تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الراوند الرائع: نبات ينبت صوبة زراعية

في حين تنكمش كل النباتات الأخرى المحيطة من البرد والرياح أعلى جبال الهيمالايا، ثَمَّةَ نبات واحد يقف بينها شامخًا، والآن عرفنا السر!

تُرى التلال السفحية لجبال الهيمالايا خضراء مورقة. لكن مع زيادة الارتفاع، تزداد النباتات قِصرًا. وفوق خط الأشجار، على ارتفاع ٤٠٠٠ متر تقريبًا فوق مستوى البحر تكون الظروف شديدة القسوة؛ فالجو بارد وعاصف، وتتشكل المنحدرات الشديدة في معظمها من صخور مفتتة وليس من التربة، ومن أعلى يأتي وابل غير مرئي من أشعة الضوء فوق البنفسجية. النباتات في هذا المكان ضئيلة وتكون لصيقة بجانب الجبل، لا تكاد تظهر فوق المنحدرات المغطاة بركام الصخور. ومع ذلك، من حينٍ لآخر، يلوح شيء شاحب وعالٍ — أشبه بالشبح — من وسط الضباب.

النبات الأفضل أداءً.

النبات الأفضل أداءً.

حين لمح عالم النبات جوزيف هوكر هذا النبات الغريب لأول مرة في أربعينيات القرن التاسع عشر، كان «في حيرة من أمره إزاء فهم ماهية هذا النبات.» فمن قاعدة أوراق خضراء عادية، ينمو إلى أعلى عمود أجوف مكون من أوراق صفراء شاحبة متداخلة. من الممكن أن ينموَ هذا العمود إلى ارتفاع مترين تقريبًا، وهو ما يجعل النباتات الأخرى المحيطة به تبدو قزمة.

إذنْ كيف يتمكَّن هذا النبات من النمو بمعدل يفوق النباتات المحيطة به إلى هذا الحد في هذا المكان المرتفع؟ إن الشفافية الجزئية التي يتميز بها هذا العمود ترجح إجابة مدهشة؛ ألا وهي أن هذا النبات يصنع صوبته الزراعية الخاصة.

حين درس هوكر النبات عن كثب، صنَّفه ضمن عائلة نبات الراوند، وأطلق عليه اسم «روم نوبيلا»، أو الراوند النبيل. وعلى غرار هذا النوع من النباتات الذي يُزرع على نطاق واسع كمصدر للغذاء، فإن سيقان أوراقه الخضراء تصلح للأكل. وقد أشار هوكر إلى أن السيقان طيبة المذاق ويأكلها كثيرون؛ الأرجح أنها طيبة المذاق أكثر مما ينبغي إذ إن النبات الآن مهدد بالانقراض في البرية.

يزرع عدد من الحدائق النباتية والمتحمسين للنباتات نباتَ روم نوبيلا، لكنه نادرًا ما يزهر بعيدًا عن موطنه الطبيعي، وأزهاره هي الجزء المدهش منه؛ فتلك الأعمدة الجوفاء هي في الواقع عناقيد زهرية. تنبت الأوراق الصفراء الشاحبة — أو القنابات، حسبما يطلق علماء النبات على هذه الأوراق النباتية المعدلة — من كل عنقود، محيطةً بالأزهار ومُخفية إياها بالداخل. يقول ديفيد سمبسون، رئيس معشبة حدائق كيو جاردنز في لندن، حيث لا تزال العينات التي جمعها هوكر مخزنة: «على مقياس من ١ إلى ١٠ للنباتات غير المألوفة، يقترب هذا النبات على الأرجح من الدرجة ٨.»

تُبقي القنابات الأزهار مغلفة طوال فترة نموها وتلقيحها وفي أثناء تكون الفاكهة والبذور. فقط بعد إتمام هذه المهمة يتحول لونها إلى البُني لتسقط بعدها، كاشفةً الساق التي تحمل البذور بداخلها وتكون ميتةً حينئذٍ. كتب هوكر يقول: «في الشتاء، ترى هذه السيقان السوداء العارية — بارزةً من وسط المنحدرات الصخرية الناتئة من الجبال أو مرتفعة فوق الثلوج — كئيبة بما يتناسب مع حالة الإقفار المحيطة التي يفرضها هذا الفصل.»

لكن، ما سبب تغليف الأزهار في المقام الأول؟ غالبًا ما يشار إلى نبات روم نوبيلا على أنه «صوبة زراعية»، لكن ليس معروفًا مَن هو أول مَن اعتقد أن هذا النبات قد يؤدي هذا الدور. يرجع مصدر أول إشارة لهذا النبات بهذا الوصف استطاعت مجلة نيو ساينتيست التوصل إليه إلى عالم النبات الياباني ساسكي ناكاو في عام ١٩٦٤. كتب ناكاو يقول: «تتفتح الأزهار في الحجرة الدافئة الذاتية الصنع.» هذا الأمر يدعم عملية التلقيح — حسبما يرجح ناكاو — من خلال توفير الظروف المواتية للحشرات.

كما أشار لاحقًا عالم نبات ياباني آخر ويدعى هيدياكي أوبا إلى أن الدفء يعزز نمو النبات نفسه كذلك. يقول أوبا في كتاب من تأليفه عام ١٩٨٨: «إن عملية الإزهار تكون محميةً بقنابات مورقة شبه شفافة تشبه الورق يمكن مقارنتها بزجاج الصوبة الزراعية الدافئة.»

في تسعينيات القرن العشرين، أثبتت إحدى الدراسات أن العمود الأجوف له «تأثير الصوبة الزراعية». فالقنابات تتيح مرور أشعة الضوء المرئية وتحت الحمراء عبرها وتحبس الحرارة الناتجة، تمامًا مثل الزجاج أو البلاستيك الخاص بالصوبة الزراعية.

يبدو أن عددًا قليلًا آخر من النباتات الأخرى يوظف هذا التأثير. معظمها حالات غير لافتة، لكن نبات «روم ألكسندرا»، وهو نوع آخر من الراوند، يبدو وكأنه نسخة أصغر من نبات روم نوبيلا. ومع ذلك، يبدو أنه يمثل حالة تطور موازٍ. تشير الأدلة الوراثية إلى أن الأعمدة الجوفاء لهذين النباتين قد تطورت على نحوٍ مستقل، حسبما يقول جيانكوان لو، أخصائي علم البيئة الجزيئي بجامعة لانجو في الصين.

لكن ما الهدف من تطورها؟ مع أن القنابات الشاحبة تفتقر إلى الكلوروفيل، فإنها معبأة بمواد تمتص أشعة الضوء فوق البنفسجية. وهكذا يحتمل، مثلًا، أنها تطورت لتصبح مرشحات للأشعة فوق البنفسجية حيث إن هناك حاجة لقيامها بهذا الدور، كما يحتمل أيضًا أن تأثير الصوبة الزراعية أمر عرضي تمامًا.

من ثَمَّ، أرسل هانج صن، عالم النبات بمعهد كانمينج للنبات في الصين، اثنين من الطلاب لدراسة الفوائد التي تقدمها القنابات، إن وُجدت. هكذا، اتخذ الطالبان من قرية وينجشوي النائية التي تقع في التبت قاعدةً لهما، وفي كل صباح كانا يقودان سيارة مستأجرة من أجل صعود الجبال لمراقبة نباتات روم نوبيلا وهي تنمو في البرية؛ وأزالا القنابات من بعض النباتات قبل إزهارها ومن نباتات أخرى بعد أن أزهرت، وتركا مجموعة ثالثة سليمة.

أثبت عملهما ما أشار إليه ناكاو بشأن الحشرات؛ فقد ظهر أن الملقح الرئيسي للروم نوبيلا — بعوضة الفطر — تفضل بقوة زيارة النباتات التي لا تزال تحتفظ بكل قناباتها، فيما يبدو أن هذه البعوضة تنجذب إلى المأوى الدافئ بالداخل. كما أن العثور على النباتات السليمة أسهل حسبما يعتقد صن، الذي يقول: «هذه القنابات تعمل كراية تساعد الملقحات في تحديد موقع عائلها.»

كما أثبت الفريق أهمية ترشيح الأشعة فوق البنفسجية؛ فحين تعرضت الأزهار التي تحمل حبوب اللقاح لنسب مرتفعة من الأشعة فوق البنفسجية في المختبر دون حماية القنابات، لم ينبت سوى عدد أقل بكثير من حبوب اللقاح. ومع ذلك، فإن الأوراق النباتية العادية التي تحتوي الكلوروفيل الموجودة في قاعدة النبات توفر حماية من الأشعة فوق البنفسجية أكبر من تلك التي توفرها القنابات؛ من ثَمَّ لا بد من أن الشفافية الجزئية للقنابات قد تطورت لسبب آخر.

اكتشف فريق صن أن القنابات تحمي الأزهار من الأمطار والبرد أيضًا. ويزهر نبات روم نوبيلا خلال المواسم المطيرة؛ وقد وجد الفريق أن معظم حبوب اللقاح قد زالت من النباتات التي قُطعت قناباتها. لكن هذا، من جديد، لا يفسر الشفافية الجزئية التي تتميز بها القنابة. مع ذلك، هذه السمة ضرورية لإحداث تأثير الصوبة. وفي يوم مشمس، كانت درجة حرارة الهواء أكثر دفئًا بعشر درجات داخل الأعمدة من خارجها (انظر الشكل)، وهو اكتشاف يتوافق وملاحظات باحثين آخرين. لكن صن وفريقه ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك، فراحوا يجمعون حبوب اللقاح من عديد من الأزهار، وأثبتوا أن احتمالات إنبات حبوب اللقاح المحفوظة في درجات حرارة أعلى تكون أكبر بكثير؛ لذا فإن الدفء الزائد مهم حقًّا لعملية التلقيح.

الاحتفاظ بالحرارة

قد تكون درجة الحرارة داخل عمود أزهار الراوند أكثر دفئًا من خارجه بعشر درجات مئوية.

كما أن الدفء والحماية يدعمان نمو الحبوب؛ فقد وجد الفريق أن النباتات ذات القنابات السليمة تنتج حبوبًا أكبر حجمًا تزيد احتمالات إنباتها عن تلك الحبوب التي تنتجها النباتات التي انتُزعت قناباتها بعد الإزهار (دورية أُكولوجيا، المجلد ١٧٢، صفحة ٣٥٩). يختتم صن كلامه قائلًا: «تعمل القنابات كصوبة زراعية لرفع درجة الحرارة؛ ومن ثَمَّ تدعم إنبات حبوب اللقاح ونمو الحبوب.» ويضيف أن هذه القنابات حلول بارعة لهذه البيئة القاسية.

ثَمَّةَ عيب واحد لهذه القنابات؛ ألا وهو أن البعوض الذي يلقح النباتات يضع بيضه في الزهور، واليرقات تتغذى على الحبوب؛ فقد كانت الحبوب في النباتات السليمة القنابات تؤكل بكمية أكبر. لكن المزايا الأخرى للقنابات تفوق الخسائر. علاوةً على أن البعوض كان ضروريًّا من أجل تلقيح الجيل التالي.

هكذا، يبدو أن نبات روم نوبيلا قد طوَّر بنيته الرائعة للأسباب نفسها التي يستخدم من أجلها البستانيون والمزارعون الصوبات الزراعية — لتوفير الحماية ودعم النمو — كما يبدو أن هذا النبات لديه المشكلات نفسها، بما يسمح بنمو الآفات أيضًا. بإمكاننا إضافة الصوبة الزراعية للقائمة الطويلة من الأشياء التي يرجع الفضل إلى التطور في ظهورها للمرة الأولى.

 

15 مارس, 2017 12:55:49 مساء
0