تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الحفاظ على البيئة: سر علماء الفلك المصون

يُنْتِج علمُ الفلك كميةً كبيرةً من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، لكنه يمكن أن يكون أحد أكثر العلوم حفاظًا على البيئة إذا استغلَّت المراصدُ مواردَ الطاقة الشمسية وطاقة الرياح المتوفرة لديها.

إذا أعدَدْنا قائمةً بأكثر القضايا العلمية إلحاحًا، فمن المستبعَد أن نَجِد فيها البصمةَ الكربونيةَ لعلم الفلك. وإن تواجدت، فالأرجح أن تقع في مكان ما بين إيجاد وسائل فعَّالة لتنظيم النسل لدى الذكور وكيفية ثني سماعات الرأس لمنع أسلاكها من التشابك داخل جيبك.

لكن أولي فايلِنمان — نائب مدير مرصد لاسيلا بارانال في تشيلي — لن يَتَّفِق مع هذا الرأي. ففي الآونة الأخيرة — أثناء انشغاله بتكاليف إدارة المكان — صَدَمَه اكتشافُ حجم الانبعاثات الكربونية للمرصد (انظر الشكل التوضيحي). وبمزيد من البحث، اكتشف أنَّ تلك المشكلة ليست حكرًا على مرصد بارانال؛ فكثير من المراصد الأخرى تنبعث منها غازات الدفيئة أكثر مما يوحي حجمها.

الحفاظ على البيئة ليس بالأمر الهيِّن: يتطلَّب سَبْرُ أغوار سماء الليل قدرًا وافرًا من الطاقة، يقابله قدر وافر من الانبعاثات الكربونية.

الحفاظ على البيئة ليس بالأمر الهيِّن: يتطلَّب سَبْرُ أغوار سماء الليل قدرًا وافرًا من الطاقة، يقابله قدر وافر من الانبعاثات الكربونية.

لا ينبغي أن يكون ذاك هو الحال؛ فمعظم المراصد تتوفَّر لها بفضل موقعها مصادر طاقة نظيفة، إلا أنها لم تتمكَّن من استغلالها لأسباب عدة. وحاليًّا تسعى المراصد في جميع أنحاء العالم إلى تجاوز الحلول البديهية والاستعانة بحلول عبقرية للحصول على الطاقة النظيفة. وتتراوح احتمالات تحقيق تلك الغاية بين الإبداع والابتذال والخيال المفرط. والتخفيضات المحتملة في انبعاثات الكربون لن تنقذ العالم، لكن القائمين على تلك التجارب عازمون على إثبات أن الأبحاث العلمية ذات الاستثمارات الضخمة يمكن أن تكون صديقة للبيئة أيضًا.

كلما كان التليسكوب أكبر صار بإمكانه رؤية أماكن أبعد في الكون، وتحسَّنت الصور التي يرصدها، لكن الصور التي رصدها التليسكوب العظيم في مرصد بارانال للمجرَّات الحلزونية الشائكة والطقس على كواكب بعيدة خارج المجموعة الشمسية جاءت بثمنٍ غالٍ؛ فالفلك من مجالات الأنشطة كثيفة الاستهلاك للطاقة. يقول فايلِنمان: «إننا في بقعة منعزلة تمامًا، وكل شيء نفعله هنا يرتبط بتكلفة من الطاقة.» ومرصد بارانال في بقعة نائية جدًّا، حتى إن الماء يدخل إليه بشاحنات، ناهيك عن الطعام والعمالة والوقود.

إلا أنَّ نصيب الأسد من استهلاك الطاقة يذهب إلى تشغيل أجهزة من قبيل التليسكوب العظيم وتبريد معداته الإلكترونية الحساسة. فهو يستهلك يوميًّا ٢٧ ميجا واط في الساعة من الطاقة، أو نحو ١٠ جيجا واط في الساعة سنويًّا، وهو معدل الاستهلاك السنوي لدى ١٠٠٠ أسرة في الولايات المتحدة.

لكن بخلاف تلك المنازل، مرصد بارانال أبعدُ من أن يتصل بشبكة الكهرباء الوطنية؛ ولذا عليه أن يُنتِج طاقته بنفسه، وهو يفعل ذلك باستخدام مولِّدات تحرق البوتان. وأسعار الوقود متقلِّبة، ونظرًا لأنَّ المراصد ليس لديها مَعِين لا يَنضَب من المال؛ فقد بحث فايلِنمان في مسألة استهلاك الطاقة بمرصد بارانال، في محاولة للسيطرة على النفقات. وعندها اكتشف البصمة الكربونية للمرصد — ٢٢ ألف طن في السنة — التي تُعادِل ٤٦ طنًّا من ثاني أكسيد الكربون لكل ورقة بحث علمي يراجعها الزملاء تصدر عن المرصد. وذلك يعادل الانبعاثات الصادرة عن بلدة صغيرة.

في عالم يمكن لميزانية الطاقة في مركز بيانات أن تُنافِس ميزانية الطاقة لمدينة متوسطة الحجم، ليس ثمة ما يُثِير الدهشة في تلك الأرقام، ولكن بالنسبة إلى فايلِنمان المسألة مسألة مبدأ؛ فالمشكلة لم يكن من المفترض أن تنشأ من الأساس. على أي حال، يتصادف أنْ تكوِّن المناطق المثالية للمراصد بقعًا مثالية أيضًا للحصول على الطاقة النظيفة. فيقول رولف تشيني من جامعة الرور في بوخوم بألمانيا: «لم يحدث قطُّ أنْ غابت الشمس والرياح لأكثر من يوم.» وتشيني مدير المرصد في سيرو ميرفي، القائم — مثل مرصد بارانال — على تلٍّ في صحراء أتاكاما، حيث تكون السماء صافية ٣٢٠ يومًا في السنة في المتوسط، وتعصف بالمكان رياح عاتية.

ثمة مشكلة واحدة: لا الرياح ولا الطاقة الشمسية مصدر طاقة يسير للمراصد؛ فألواح الطاقة الشمسية لا يمكنها تشغيل التليسكوب ليلًا، والرياح الشديدة تمثِّل مشكلة مشابهة؛ فهي ممتازة لتوليد الطاقة، لكنها غير ملائمة البتَّة للتطلُّع إلى النجوم. ففي الليالي العاصفة، على المراصد إبقاء أبوابها موصدة. ولكن حتى في الليالي الهادئة، تُحدِث التوربينات اضطرابًا هوائيًّا يمكن أن يؤثِّر على التطلع إلى النجوم.

إلا أنَّ مرصد تشيني تمكَّن من فعل ذلك بسبيل أو آخر. وذاك المرصد — الذي يسمِّي نفسه المرصد الفضائي الوحيد في العالم الذي يستخدم طاقة نظيفة ١٠٠ في المائة — يستمدُّ الطاقة اللازمة له كلها من ١٠٠ لوحة شمسية وثلاثة توربينات هوائية.

عندما سمع فايلِنمان بذلك، سعى إلى الاستفادة من تلك التجربة في مرصد بارانال. إلا أنه سرعان ما خاب أمله، عندما اتضح أنَّ إنجازات مرصد تشيني في الحفاظ على البيئة تُعزَى جميعًا إلى صِغَر حجمه. فالمباني الثلاثة كُلٌّ منها بحجم مرآب صغير، وتوربيناتها — التي يبلغ قطرها ٥ أمتار — أصغر من أن تُحدِث اضطرابًا هوائيًّا. والطاقة الشمسية وطاقة الرياح تنتجان نتروجينًا سائلًا يُخَزَّن لتبريد معِدَّات التليسكوب الإلكترونية الحساسة ليلًا، وأي فائض طاقة يُخزَّن في مجموعة بطاريات لتشغيل التليسكوب ليلًا. وتلك البطاريات — التي لا تخزِّن أكثر من ٢٫٣ كيلو واط في الساعة — يمكن أن توفر قدرًا كافيًا من الطاقة لتشغيل مِحمَصة كهربائية وجهاز إكس بوكس معًا. بينما يحتاج تليسكوب مرصد بارانال طاقة تَفُوق ذلك ٥٠٠ مرة، وهو ما يتجاوز كثيرًا إمكانات أي منظومة تخزين بالبطاريات متاحة في الأسواق. ويقول فايلِنمان إنَّ تركيب منظومات بطاريات خاصة بهم سيتطلَّب ١٢٠٠ بطارية على الأقل، وهو «استثمار قدره ٦٠٠ ألف يورو» وسيلزم تغيير البطاريات في غضون ١٠ أعوام. وذلك ليس أفضل فعليًّا من استخدام البوتان.

بَيْدَ أنَّه إذ قَدَّر أنَّ التحوُّل إلى مصادر الطاقة المتجددة يمكن أن يخفض البصمة الكربونية لمرصد بارانال بمعدل يقارب ٤٣ في المائة، فقد كان عازمًا على إيجاد سبيل لتحقيق ذلك. توصَّلت المراصد الأخرى لحلولها الخاصة، بعضها يستغلُّ مصادر للطاقة النظيفة يغلب عليها الطابع المحلي. ويقف في طليعة تلك الجهود مرصد مصفوف الكيلومتر المربع، وهو مرصد راديوي عملاق يحتوي على ٣ آلاف هوائي، ومن المزمع الانتهاء منه في جنوب أفريقيا وأستراليا عام ٢٠٢٤. وقد بدأ العمل بالفعل بتليسكوباته «الرائدة» فائقة الحساسية، التي تحتاج إلى تبريد ليلَ نهارَ، وتولِّد كميات كبيرة من البيانات تعالجها أجهزة الكمبيوتر الفائقة، التي تحتاج إلى التبريد هي الأخرى. وفي مركز الحوسبة الفائقة التابع لمصفوف الكيلومتر المربع في جامعة بيرث بأستراليا، يستخدِم المهندسون مضخات الطاقة الحرارية الأرضية لسحب المياه الجوفية من مستودع على عمق ١٤٠ مترًا درجة حرارة الماء فيه ٢٢ درجة مئوية، ويضخُّونه عبر مبادِل حراري لتبريد أجهزتهم، ثم يَحقِنونه من جديد في مستودع المياه الجوفية وقد ارتفعت حرارته ١١ درجة مئوية. تلك الحيلة لا توفر الطاقة فحسب، فعلى حد قول جيري سكينر — مسئول العلاقات العامة لمرصد مصفوف الكيلومتر المربع: «في المقابل لو استُخدِمت أبراج التبريد، لكان مقدار المياه المفقود كبخار سيعادل ١٥ حمام سباحة أولمبيًّا في السنة.»

إلا أنَّ الطاقة الحرارية الأرضية ليست متوفرة في معظم الأماكن، وأكثر مصادر الطاقة النظيفة توفرًا بلا حدود في العالم هي الطاقة الشمسية؛ ومن ثم تعكف مبادرات أخرى على تجاوز خصوصياتها. ولوحات الطاقة الشمسية يمكن استخدامها ليس في متطلبات الحياة اليومية فحسب، وإنما في التبريد المسبق للنتروجين السائل أيضًا حتى يستخدمه التليسكوب ليلًا. ويقول فايلِنمان إنه حتى إنْ كان بإمكان منظومة الطاقة الكهروضوئية أن تُمِدَّ مرصد بارانال بجزء من احتياجاته من الطاقة أثناء النهار، فمن شأن ذلك أن يُقلِّل استهلاك المرصد سنويًّا من الطاقة بمعدل ١٨ في المائة. وقد اتبع طاقم العاملين في مرصد جنوب أفريقيا الفلكي — مقرِّ تليسكوب جنوب أفريقيا الكبير — نمطًا مماثلًا في التفكير؛ فأرادوا أن يُنشِئوا مزرعة شمسية، لكن المنظمة الأمَّ رفضت تمويلها. فتصرَّفوا ارتجالًا وركَّبوا «سخانات شمسية» تركِّز ضوء الشمس لتسخين المياه في أنابيب. وبفضل ذلك التدبير وتدابير أخرى محدودة، تقلَّص استهلاك المرصد من الطاقة. ويقول كيث براون عضو فريق العمليات: «لقد تمكَّنَّا من خفض استهلاك الكيلو واط في الساعة بمعدل ١١٫٩ في المائة في الشهر.»

إلا أنه حتى لو توفَّرَ لدى المراصد المال اللازم لإنشاء مزارع شمسية، فسيظل ثمة مشكلة أخرى قائمة. فلتوفير احتياج مرصد بارانال من الطاقة في وقت الذروة أثناء النهار — ٦٠٠ كيلو واط — باستخدام ألواح شمسية عادية، يقول فايلنمان: «سيكون علينا أن نركِّب ٢٤٠٠ لوحة.» وهذا كثير.

من المثير للاهتمام أنَّنا قد نَجِد حلًّا جزئيًّا يكمن في قدرة التليسكوب نفسه على تجميع الضوء. فعالم الفلك روجر إنجل — بجامعة أريزونا في توسون — أدرك أثناء تطويره المرايا العملاقة الشبيهة بالخلايا، والتي سوف يستخدمها تلسكوب ماجِلان العملاق في المستقبل؛ أنَّ المرايا يمكن استخدامها لتركيز ضوء الشمس عوضًا عن ضوء النجوم. وقد أنشأ شركة تُدعى رِنيو لتطوير تلك الفكرة في صورة عدة مرايا قطعية متكافئة، شبه مُرَبَّعة، كبيرة، مزوَّدة بإطار خفيف الوزن من الفولاذ، تركِّز ضوء الشمس في مصفوفة من الخلايا الكهروضوئية الصغيرة. ويزعم إنجل أنَّ نماذجه الأولية أظهرت معدل كفاءة يقارب ٤٠ في المائة، وهو ضِعف كفاءة منظومات الطاقة الشمسية التقليدية. إذا كان مصيبًا، فستتمكن المراصد من إنشاء مزارع شمسية متواضعة تُحَقِّق رغم بساطتها انخفاضًا ملموسًا في بصمتها الكربونية.

بعد بحث طويل محبط في معظمه عن حلول، جاء الإنقاذ لفايلِنمان من آخر مصدر توقَّعَه: شبكة الكهرباء. ففي حين أنه لطالما عرف أنَّ شبكة الكهرباء هي أمل بارانال الأكبر في الطاقة النظيفة، فقد اعتُقِد منذ زمن أنَّ احتمال تحقُّق ذلك الأمل معدوم؛ إذ لم يمكن ثمة وسيلة لتوصيل مرصد بارانال بشبكة الكهرباء البعيدة التي يديرها القطاع الخاص في تشيلي. ثم أُعطِي الضوء الأخضر لبناء التليسكوب الأوروبي فائق الكِبَر، المزمع الانتهاء من تشييده خلال عقد من الزمان في سيرو أرمازونس على بعد ٢٢ كيلومترًا من مرصد بارانال. ويقول فايلِنمان: «لا شك أنَّ التليسكوب الأوروبي فائق الكِبَر سيُوصَّل بشبكة الكهرباء.» وسيقطع خط الكهرباء المخصَّص له صحراء أتاكاما مرورًا ببارانال، فيوصله بالشبكة ويجعل استثمار بارانال في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح أمرًا ممكنًا أخيرًا من الناحية المادية، بحيث يولِّد طاقة نظيفة يوميًّا، ويبيع الفائض منها مستفيدًا من التعريفات التفضيلية للطاقة المتجددة. ويقول فايلنمان: «إذا اتصلنا بشبكة الكهرباء فسنتمكَّن من إنتاج أي كمية نريدها من الطاقة وتوريدها. سيُرَدُّ الفائض إلى الشبكة أثناء النهار، وأثناء الليل يمكننا استعادته من الشبكة مجددًا.»

وكم هو ملائم أن يشغِّل المرصدَ نجمُه الخاص. والآن، فيما يتعلق بأسلاك سماعات الرأس …

وحدات قمرية

الطاقة الشمسية هي الخيار الأمثل أمام معظم المراصد؛ فهي نظيفة ومتوفرة ورخيصة وغير مرتبطة بالشبكة الكهربائية. إلا أن الجهود المبذولة لاستخدام ذلك المصدر المتقطِّع واجهت عمليًّا عقبات كثيرة.

يتمثَّل أحد سُبُل تحويل الطاقة الشمسية إلى مورد طاقة على مدار الساعة في التقاط انعكاس الشمس الضعيف على سطح القمر. هذه الفكرة لن تبلغ الأسواق عما قريب، إلا أنَّ ثمة شركات كثيرة منشغلة بها. تزعم شركة راوليمون في برشلونة بإسبانيا أنَّ كراتها الزجاجية المقاومة للعوامل الجوية يمكنها أن تجمع ضوء الشمس نهارًا وضوء القمر ليلًا. فعلى حد قول أندريه بروسيل من راوليمون، يمكن لكرة قطرها ٥٠٠ ملليمتر أن تتبع القمر، وتركِّز الخيط الرفيع من الفوتونات المنعكسة عليه ٢٠ ألف مرة في خليَّة شمسية عادية، وتُنتج كهرباء كافيةً لتشغيل صمام ثنائي باعث للضوء.

وثمة اقتراح أكثر غرابة طرحته شركة شيميزو في اليابان، يدعو إلى تحويل القمر نفسه إلى لوحة شمسية. يقوم مفهوم الحزام القمري الذي ابتكرته الشركة على وضع «حزام شمسي» حول القمر. وهذا الهيكل المصنوع من المرايا والذي يبلغ طوله ١١ ألف كيلومتر سوف يولِّد الكهرباء من ضوء الشمس ويُعِيدها إلى الأرض بأشعة الليزر.

وفي ضوء الاهتمام البادي في الآونة الأخيرة بإنعاش خطة إرسال الطاقة الشمسية من الفضاء، التي كانت قد انصرفت عنها الأنظار منذ زمن، فقد لا تكون تلك الأفكار مُفرِطة الجموح.

22 ديسمبر, 2015 01:17:09 مساء
0