تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

تشارلز ساندرز بيرس (١٨٣٩–١٩١٤)

هل كان تشارلز ساندرز بيرس أعظم الفلاسفة الأمريكيين؟ في هذا المقال، أليستر ماكفيرلين يدرس العلامات الدالة على ذلك.

انظر حولك. ماذا ترى؟ بالطبع، لا ترى أشكالًا وألوانًا فحسب، بل أشياء ذات مغزى: طاولات، مقاعد، سيارات، أشخاصًا، حيوانات … أرأيت ما الذي يطلق عليه بيرس «العلامات». كان بيرس يرى الواقع من ناحية ما تعنيه لنا الأشياء، وكان عالمه عالمًا من العلامات، حتى إنه كان يعتبر نفسه علامة من هذه العلامات. وتعتبر نظرية السيميوطيقا — دراسة العلامات، ووظائفها وتفسيراتها — إحدى إسهاماته العديدة بالغة الأصالة في مجال الفلسفة. في الواقع، يعتبر الكثيرون تشارلز ساندرز بيرس حاليًّا أعظم فيلسوف أمريكي، وعلى الرغم من ذلك، فقد طُرِد من المنصب الأكاديمي الوحيد الذي حصل عليه طوال حياته، وتوفي معدمًا ومنبوذًا.

حياته

ولِدَ تشارلز ساندرز بيرس في العاشر من شهر سبتمبر عام ١٨۳۹، في كامبريدج، ماساتشوستس، حيث كان والده، بنجامين بيرس، أستاذًا جامعيًّا في علم الفلك والرياضيات بجامعة هارفارد. وكان تشارلز الابن الثاني من بين ثلاثة أبناء ذكور، وكانت له شقيقة صغرى. كانت والدته، سارة هانت ميلز، ابنة سيناتور قوي النفوذ، وكانت العائلة تحتل مكانة مرموقة في مجتمع نيو إنجلاند. وقد عانى بيرس نفس مأساة جون ستيوارت ميل، فقد علمه والده وأثقل كاهله بافتراض تمتع ابنه بالعبقرية. وقد ورث بيرس عبئًا آخر أكبر تمثل في ألم العصب الثلاثي التوائِم (ألم الوجه المزمن العشوائي)، علاوة على كونه أعسر. ولكنه تغلب على كونه أعسر بنجاح. وكان بيرس بارعًا بشكل استثنائي، وكان قادرًا على إبهار جمهوره من خلال قيامه بكتابة مسألة بيد، وهو يكتب الحل في ذات الوقت باليد الأخرى. ومع ذلك، فقد كان لإرثه المرضي عواقب خطيرة. كان يتناول الأفيون للتغلب على نوبات الألم الحاد المتكررة، وأدمن المورفين. كل هذا بالإضافة إلى غروره النابع من إيمانه الراسخ بقدراته المتميزة، الذي أسهم في عدم قدرته على الانسجام مع المجتمع التقليدي، وأفشل كل محاولات خلق حياة مهنية غير تلك التي أتاحها له نفوذ والده. وكان بيرس متعطشًا للتقدير والنجاح، ولكن غروره الشديد جعل من الاستحالة بمكان له النزول على متطلبات المجتمع الذي كان ينشد تقديره بشدة. لقد كانت بذور الحياة المأساوية التي قدر له أن يعيشها متوافرة من البداية.

كان بنجامين بيرس عالم الرياضيات الرائد في تلك الأيام، وكان له عظيم التأثير في المجالات التي تستخدم فيها الرياضيات باحتراف. ونظرًا لذلك حصل تشارلز بعد تخرجه في جامعة هارفارد على وظيفة في إدارة مسح الأراضي والمسح الساحلي الأمريكية، التي احتل فيها عددًا من المناصب ما بين عامي ١٨٦١ و١٨۹١. وقد ضمنت له هذه الوظيفة الحكومية الإعفاء من التجنيد في جيش الاتحاد أثناء الحرب الأهلية (١٨٦١–١٨٦٥). وكان بيرس يمارس مهام عمله في المسح بتميز واضح، خاصة في مجالات قياس الثقل النوعي وعلم القياس والموازين. وكان أول أمريكي يمثل بلاده في مؤتمر دولي علمي. وعلاوة على إمداده بدخل جيد منحه هذا العمل وفرة في الوقت لمتابعة أبحاثه العلمية والفلسفية. ودون هذا التفرغ المبكر، ما كان تشارلز لينجز أي عمل فلسفي بارز على الأرجح.

وعلى الرغم من الصعوبات المالية التي واجهها نتيجة للمضاربات الهوجاء وأسلوب الحياة المترف الذي كان يتمتع به، فقد ظلت الأمور تسير على ما يرام لحوالي عشرين عامًا. وبدأ يصنع شهرته كفيلسوف، ومرة أخرى، حصل بفضل نفوذ والده في عام ١٨٧۹ على منصب محاضر في المنطق بجامعة جونز هوبكنز في فيلادلفيا، التي كانت حديثة التأسيس آنذاك. وكان قادرًا على شغل هذا المنصب إلى جانب عمله في المسح.

افتُتِحَت جامعة جونز هوبكنز في عام ١٨٧٦ كمؤسسة متميزة تهدف إلى مضاهاة أعلى المعايير الأوروبية في الدراسة والبحث. وكان الرئيس الطموح لهذه المؤسسة، دانيال جيلمان، مصرًّا على إنشاء أفضل كلية دراسات عليا في الولايات المتحدة، وبعد أربع سنوات فقط صارت الأبحاث المنشورة للجامعة تضاهي إنتاج باقي الجامعات الأمريكية الأخرى كافة. وكان جيمس جوزيف سيلفستر رئيس قسم الرياضيات، الذي كان منتدبًا من إنجلترا، من أعظم علماء الرياضيات في عصره، كوالد بيرس. وكانت وظيفة المحاضر هي الوظيفة المثالية لبيرس. ولسوء الحظ، سرعان ما تصادمت حياته الشخصية والعملية. ففي عام ١٨٧٦، التقى بيرس بالسيدة جولييت بورتالاي الغامضة في حفل راقص بفندق بريفورت بنيويورك (وهو المكان المفضل الذي كان بيرس يتردد عليه كثيرًا)، ونشأت بينهما علاقة عاطفية علنية. وعلى الرغم من محاولات كتّاب السِّيَر الجهيدة لتسليط الضوء على حياة جولييت السابقة، فإن أصولها ظلت غامضة. علاوة على أن جهود جولييت الحثيثة لإخفاء أصولها كانت في حد ذاتها مثارًا للقيل والقال.

كان بيرس قد تزوج من هارييت فاي في عام ١٨٦٢. ونظرًا لشخصيتيهما المتنافرتين صعبتي المراس، تعرضت علاقتهما الزوجية لتوتر متزايد، إلى أن انهارت بلا رجعة في عام ١٨٧٦. وحين شغل بيرس منصبه في جامعة جونز هوبكنز في عام ١٨٧۹، كان يعيش مع جولييت وهو لا يزال متزوجًا من هارييت. وقد أثار هذا الأمر فضيحة أذكت نيرانها الشائعات المثارة بالفعل حول إدمانه المخدرات، وغطرسته وصلفه، وسلوكه المنحرف، وخياناته الزوجية السابقة. طلق بيرس هارييت في عام ١٨٨۳ ليتزوج من جولييت. وعلى الرغم من هذا، فقد ظلت الشائعات المسيئة لهما تنتشر. ومما زاد الأمور سوءًا نشوب خلاف حاد بين بيرس وسلفستر حول نسبة بعض أعماله في المنطق، وبذلك استعدى بيرس الشخص الوحيد الذي كان بالإمكان أن يقدم له المساعدة.

ويبدو أن بيرس كان غير مدرك للخطر المتزايد، حيث كتب إلى أحد أقاربه مخبرًا إياه أنه متأكد من أنه سيحصل قريبًا على ترقية لدرجة الأستاذية. ومع ذلك، في عام ١٨٨۳، تحرك جيلمان رئيس الجامعة أخيرًا لحماية سمعة جامعته الجديدة النامية، ونظرًا لعدم وجود أي مساندة من جانب سلفستر لحماية بيرس، طُرِد بيرس فورًا من منصبه. وسرعان ما تغيرت حياة بيرس إلى الأسوأ، وباتت متزايدة الصعوبة. بدأ عمله في إدارة المسح يتراجع أيضًا، وبعد أن تسلم إرثًا صغيرًا في عام ١٨۹١، استقال من عمله هناك. وفيما عدا عمله لفترة قصيرة في التدريس في نيويورك وإلقاء المحاضرات من حين لآخر في جامعة هارفارد، قضى بيرس ما تبقى من حياته في عزلة، في بلدة ميلفورد الصغيرة في ولاية بنسلفانيا. وكان غرضه من التقاعد هناك هو إكمال مجلدات تضم كل اكتشافاته الفلسفية الكبيرة على مدار ثلاثين عامًا، ولكن تلك الكتب العظيمة لم تخرج إلى النور. فقد دفعته الصعوبات المالية المتزايدة إلى تكريس الكثير من وقته وجهده لكتابة مقالات نقدية حول الكتب الفلسفية والعلمية لعامة القراء. وخلال السنوات الأخيرة من حياته، أقعده المرض عن العمل تمامًا، فعاش على المعونات التي كان أخوه الأصغر هربرت وقليل من أصدقائه يقدمونها له. وكان أكرم هؤلاء جميعًا الفيلسوف هارفارد ويليام جيمس، الذي أَسرّ إلى أحد زملائه قائلًا عن بيرس: «إنني مدين له بكل شيء.»

توفي بيرس في التاسع عشر من أبريل عام ١۹١٤. وقد قامت جولييت التي عاشت بعده عشرين عامًا بالاحتفاظ برماده في وعاء فضي فوق رف المدفئة إلى أن توفيت، ودفن معها رماد بيرس في قبرها في ميلفورد.

فلسفته

يُعرَف تشارلز ساندرز بيرس بأنه مؤسس الفلسفة الأمريكية المعروفة بالبرجماتية. وقد تركزت فكرتها الأساسية في قاعدته البراجماتية القائلة: «إن تصورنا لموضوع ما ليس إلا تصورنا لما قد ينتج عن هذا الموضوع من آثار عملية لا أكثر.» بعبارة أخرى، البرجماتية هي تلك الفلسفة التي ترى أن الدلالة الكاملة لأي شيء لنا تتمثل في الآثار الملحوظة المترتبة عليه. وقد تناول ويليام جيمس هذه الفكرة الأساسية وطورها، ومن بعده جون ديوي، ولا تزال هذه الفكرة مزدهرة في فلسفات ريتشارد رورتي وهيلاري بوتنام، مع الكثير من التغييرات في التركيز والتأويل.

على مدار عقود عديدة، سعى بيرس لخلق نظام ميتافيزيقي شامل. ومع ذلك، فإنه كان يرى نفسه عالم منطق في المقام الأول. وقد سبق عملُه عن المنهج العلم منهج العقلانية النقدية لبوبر. وقد رأى بيرس أن المنهج العلمي يتكون من ثلاث مراحل: «الافتراض» (وضع الفرضيات)، و«الاستدلال» (استنتاج مدلولاتها)، و«الاستقراء» (اختبار هذه المدلولات). لقد أقنعته خبرته الطويلة في القياس العملي في مسح الأراضي بأننا لا نحيا في عالم حتمي تمامًا. وقد أصبحت مناهضة الحتمية ركنًا مهمًّا في أفكاره الفلسفية. ولربما كان بيرس سيشعر بالانسجام في عالمنا الكمي المعاصر على عكس الكثيرين من أسلافه الفلاسفة (إن لم يكن جميعهم).

واصل بيرس العمل على نظريته الفلسفية طوال حياته المضطربة غير المنظمة. وبعد وفاته، رتب الفيلسوف المعروف جوزيا رويس لنقل كافة أوراق بيرس وكتبه إلى مكتبة الفلسفة في جامعة هارفارد. وقد أتيحت كل هذه المواد للاطلاع الحر، باستثناء بعض الكتابات الشخصية التي مُنِعَت عن كُتَّاب السِّيَر. وفي الوقت الحالي، تُنَقَّح الأعمال المجمعة وتُنشَر. ولكن، حتى الآن لم يُنجَز من هذه المهمة الضخمة إلا أقل من نصفها؛ إلا أنها قد أصبحت نوعًا من الدراسة وليست إلهامًا. إن المباحث الفلسفية شديدة الحداثة التي أثارها بيرس تعد الآن جزءًا من الفكر الفلسفي المعاصر، علاوةً على أنها تطورت كثيرًا عما توقف هو عنده. ومع كل هذا، لا تزال شهرة بيرس كفيلسوف عظيم في تزايد مطّرد.

إذا كان يمكننا القول إن شخصًا ما كان سابقًا لعصره، فإن هذا الشخص بالتأكيد هو تشارلز ساندرز بيرس. لقد تكهن بيرس بالكثير من التحولات الرئيسية في الفلسفة والعلوم التي حدثت بالفعل في القرن التالي لوفاته. ومن يعرف أي فارق كان سيحدث في حياة بيرس لو أنه تمتع بطفولة أكثر انفتاحًا، أو بعلاج طبي لائق لمرضه المؤلم إلى حد التعجيز، أو بمجتمع أكثر تسامحًا، أو بمؤسسات أكاديمية أكثر انفتاحًا؟ إن العبقرية وحدها لا تكفل للمرء الحصول على تقدير واحترام الآخرين في حياته، ولكن إنتاجها يعود بالنفع في النهاية على من يأتون بعده. وما من شيء غير هذا يعزينا عند تأمل مأساة حياة بيرس.

17 ديسمبر, 2015 04:03:37 مساء
0