تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
قهوة خالية منك

أنا الغريبة التي أعمل في الغربة وأنتَ الوسيم الذي تدرس في هذا البلد البعيد البارد القاسي... هذا ما استطعت أن أعرفه عنك خلال ترددي على هذا المقهى... الذي أصبحت أزوره بلا سبب كل يوم... فقط لأرتوي منك ومن القهوة...

كل مرة أذهب فيها إلى ذات المقهى وأطلب فنجان القهوة نفسه الذي أعلم أنك ستجلبه لي مع صحيفة لا أهوى مطالعتها، فقط أتصفحها وأقلب أوراقها بلا اهتمام لأسرق من خلالها بعض النظرات إليك...

كل اهتماماتي هو أن أطالع عينيك... وأتلذذ بقهوة صنعتها يداك...

فالقهوة التي تعدها لي ليست كأي قهوة، ليست كقهوة الباقين، ففيها من بقايا عطرك والقليل من ذكورية ممشوقة كجسدك الفارع الطول اللذيذ الهيئة، لذلك قهوتك لها عطرٌ لذيذ، وهي ليست كقهوة هذا الغرب.. باردة الطلة.. خفيفة الطعم.. بل هي شرقية بامتياز وممشوقة وفارعة ولذيذة الهيئة مثلك، لكنها لا تخلو من الكثير من التعب والشوق... وبقايا جواز سفرٍ هاجر الى هنا! مثلي. 

فكلانا مهاجر إلى مدينة لا تنام ليلاً ولا تتعب نهاراً.. 

كلانا مهاجر إلى مدينة اتفق الزمن أنها الأفضل لك علماً وعملاً... ولي عملاً ومسكناً أبدياً... هناك... نلتقي في الغربة حيث لم نستطع أن نلتقي في الوطن... وكأننا وطنٌ للغربة... 

نلتقي في المكان البعيد ولو لبعض دقائق يومياً لتعد لي قهوة اللجوء الشديدة المرار، ولا أعلم هل اشتهي قهوتك أم اشتهي ابتسامتك أم هي الطلة التي تستقبلني بها كلما دخلت باب المقهى... تلك الابتسامة التي تذكرني بوطني الذي هجرته منذ عقود وهجرني منذ ولادتي.

كل يوم كنت أعتاد الجلوس على الكرسي نفسه وأمام الطاولة عينها والتي تطل على أجمل مناظر المدينة، ولكنني لم أكن أهوى المكان بقدر ما كنت أهوى الاقتراب منك كثيراً لدرجة أنني كنت أرغب بالالتصاق بك... لكن شرقيةٌ أنا، وعلى الرغم من تمردي يبقى فيّ جزءٌ يخاف نظرات الناس، لذلك كنت أجلس في المكان عينه كل يوم وأتحجج بقراءة الصحيفة التي تجلبها لي وأرتشف منك نظرة ومن فنجان القهوة رشفة، ثم أكتب في دفتري شيئاً من الرواية التي أكتبها منذ فترة، منذ أن قررت أن أعاود الكتابة وأنت بطل الرواية. 

لقد عدت إلى ممارسة هوايتي واحترافي والفضل يعود لك.

مع الأيام عرفت أيام راحتك الأسبوعية فأصبحت أتحاشى المكان وأنت لست فيه، فالمكان لا يستهويني وهو خالٍ منك، والقهوة لا تعنيني وهي خالية منك، ليس فيها ما يثير اهتماماتي وأنت خارج المكان والوقت وخارج القهوة وخارج القلب. 

كنت في بعض الأيام أصل لأجد أحدهم أحتل الطاولة واستولى عليها فيستولي علي الحزن والكآبة وأصاب بالهزيمة فيخدمني غيرك وأنت لا تمنحني من كل الوقت إلاّ ابتسامة بعيدة وحزينة فأترك القهوة كما هي وأترك الجريدة كما هي وأدفع الفاتورة وأترك قدمي تسابق الريح وتسابق حزني بأن قهوتي في ذلك الصباح خالية منك.

وفي صباح اليوم التالي أقرر أن أصل مبكرة لكي أخذ المكان الذي يليق بك سريعاً قبل أن يحتله الغير وهناك أمارس طقوسي اليومية من عشق وغرام بصمت كأنني في معبدٍ وأنت الإله...

نعم بجسدك وطلتك أنت تشبه إلهاً من آلهة الإغريق... أنت كأحد تلك التماثيل الممشوقة والوسيمة والممتلئة قوة وكأن الحياة تكاد تدب فيها بمجرد إعجابك بها...  

آهٍ منك.. فأنت أعدتني إلى الكتابة والكآبة... حتى أصبح القلم يسرع الخطوات على ورق أبيض يلتهم الحبر التهاماً... فقط لأنك تعد قهوتي وتتحرك أمامي كوردة جورية تحركها نسمات هواء صباحية بكل رشاقة فتنثر عطرها هنا وهناك وتملأ حديقة قلبي بأجمل الصباحات...

آهٍ، أي الطرق أسهل وصلاً إليك؟ أي الوسائل أسهل بالتقرب منك؟

آهٍ، لو أعلم... آهٍ لو أدري؟

آهٍ لو أملك حلاً لمعضلتي... آه لو كنت تبادلني مشكلتي نفسها...! 

مشكلتي... بالنسبة إليك فنجان القهوة الذي تعده لي كل صباح؟ 

مشكلتي بعض النظرات الخاطفة الخجولة مني وأنت منهمك في العمل بين طاولة وأخرى؟ آه كم أجن عندما أراك تخدم طاولة تمتلئ بالفتيات الجذابات الصغيرات بالعمر واللواتي يتهامسن عندما تلتفت وتبتعد عنهن... إنهن مثلي متيماتٌ بك، ولكنهن أجمل مني ويافعات... لسن مثلي... فأنا أكبرك سناً، وأُخفي شعري الأبيض بالكثير من الصباغ وأُخفي الكثير من التجاعيد بمساحيق وألوان... وكأنني أضع أقنعةً لتعشق مظهري لكني... لا أدري!

لعل أسهل الطرق إليك بخشيشا سخياً أدفعه من دون ندم على الرغم من  حاجتي الماسة إليه، أم أنه رشوة أدفعها لأصل إليك، ولعل الوصول إليك وصولاً لقلبك! ما أتعسني أدفع بخشيشا كرشوة لأصل إليك! ما أرخص الوصول إليك وما أصعب الحصول عليك!

وذات يومٍ ماطر وصلت متأخرة ولم يكن من أيام راحتك وجلست أنتظرك تأتي نحوي... جالباً معك قهوتي والصحيفة وقبلهما عطرك وابتسامتك وطلتك... 

انتظرت ولم تأتِ!

جلست أنتظر ابتسامتك الجارفة كسيل نهرٍ هادر، ومشيتك السريعة كأعاصير مجنونة تدب في داخلي تقلب زوابعها كل مكنوناتي ودواخلي لترمي إلي فنجان قهوةٍ وجريدةٍ وتمنحني القدرة على الكتابة في صفحات رواية لا أرغب أن أنهيها بسرعة...

وها أنا أنتظرك بفارغ الصبر...ولم تأتِ! 

أين أنت يا فارسي؟ أين أنت يا بطل روايتي؟ أين أنت يا قصيدة شعري... وهمي وسعادتي؟

أين أنت يا سجني وحريتي؟ يا قلمي وممحاتي؟... أين أنت يا مولدي وموتي؟ أين أنت يا سببي ويا كوني؟

ها أنا انتظرك وكلي شوق لا للقهوة ولا للجريدة بل لرجلٍ يمتلئ جسمي عشقاً منه... يمتلئ يومي كله به...

انتظرتك ولم تأتِ!

ثم جاء شابٌ آخر يحمل دفتره والقلم وفنجان القهوة وابتسامة شعرت أنها صرخة، أنها صفعة... أو أنها النهاية...

قال لي: « أعتذر سيدتي، فزميلي الذي اعتاد خدمتكِ ترك العمل هنا!» وكم كانت صدمتي.

«ترك العمل هنا!!! لماذا؟»

«سيتزوج اليوم»

وكأن بركاناً قد ثار وجن جنونه في قلبي... 

قلبي الذي كان يثور حباً وغراماً طيلة شهور قد خمد في داخلي وانهار إلى داخله... 

وحدث أن ساد الصمت والهدوء في ثانية واحدة وكأنها وقت من دهر.... وما عدت أستطيع الكلام.

أما هذا الشاب فقال بحزن: « لقد كان يعاني جداً وما عاد يستطيع تحمل تكاليف الإقامة والدراسة هنا فقرر الزواج من السيدة التي يستأجر عندها غرفة، فأمنت له بذلك السكن المجاني ووظيفة أخرى لا أعلم أين».

لم أقوَ على الرد ...

«لكنه يا سيدتي طلب مني أن أخدمك طالما تترددين على هذا المقهى وطلب مني أن أعطيكِ هذه الورقة». وسلمني الورقة وذهب أما أنا فأصبحت سداً لدموعٍ تتجمع بقوة خلف عيوني ورجفات قلبي ويدي تمنعني من السيطرة على ورقة صغيرة أحاول فتحها بصعوبة وعندما استطعت فتحها قرأت فيها: «سيدتي الراقية... على الرغم من أنني لا أعلم اسمكِ، لكنكِ يا سيدتي كنتِ كالملاك الحارس الذي أرسله الله إليّ لإنقاذي خلال المدة السابقة، فقد كان البقشيش السخي الذي تتركينه لي كريماً جداً لدرجة جعلني أواصل الحياة هنا، أما وقد تركت العمل وسأتزوج من سيدة بعمر أمي لأستطيع إكمال دراستي فإنني لنْ أنسى كرمك وقد طلبت من صديقي أن يخدمكِ أفضل مني وشكراً لكرمك»... وانتهت الرسالة.

وانهار السد الذي حبس الدموع لفترة وجيزة... وشعرت أن الدموع ستغرقني وأن عيون من حولي ستتبلل بدموعي. فوضعت الورقة على الطاولة وأخرجت بخشيشا جيداً من حقيبتي وتركته على الطاولة مع فنجان القهوة الممتلئ من حزني وقطرات دموعي... تلك القهوة التي ليست منك... وخرجت ولم أعد إلى هناك ثانية.

على تلك الطاولة تركت فنجان القهوة الخالي منك والصحيفة وورقة بخط يدك وقلب محطم... وهربت لاجئة إلى مكان آخر فأنا دوماً سيدة تحب اللجوء... لا وطن لها ولا قلب.

 

* أديب من الأردن

الدستور.

23 يونيو, 2017 12:44:35 مساء
0