيًّا في معادلات أينشتاين يمثِّل قوة إضافية مضادة للجاذبية سرَّعت وتيرة التمدد. أما عن مصدرها، وسبب انتظارها ٧ مليارات سنة للإعلان عن نفسها، فلا علم لنا بهما.

ربما كانت عديمة المصدر؛ لأنها لا تشغل حيِّزًا من الوجود فعليًّا. وقد وضع بوخرت نماذج لكون غير متجانس تبدأ من معادلات أينشتاين المتَّفق عليها ذاتها، لكنه يفترض في نماذجه أنَّ الكون ينقسم في الأساس إلى فراغات وعناقيد من المادة. وعوضًا عن افتراض وجود انحناء زمكاني واحد للكون بأسره — حسب النموذج المعياري — يقيس بوخرت الانحناء بحساب متوسط ذلك التوزيع غير المتجانس للمادة.

يقول: «هنا تعُمُّ الفوضى.» فلا يعود التمدد الكوني متساويًا في الاتجاهات كافة. وكما في تصوُّر ويلتشير، يُفضِي وجود شبه فراغ في إحدى أنْحِيَة السماء إلى تمدد نسيج الفضاء في تلك المنطقة بمعدل أسرع، بينما تُفضِي جاذبية عنقود غني بالمجرات إلى تمدد تلك المنطقة بمعدل أبطأ.

مرور الزمن

من الجدير بالاهتمام مع ذلك أنَّ الكون إذ شاخ وتكتَّلت المادة بفعل الجاذبية مكوِّنة مجرات وعناقيد متنامية باستمرار؛ اتَّسعت الفراغات بين العناقيد، وطفق الكون ينبسط بسرعة متزايدة في تلك المناطق، ونَتَجَ عن ذلك تأثير معجِّل يشبه إلى حد ما التأثيرَ الذي يُنسَب إلى الطاقة المظلمة، لكن دون ظهور أثر لها (دورية جورنال أوف كوزمولوجي آند أستروبارتيكل فيزيكس، المجلد ١٠، صفحة ٠٤٣). ويقول بوخرت: «المسألة لا تكمن في وجود ذلك التأثير من عدمه، فلا مجال للشك في ذلك. إنها نظرية فيزيائية طبيعية تمامًا؛ لأنها قائمة على معادلات أينشتاين، لكنها ليست جزءًا من النموذج المعياري.»

قد تكون نظرية طبيعية، إلا أن كونًا متفاوتًا غير متجانس سيسير على نحو مغاير تمامًا للكون الذي نظن أننا نعرفه. بادئ ذي بدء، لقد أثبت أينشتاين أن المكان والزمان كيانان متصلان، فإذا سلَّمت بأن المكان يتمدد بمعدلات متباينة في المناطق المختلفة؛ فعليك أن تقبل بأن الزمان سيمرُّ بسرعات متباينة أيضًا. معنى ذلك أنه حتى خاصية جوهرية مثل عمر الكون ليست ثابتة في جميع أنحاء الكون. فإذا قِسته من داخل عنقود كثيف؛ فستحصل على إجابة مغايرة لتلك التي ستحصل عليها إذا قِسته من داخل فراغ.

أبدى ويلتشير تأييدًا لتلك الاحتمالية في عمل سابق أجراه على نظرية يطلق عليها «النطاق الزمني». تلك النظرية ترجِّح أن عمر الكون قد يبلغ ١٨٫٦ مليار سنة في مناطق؛ حيث يدل انخفاض كثافة المادة فيها على أن الزمن قد مرَّ بسرعة كبيرة. أما تقديرنا الأصغر من ذلك لعمر الكون فنتيجة طبيعية لتواجدنا في منطقة ذات كثافة فائقة؛ أي داخل مجرَّة. يقول ويلتشير: «إن حقيقة أنَّ كل مجرة تبدو وكأن مرور الزمن فيها يواكب مرور الزمن لدينا لا تَعني أنَّ الكون له عُمْر واحد. فكل ما في الأمر هو أننا لم نفكِّر متمعِّنين فيما يُكسب المجرات تلك السمة الخاصة والمختلفة.»

والأمر لا يقتصر على عمر الكون فحسب؛ فبناءً على وجود مقياس يتضمَّن شيئًا من قبيل كون «متوسط» من عدمه، قد نضطر إلى التسليم بأننا لسنا متحكِّمين في مصير الكون أيضًا. وحسب مقدار المادة التي قد تكون متواجدة في المناطق الأخرى، تصير المصائر المحتملة كلها — انسياب الكون بفعل قوة الجاذبية، وتمدد الكون باستمرار، وتقلُّص الكون على نفسه في عملية انسحاق عظيمة — مطروحةً من جديد.

سيمثل هذا الأمر من وجهة نظر كاشلينسكي وضعًا مريرًا لا مفرَّ منه؛ فهو يذهب إلى أن التوافق منقطع النظير ما بين تنبؤات النموذج المعياري ومشاهدات كيفية تكوُّن المجرَّات — على سبيل المثال — يعني أنها تقترب من الحقيقة لا محالة. وإنَّ عامل اختلاف قدره ١٠ بين العناقيد المجرِّيَّة والفراغات من حيث كثافة المادة ليس مبرِّرًا كافيًا لنبذ النموذج المعياري؛ يقول: «إن أوجه عدم التجانس متدنِّية إلى حد يجعل من وصفنا الكون بصفة عامة بأنه متجانس افتراضًا ممتازًا.» كما يحبِّذ الاحتفاظ بالمفاهيم من قبيل الطاقة المظلمة والتدفق المظلم، ولو كان شرحها يستلزم التحول إلى نظريات تتجاوز حدود نظرية أينشتاين.

أما عن بوخرت، فيرى في هذه المعارضة أسلوبًا متصلِّبًا في التفكير، ويقول في استنكار: «إن نموذج التجانس مفرط التبسيط قائم منذ ما يربو على ١٠٠ عام. في سائر فروع الفيزياء، إذا أثرت مشكلة من قبيل الطاقة المظلمة، فمن شأنك أن تحسِّن النموذج، ولكن ذلك لم يحدث في مجال الكونيات، وأرى أن الإيمان بالنموذج المعياري متشدد أكثر من اللازم.»

عالم الكونيات جون بيكوك — من جامعة إدنبره بالمملكة المتحدة — منحاز للفكر التقليدي، لكنه يقرُّ بأن ثمة مسألة غير محسومة؛ إذ يقول: «أتمنى لو أننا نستطيع حسم هذا الجدال؛ ففي مجال العلوم الرياضية ينبغي أن يستطيع المرء التركيز على المسائل موضع الشك، وأن يقرر أي جانب هو المصيب. ومن المحبط والمقلق أننا عجزنا عن ذلك.» وإلى أن نحقق ذلك، أو إلى أن نكبح الأطياف المظلمة للكون، ستظل تسبح طليقة في الكون.

14 ديسمبر, 2015 11:12:24 صباحا
0