تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

ابن عراق.. مصحح أخطاء الرصد الفلكي

عندما ترى إنساناً يتميز بخصال شريفة، ينتابك الشغف برؤية والده الذي انتقلت منه إلى الولد سمات النجابة، فالولد سر أبيه كما يقولون، وقد يكون للولد إخوة لم يرثوا الصفات التي ورثها أخوهم، وفي مجال العلم قد تصدق النظرية ذاتها بين الأساتذة والتلاميذ، ولكن حين نسمع بعالم تلاميذه أكثرهم نجباء، فنحن بصدد شخصية فريدة، تشكّل قصتها فصلاً أصيلاً من سيرة العبقرية.

بلغت العقلية الفذة التي تمتع بها أبو النصر منصور بن علي بن عراق الجيلي، المتوفى سنة 425هـ، درجة من أعلى درجات السموّ الفكري، حتى مثّلت مصدر إلهام لمعظم من حوله من طلاب العلم، الذين استفادوا من أبحاثه واكتشافاته البارعة، وكان من أشهرهم أبو الريحان البيروني (تحدثنا عنه في حلقة سبقت)، الذي تتلمذ عليه في الثامنة عشرة من عمره، وسافر معه إلى مدينة غزنة الأفغانية عام 408هـ، وظل طوال حياته يكنُّ الكثير من الإجلال لأستاذه، ويهدي إليه نتاجه العلمي، ويطرح عليه كل ما بدر في خاطره من التساؤلات، التي لم يبخل بالإجابة عنها ابن عراق في بضع عشرة رسالة، منها «رسالة في معرفة القسيّ الفلكية»، وتتضمن برهاناً في علم حساب المثلثات.

وُلد ابن عراق عام 349هـ في مدينة كيات، عاصمة خوارزم خلال الحقبة الممتدة من القرن الرابع الهجري حتى العاشر، حيث تلقى على أيدي علمائها دروساً في التفسير والحديث والفقه وعلوم اللغة العربية، ثم لم يلبث أن وجد في نفسه رغبة في دراسة العلوم التجريبية، دفعته إلى الاطلاع على الكتب المؤلَّفة آنذاك في مجالات الرياضيات والفلك والهندسة وغيرها من المعارف العقلية، حتى حصَّل علماً وافراً وثقافة موسوعية، وحينما ذاعت شهرته حاز إعجاب أمير خوارزم علي بن مأمون، الذي أكرمه وحقق له حلمه ببناء مرصد ومدرسة لطلاب العلم في خوارزم، كما ألَّف له ابن عراق كتابه «المجسطي الشاهي».

وعلى الرغم من ضخامة المؤلفات التي تركها ابن عراق وتنوُّعها، فإن ما صمد منها أمام عوامل الزمن يكاد ينحصر في علم الفلك، ويشتمل على إضافات علمية ذات أهمية كبرى، استطاع فيها أن يستغل قدرته العالية على النقد والتحقيق، متجهاً إلى تصحيح كثير من الأخطاء التي وقع فيها من سبقوه في هذا الفن، ومحاولاً السعي إلى إكمال الصورة المعرفية التي شرع فيها من أسّسوا القواعد الأولى، فسجَّل في أعماله ملاحظاته على «زيج الصفائح» الذي صنَّفه عبد الرحمن الخازن، كما أوضح رؤيته فيما يتعلق بجهود العالم المسلم محمد بن الصباح، لافتاً إلى الأخطاء في استعمال الآلات الرصدية، والأحوال المختلفة التي تحدث من اختلاف الفصول في السنة، إضافة إلى إسهاماته الواضحة في بلورة التقنيات الفلكية الهندسية.

ولم تصل إلينا أكثر بحوثه في علم الرياضيات، لكنَّ شهادة عمر الخيام في كتابه «في ربع الدائرة» على ما أنجزه ابن عراق تبدو وافية، وتُظهر لنا أنه بحث في مسائل كثيرة تخص علم الجبر، وشارك في مناقشة كبار الرياضيين في زمانه كالحسن بن الهيثم وغيره الذين عُرفوا حينها بـ«الطبقة العليا في الرياضيات»، وترجم بمعاونة عدد من العلماء بعض المسائل الهندسية، هذا إلى جانب رسائله العديدة التي ألَّفها في هذا المجال، والتي فُقدت ولم يبقَ منها إلا عناوينها التي تسردها لنا كتب التراجم والتاريخ.

24 يونيو, 2017 01:07:45 مساء
0