Direkt zum Inhalt
الصوت والصدى في «حوّاءات التفاح»

إذا اعتبرنا تعريف الأدب/ الشعر بأنّه نزع لإلفة الأشياء وتغريبها وفق النقّاد الشكلانيين، فذلك يعني أنّنا نتغيّا اكتشاف الأشياء من بدء، من خلال دهشة لا تخلو من تأمّل، ولا تفتقد النعمة في التواصل. إنّ ما نغرّبه يأتلفنا في خلق جديد، بقدر ما نُفصح فيه عن ذواتنا، نُخرج الكون من لا تعيينه المثالي أو المادي إلى «الكينونة هنا» حسب تعبير هيدغر.

لربما يكون الديوان الأول للشاعر هو الأجمل، ليس كتقييم لصنعة الشعر، بل لأنّه مواجهة مع المرآة الخاصة للشاعر، وبالأحرى، هو صدام ينتهي بأن يكسر الشاعر نرجسيته، كي يتلبّس نرجسية الأشياء، فيتعرّف على الآخر اللامتناهي. قلنا في البداية إنّ الشعر نزع الإلفة عن الأشياء، كأنّ نضيف تاء مربوطة إلى كلمة شاعر، لنُفاجأ بأنّ الشاعرة ليست مؤنّث الشاعر في اللغة، وليس هو مذكّرها، بل نحن أمام «الكينونة هنا» بصورة أنثوية تتجلّى في عتبة عنوانية للديوان المراد مناقشته في هذا المقال: «حوّاءات التفاح» مع كل ما يضمّر هذا العنوان من تهكّم على تفاحة الخطيئة الأولى، فلم تكن التفاحات استنساخاً لها، لأنّ كل تفاحة هي بداية جديدة، فالتفاحة التي أفسدت صندوق الفواكه، طارت منها فراشة.

التعارض بين السطوح

صدر الديوان عن سلسلة الإبداع العربي، الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب لعام 2021. وهو الأول للشاعرة السورية لمى الحسنية كإحدى حواءات التفاح التي تهدي حبيبها «جهنم صغيرة»، وتستجرنا إلى حفلة الشعر، كقرّاء نصطلي بلهيب الحبّ والشعر معاً.

تدرك العين المسافة من خلال التعارض بين السطوح، ففي البحر تعجز العين عن تقدير المسافة، والشعر من دون ثيمات يصبح متاهة، لذلك كانت لمى الحسنية حريصة على إبقاء خيط أرديان ممتدّاً بين قصائدها، كي ينقذها من إلفة وغربة تتمثلان كخطيّن متوازيين، وبذلك تعود إلى ذاتها غير آبهة بالمقولة القديمة، بأنّك لن تستطيع أن تستحم بمياه النهر مرتين: «قد ينمو القصبُ عاليّاً/ قد تمتدّ جذورك/ مجاهدة لبلوغ واحتي/ قد نبني جسوراً/ لكن كما ضفّتي النهر/ مهما تعرّجتا أو انحدرتا/ هما خطّان متوازيان».

وإذا كان الصوت يدرك ذاته عبر السماع، ويتحرّر عبر الصدى، نجد أنّ قصائد الديوان تعتمد ثيمة الصوت/ السماع، لأنّ الشاعرة تخاطب حبيبها وتحاوره، وفي الوقت نفسه ترتكز على ثيمة الصدى، كي تستمع إلى ذاتها وكأنّها آخر. وهي بهذه الجدلية تنجو من ميناتور الحبّ الرابض في المتاهة: «وعلى رقعة الشطرنج/ لعبت الأقدار لعبتك/ هناك أسرني المربّع الأسود/ ضمن المربّع الأبيض»، لكنّها في مقطع آخر حيث ثيمة الصدى تصبح، هي السيدة في اللعبة: «كما لو تبدّدت داخل مثلث/ أشدّ غرابة من مثل برمودا/ يسكن البحر، تطفو أمواج الأنامل فوق النهر/ وتغقو في أحضان النهر».

استنطاق الصمت

قلنا إنّ ثيمتي الصوت/ السماع والصدى في قصيدة الشاعرة بمنزلة سطوح مختلفة تساعد العين على تحديد المسافة، لذلك يسكن البحر/ المتاهة، وتغفو الأنامل في أحضان النهر، فمهما طغى النهر فله ضفتان، ألفة وغربة.

تحاور الشاعرة حبيبها، مستنطقة صمته، ومؤوّلة هجرانه ومن ثم تهزأ منه: «هجرتني/ ولم تتحرك قيد أُنملة/ أنت في قلبي»، وكأنّها تخبره بأنّ وجوده كان بسبب تفاحتها، فهذا الكون الذي يستطيل من المشرق إلى المغرب هو ملك لكَ، اهربْ كما تشاء، فأنت في قلبي وقلب العاشقة، ليس إلّا تعامت أخرى حتى، وإن قتلها الإله إنليل، إلّا أنّه لم يستطع أن يخلق الكون إلّا من جسدها. وعندما يدرك الحبيب أنّ هجرانه، هو قيده الأكبر يعود: «والأفلاك تقول: من ذا يطارد برج الجوزاء غير عطارد!/ تعود لتقول لي: لا لا... كوكبنا المريخ/ كوكب أحمر يشبه ثغر عقيق/ كشفتي السفلى عند أخذ الشهيق/ كوكب مجاور للأرض/ الأحلام فيه ملتهبة/ لا أحلام وردية على المريخ».

تمعن الشاعرة في لعبة الصوت/ السماع والصدى، وكأنّها لا تريد لأي ذبذبة من خطابها إلى الحبيب أن تضيع، فما يفوت الحبيب سماعه تكون له كقناص عبر الصدى، وكأنّها تغار أن يسمع خفقان قلبها دم آخر، قد يغويها، فتعود إلى طمأنة نفسها بالقول: «لكن أحلامي تشبه/ باحة بيت الدمشقي/ كنارنجة تذيب/ بأطراف أغصانها الهشّة/ حموضة العالم».

تقدّم لنا لمى الحسنية تجربتها الشعرية الأولى بلغة نثرية، على الرغم من أنّها تراود الإيقاع في بعض الأحيان، ليس بحثاً عن نظم، بل لأنّ وجيب القلب إيقاعيّ والصوت في ثيمتيه، السماع والصدى، لعبة إيقاعية، وهذا الشكل تأتّى لقصائدها من الحبّ، أليس الحبّ قضية مرآة واِنعكاسها: «أستفيق على صوت أقدام الحروف/ في رأسي/ متوّهمة مرّة أخرى/ إنّها نوبة شقيقة نصفية».

 

 

 

المصدر: القبس الثقافي

 

20 Nov., 2021 03:15:59 PM
0