تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
ناجي بيضون شاعر «ألفية» عصرية وزنا وقواعد

لافتٌ أن تقعَ عيناك في المكتبة العربيّة على كتاب بعنوان «الألفيّة العصريّة في قواعد اللغة العربيّة»... لافتٌ من جهاتٍ كثيرة، أولاها: ما تحيلُ عليه كلمة «الألفيّة» من إشارة إلى ألفيّة محمد بن مالك الأندلسيّ، المتوفَّى بدمشق 672ه، تلك الألفيّة التي ضمّتْ معظمَ قواعد النحو والصرف في 988 بيتاً من منظوم الشعر على بحر الرجز ومشطوره، وهي ما زالت تُدرَّس في الجامعات والمعاهد المتخصّصة باللغة العربيّة وآدابها، لاسيّما في أهم شروحها «أوضح المسالك إلى ألفيّة ابن مالك» للنحويّ الكبير جمال الدين بن هشام الأنصاريّ (ت761هـ)، وقد حقّقه ووضع له شروحاً محمد محيي الدين عبد الحميد، تحت عنوان «عمدة السالك إلى تحقيق أوضح المسالك» في أربعة مجلّدات. مثل هذه الإحالة تردّنا إلى زمن المتون، حيث حظي الكثير من العلوم العربيّة الإسلاميّة بمنظوماتٍ شعريّة، سهّلَ حفظُها غيباً على الدارسين والمدرّسين التعاملَ معها في ما بعد.

ثانيتُها: ما يثيره توليفُ «الألفيّة العصريّة» من تساؤل ما بين الصفة والموصوف، فما العصريُّ في الأمر؟ قواعد النحو والصرف ثابتةٌ قارّة، فهل أعاد المؤلّف نظمها من جديد؟ ولمَ؟

ثالثتها: ماذا يريد هذا المؤلَّف الجديد، وقد شاعت في المكتبات كتبٌ كثيرةٌ تحمل عنوان قواعد اللغة العربيّة، وهي ما فتئت تعرض القواعد عرضاً يحاول التقريب والتبسيط والتسهيل على الطلاب؟

هذا اللافتُ من جهات عدّة والمثيرُ لأسئلة كثيرة يكسرُ حدّةَ أسئلته العنوانُ التفصيليُّ «66 أغنية لتعلّم الصرف والنحو»، فهو الجديد في الأمر، وهو ما أتوقّع أن يشدّ قارئه، ويزحزحه عن العنوان الرئيس، وهو – في نظري – العنوانُ الأصحُّ والأدقُّ لهذا الكتاب، ما لم يكن المؤلِّف قد وضع في حسبانه المضيَّ إلى استكمال مشروعه في أجزاء لاحقة.

وعلى أيّ حال، فإنّ كلمتَيْ «أغنية» و «تعلُّم» هما ما ستكونان محلَّ الاهتمام، لأنّهما تتضمنان الجديد، وتتابعان ما ذهب إليه أصحاب المتون، ولكنْ على نحوٍ أكثر جدّةً، فإذا كانوا قد ذهبوا إلى الشعر استعانةً بموسيقا أوزانه على الحفظ، فإنّ المؤلِّف هنا قد ذهب، زيادةً على ذلك، إلى موسيقا الألحان والأنغام وصوت الفنّان الذي يؤدّي هذه الأغاني، وفي ذلك مزج لفائدة العلم بمتعة الفنّ، وهو أسلوب صار موصى به ومعتَمداً في أساليب التعليم.

أمّا كلمة «تعلُّم»، وليس تعليم، فهي تدلّ على الاعتماد على الذات في إتقان القواعد على مستويي النحو والصرف، وهذا أمرٌ غالٍ جدّاً إذا صحَّ. فالمتون القديمةُ كانت تحتاج إلى الشرح وشرح الشرح أحياناً، فالمؤلِّف، إذاً، لا بدّ أنّه بذل جَهداً كبيراً في التبسيط والتسهيل تلاؤماً مع ما يقتضيه التلحين والغناء من جهة، وما يقتضيه الوصول إلى عقل المتلقّي ونفسه بلا مُعلِّم.

فهل فعل ذلك المؤلف ناجي بيضون؟ وكيف؟

ضمَّنَ بيضون مقدّمة هذا الكتاب أمرين: ما دعاه إلى إنجازه، وما يرجوه منه. فمّما دعاه إلى إنجازه: كثرةُ الأخطاء في نحو اللغة وصرفها في الكتابة والخطابة ووسائل الإعلام ومنابر الثقافة، والجنوحُ إلى استبدال لغات أخرى بالعربيّة عل صعيدي المفردة ورسم الحرف، ناهيك عن دعوات إلى اللهجويّة وما يستتبع تحطيم اللغة من ضياع هويّة ومزيد تقسيم. إنّه يستشعر الخطر، وهو ذا يقدِم بما أوتي من علم ومحبّة على الإسهام في مواجهة هذا الخطر، فيعمد إلى إعادة تقديم عدد كبير من قواعد اللغة العربيّة بأسلوب جديد أوفر سلاسةً وعصريّةً وجاذبيّةً، يراه أقدرَ على الوصول إلى المعنيين باللغة معلِّمين ومتعلمين، مازجاً ما بين سهولة الصياغة ويسرها وطلاوة الوزن الشعريّ، مضيفاً إلى كلِّ ذلك الموسيقا والأداء المغنّى بصوتٍ على درجة كبيرة من التميُّز هو صوت الفنّان أحمد قعبور، ليصدر كتابُه مصحوباً بقرص مدمج يذهب بالعمل إلى وسائل الاتصال الحديثة.

أمّا ما يرجوه الأستاذ ناجي من هذا العمل فهو أن يؤدّي مهمّته في تقديم قواعد اللغة على طبقٍ من المتعة الفنيّة، فيغدو ما كان محلّاً لكدّ الذهن محلّاً لتذوّق المعلومة، وما كان محلّاً لبذل الجَهد على طاولة الدرس محلّاً لقليلٍ من الإصغاء الجميل أين كنتَ وكيف كنت، مسترخياً في الحديقة، أو مع فنجان قهوة في ركن هادئ، أو متمدداً في السرير، أو قاطعاً المسافات على طريق سفر.

هذا ما يرجوه منه، أمّا ما يرجوه له، وهو ما لا يتحقّقُ رجاؤه الأولُ إلّا به، فهو أن يُتلقَّى هذا العمل التلقّيَ الذي يستحقّه من المثقّفين، ومن الجهات المعنيّة بتدريس اللغة العربيّة على المستويات كافّةً، ومن الإعلاميين ومخرجي برامج الإذاعة والتلفزة، وورشات عملها لحماية اللغة العربيّة، كما يأمل بتعاون المراكز التعليميّة والثقافيّة والجهات التربويّة في العالم العربيّ.

اللغة العربيّة بحرٌ، ما لاحتْ شواطئُه لأكبر علمائها وأئمة من أنفقوا أعمارهم في درسها. أقول: ما لاحت شواطئه، هذا إذا كانت له شواطئ، ولا أعتقد أنّ له مثل ذلك، وقُصارى الأمر أن نذهب إلى ما يتيحه العمرُ والاستطاعةُ من الاستقصاء والتعمُّق. ومن الطبيعيّ أن يُجاري التقعيدُ لهذه اللغة ما عليه بحرُها من السعة والعمق، لا سيّما إذا ذهبنا إلى الدقائق والتفاصيل، وحسبُ المشتغل فيها أن يقدِّم ما يرى أنّه لا بدّ منه في المجالات التي يتوجّه بعمله إليها، فالمنجَزُ منوطٌ بما أُنجِزَ له، وقد استطاع المؤلِّف بهذا الكتاب أن يقدِّم، على طريقته، عدداً وافراً من القواعد، ومعظمَ ما يهمُّ الدّارسَ غير المتخصِّص والمثقّف والعامل في مجالاتٍ اللغةُ والتعبيرُ بها ضروريان لإتقان عمله.

بنى الشاعر معظمَ منظومته هذه على (المتدارك)، وهو بثلاث تفعيلاته (فَعْلُنْ /5/5)، (فَعِلُنْ ///5)، و(فاعِلُ /5//) وزنٌ يجمع بين ميزتين موسيقيتين: السرعة والتطريب والترقيص إذا تواترت التفعيلةُ الأولى، وما يشبه النثريّةَ التي تجعلُ النظمَ أقربَ إلى عاديّ الكلام لدى المزج بين التفعيلات الثلاث على نحوٍ ما. وقد استفاد الناظمُ من الميزتين معاً.

أضفى هذا التلوين بالتقفية شعوراً باستقلال كلّ قاعدة عن الأخرى، بتوقيع مختلف لخواتيم الأبيات، ونحن نعلم ما لهذا من تأثير في الأذن العربيّة التي ما زالت مولعة ولعاً خاصّاً بأواخر الكلمات في الأبيات، فما زالت المجالس في اليمن، على سبيل المثال، تردّد وراء منشد الشعر الكلمة الأخيرة من البيت في متعة خاصّة. كما كسرَ هذا التلوين الشعورَ بوطأة المتن المنظوم، وهذا ما عانينا منه في المتون القديمة، ناهيك عمّا يكمن، أحياناً، من تلاؤم ما بين صياغة الجملة الشعريّة والقافية... تلاؤم لمصلحة الموسيقا على وجه العموم، فكيف إذا كانت هذه الموسيقا ذاهبة إلى التلحين والغناء!

 

في بناء الموضوع

أقول الموضوع بشيء من التجاوز هنا، فالموضوع هو القاعدة المُراد نظمُها، ولا يحتمل إعمالَ الفكر لطرح الجديد فيه، بل يتطلّب الاستيعاب المحكَم للقاعدة، والمُكنةَ العاليةَ في ترتيب تقريرها نظماً، ومراعاة راهنيّة تقديمها في واقع جديد.

لإنجاز ذلك مضى الناظم إلى بناءٍ التزم ثلاثة مفاصل في بناء القواعد كلها: التعريف، التقعيد، التمثيل، من دون أن يثبت عناوين لهذه المفاصل، حيث يأتي النظم متوالياً، ولكنه على هذا النحو من التسلسل: فهو يعرِّف باسم القاعدة، ثمّ يوردها في قِوامها الأساس، بعيداً من الاستطالات التي ترافقها عادةً، ليأتي بأمثلته بعد ذلك، وهي أمثلةٌ لافتةٌ في دقّتها وإحكامها، ولافتةٌ في طرافة اصطيادها وجاذبيتها في مواضع كثيرة.

في اختتام هذه المقاربة لا بدّ من التنويه بأمورٍ عدّة، أرى أنّها من حقّ هذا العمل عليّ كقارئ جاوز حدّ الاطلاع إلى الكتابة عنه. منها: الإحكام المميّز في النظم وزناً وتقفيةً ولغةً وإيجازاً وسلاسةً ويسراً وسهولةً، الجدّة في انتقاء المفردات، وفي تركيب الجملة الشعريّة بصوغٍ يبلغ درجة الكلام المألوف، ما يجعل النصّ في متناول القرّاء على مختلف مستوياتهم التعليميّة، اكتفاء النصّ بذاته، وأعني بذلك غنيتَه عن الشروح، فقلّما يحتاج قارئه إلى قراءة الجملة أكثر من مرّة ليتبين المعنى، هذا على عكس ما ألِفنا في متون المنظومات القديمة، حيث صعوبة اللغة وإشكال الجملة من حيث المعنى والتركيب، الممازجة ما بين فنون الشعر والتلحين والغناء، وهي تجربة تستحقُّ التقدير لما تحمل من همّ توصيل القاعدة في زمان ألِف فيه الطالبُ يُسرَ التعاملِ مع وسائل التوصيل الحديثة.

واضح أنّ هذا العمل مكتوبٌ بمحبّة لنحو اللغة العربيّة وصرفها، فجماليات الصياغة لا تعكس المكنة في العمل فحسب، بل تعكس انسجاماً عالياً ما بين الكاتب ونصّه، وفرحاً داخليّاً يتلقّاه القارئ حين يلمس أن ما كان صعباً صار على طبقٍ من الجمال.

02 نوفمبر, 2017 07:39:43 صباحا
0