Direkt zum Inhalt

نهاية المضادات الحيوية: البحث في أقاصي الأرض عن أدوية جديدة

مع ازدياد المقاوَمة للمضادات الحيوية، تتجه الرحلات الاستكشافية الجريئة إلى أعماق المحيطات بحثًا عن أدوية جديدة، وهي خطوة طال انتظارها.

لن تكون الرحلة التي تبلغ مسافتُها ١٥٠ كيلومترًا من تشيلي رحلةً مريحةً، فالجو سيكون حارًّا، وسيكون البحر مضطربًا، وستستغرق الرحلة الليل كله، فعندما تسافر في هذه المنطقة من المحيط الهادئ ستواجِه ظاهرتَي النينيو والنينيا، اللتين من الممكن أن يتسبب الشدُّ والجذبُ المستمرُّ بينهما وبين الطقس في إصابة أكثر البحارة قوة بالغثيان.

ولحسن الحظ، فبمجرد أن يصل إلى وجهته الطاقمُ المكوَّنُ من مجموعةٍ منتقَاةٍ من بحَّارة أمريكا الجنوبية المتمرِّسين ومهندسي الإنقاذ البريطانيين، سيجدون الماء هادئًا، وهذا سيسهِّل على المحركات تثبيتَ موضع السفينة، فبالتأكيد لا يمكن استخدام المرساة في هذه المنطقة، فقاع المحيط على بُعْد ٨ كيلومترات، إنها هُوَّة خَطِرة تُعرَف باسم خندق بيرو-تشيلي، ورغم ذلك فما سيستخرجه الفريقُ من هذه الأعماق من الممكن أن ينقذ حياتك.

خندق بيرو-تشيلي هو المحطة الأولى فقط؛ ففي هذا العام يشنُّ مارسيل ياسبرز الكيميائي في جامعة أبردين بالمملكة المتحدة حملةً دوليةً على الأماكن الخفية غير المستكشفة من المحيطات. إن الكائنات الحية المدهشة التي تعيش هناك يمكن أن نستغلَّها في محارَبةِ أسوأ أعدائنا من السرطان وحتى البكتيريا المقاوِمَة للأدوية. وليس هناك وقت لنضيِّعه، فالبعض يقول إننا بدونها ربما نكون في طريقنا إلى فقد المضادات الحيوية نهائيًّا.

لطالما اعتمدنا على الطبيعة في مَلْء خزانة الأدوية، فأكثر من نصف الأدوية الموجودة في السوق إما أنها مستخرَجة من النباتات أو الحيوانات أو البكتيريا، وإما مستلهَمَة منها. فعلى سبيل المثال، الإسبرين مستخرَج من جذع شجرة الصفاف، والبنسيلين مستخرَج من أحد الفطريات، ولدينا الكثير من المضادات الحيوية المستخرَجة من بكتيريا التربة.

بعض هذه الاكتشافات تمَّتْ عن طريق الصدف السعيدة، لكن جرَتِ العادةُ على أن تبحث شركاتُ الأدوية عن الكنوز الطبية في الأماكن البعيدة، وتُعرَف هذه العمليةُ بالتنقيب البيولوجي. بعض هذه الرحلات الاستكشافية حقَّقَتْ نتائجَ مذهلةً في الماضي، فعقَّارُ فينبلاستين الكيميائي المستخدَم في علاج لمفومة هودجكين مستخرَج من العناقية الوردية، وهي نبات موطنه الأصلي مدغشقر.

انتهاء عصر الرواج

أما على مدار العشرين سنة الأخيرة، فقد شهد التنقيب البيولوجي التقليدي انخفاضًا في الاكتشافات لا سيما بين الأحياء الدقيقة. ويستمر الحال على هذا المنوال؛ إذ يجد المنقِّبون كائنًا واعدًا، وتنفق الشركات مبالِغَ كبيرةً على تطوير عقَّارٍ، ليكتشف الجميعُ بعد ذلك أنهم قد أضاعوا وقتهم. وتقول لورا بيدك عالمة الأحياء الدقيقة في جامعة برمنجهام بالمملكة المتحدة، والتي تقود مبادَرَةً عالميةً لتطوير مضادات حيوية جديدة إن هذا الأمر مستمِرٌّ في الحدوث حتى مع تزايُدِ حاجتنا الماسَّة إلى مضادات حيوية جديدة.

وهناك زيادة في مقاوَمةِ المضادات الحيوية لدى سلالاتٍ من بكتيريا السيلان والسل والعنقودية الذهبية المقاوِمة للميثيسيلين؛ فقد كوَّنَتْ هذه البكتيريا آليَّاتٍ مقاوِمةً حتى ضد المضادات الحيوية التي لجأنا لها كخيار أخير. وخلال عقد أو عقدين ستصبح مقاوِمةً لكلِّ المضادات الحيوية الرئيسية، وستصبح العدوى البسيطة قاتلة. ورغم ذلك، لم يتم اكتشافُ أي كائناتٍ جديدة يمكن على أساسها تصنيعُ أدويةٍ أفضل؛ فتقول بيدك: «جعبتُنا الآن خاليةٌ تمامًا.» (انظر الشكل.)

نهاية المضادات الحيوية: في عام ٢٠١٣ أَوْدَتِ العنقودياتُ الذهبية المقاوِمة للميثيسلين المقاوِمة للمضادات الحيوية بحياةِ أشخاصٍ في الولايات المتحدة، يزيد عددهم عن عدد الوفيات الناجمة عن أمراض الإيدز والتهاب الكبد الفيروسي ب والسل مجتمعة. وخلال عقد أو عقدين ستصبح هذه البكتيريا مقاوِمةً لكلِّ أنواع المضادات الحيوية المعروفة.

نهاية المضادات الحيوية: في عام ٢٠١٣ أَوْدَتِ العنقودياتُ الذهبية المقاوِمة للميثيسلين المقاوِمة للمضادات الحيوية بحياةِ أشخاصٍ في الولايات المتحدة، يزيد عددهم عن عدد الوفيات الناجمة عن أمراض الإيدز والتهاب الكبد الفيروسي ب والسل مجتمعة. وخلال عقد أو عقدين ستصبح هذه البكتيريا مقاوِمةً لكلِّ أنواع المضادات الحيوية المعروفة.

إن حاجة شركات الصناعات الدوائية الماسة إلى مركبات جديدة دفعَتْها إلى التحوُّل إلى النظائر التخليقية، لكنها لم تضاهِ التنوُّع الطبيعي الذي تطوَّرَ عبر مليارات السنوات. ويقول جاي كارتر مستشار الصناعات الدوائية في نيويورك إنه نتَجَ عن ذلك منتجاتٌ أقل وليس منتجات أكثر.

أما ياسبرز فما زال مقتنِعًا بأن الطبيعة لا يزال في جعبتها بعضُ الحِيَل؛ فالكائنات الحية التي تعيش في منطقة الراحة من غلاف الأرض الحيوي لا تمثِّل سوى جزءٍ قليلٍ للغاية من كوكبنا، وخارج المناطق التي نعتبرها صالحةً للسكنى — أي في تربة الصحاري الجافة، أو أسفل طبقات الثلج الكثيفة، أو تحت الصخور — توجد مخلوقاتٌ لا تعيش فحسب، بل تكافِح في ظروفٍ قاسيةٍ من الحرارة والملوحة والظلام.

لقد اكتشفنا منذ ٤٠ سنة أن بإمكاننا الاستفادة من الخواص الكيميائية الفريدة التي تمكِّن تلك الكائناتِ من التكيُّف مع بيئتها لمصلحتنا؛ فقد كان توماس بروك — الذي كان آنذاك عالمَ أحياءٍ دقيقةٍ في جامعة واشنطن — يقود سيارته عبر متنزه يلوستون الوطني أثناء عودته إلى المختبر، وكان منظر بِرَك ومنابع المياه الساخنة خلَّابًا، فتوقَّفَ ليستمتع بالنظر إليها وعاد إلى مختبره ومعه عيِّنَةٌ من المياه، واندهش لاكتشاف كائناتٍ حية في هذه المياه التي تقترب من درجة الغليان؛ وهكذا بدأ عقدٌ من دراسة الأحياء الدقيقة المقاوِمة للحرارة. واتضح أن أحد الأنواع — ويُدعَى «المستحرة المائية» — يُفرِز إنزيمًا يُسمَّى بوليميراز المستحرة المائية، ذلك الإنزيم الذي كان أساسيًّا في أَتْمَتَةِ الطرق المستخدَمة في تضخيم كميات صغيرة من الحمض النووي؛ فحوَّلَ العمليةَ الصعبة الكثيفة العمالة إلى عمليةٍ يمكن إنجازها على طاولة أي مختبر؛ مما أدَّى إلى بزوغ فجر ثورة الجينوم.

لقد بدأنا ندرك منذ عدة سنوات فحسب أن أساليب التكيُّف هذه يمكن أيضًا استخدامُها ضد أشرس الأمراض التي تصيب البشر. فالفطريات التي اكتشفناها في البحيرات الحمضية الموجودة في كهف ليتشوجيا في كارلسباد في كاليفورنيا أمَدَّتْنا بالكثير من المعلومات (انظر الشكل)؛ إذ إن مياه تلك البحيرات المشبَّعَة بالمعادن كان من المفترض أن تمنع كلَّ أشكالِ الحياة. ووجدنا أن هناك سلالة قوية من «البنيسيليوم» تنتج مركبًا يثبِّط نموَّ خلايا سرطان الرئة؛ ووجدنا أن مركب حمض البركليك، المعزول من الفطريات والبكتيريا الموجودة في المياه السامة الموجودة في أحد المناجم المكشوفة، يبطئ نمو خلايا سرطان المبيض بنسبة ٥٠ في المائة. (مجلة جورنال أوف أورجانيك كيمستري، المجلد ٧١، صفحة ٥٣٥٧). وبدأ البحث لاستخراج المزيد من أغرب أدوية الطبيعة.

ورغم ذلك، لو افترضنا أن الحياة ستكون نادرة في هذه البقع، فسوف تتملكنا الدهشة؛ فقد مشَّطَ آلان بول، عالِم الأحياء الدقيقة بجامعة كنت بالمملكة المتحدة، صحراءَ أتاكاما التي تُعتبَر أكثرَ صحاري العالم جفافًا وارتفاعًا والممتدة شمالي تشيلي؛ وهناك تواجِه الميكروبات التجفُّفَ والتعرض الشديد للأشعة فوق البنفسجية، فضلًا عن البيئة القاسية التي جعلت وكالة ناسا تستخدمها كنظيرٍ لكوكب المريخ. وفي هذه الصحراء تمنَّى بول أن يعثر على مجموعة الميكروبات المفضَّلَة لديه؛ الشعاويات الغنية بالجزيئيات التي تعتبر أدويةً جاهزةً، فضلًا عن تميُّزها بصِغَر الحجم الذي يمكِّنها من التسلُّل عبر دفاعات الجسم.

لقد توقَّع أن يجد القليلَ من الأنواع القوية التي تكابد للعيش في هذه البيئة القاسية، لكن وفقًا لآخِر إحصاء فقد جمع فريق بول ١٠٠٠ مزرعة بكتيرية، بعضها أخرج مركبات ذات خواص مضادات حيوية، ومضادة للسرطان، ومضادة للالتهابات، كما أن بعضها كان مألوفًا وكثيرًا منها لم يكن مألوفًا، وعن هذا يقول بول: «من المتوقَّع أن تكون غالبيتها أنواعًا جديدةً لم تُستخدَم بعدُ إمكاناتُها الطبية.»

ليست الصحراء المكان الوحيد الذي يكشف عن كنوز غير متوقَّعة، فالقارة القطبية الجنوبية، تلك المنطقة الشاسعة التي لم تُجرَ فيها عملياتُ استكشافٍ كافية، أصبحت مفتوحةً أمام المنقبين البيولوجيين بفضل التغيُّر المناخي الذي كان لهم حليفًا غير متوقَّع. وقد عكف ديفيد بيرس من جامعة نورثمبريا بالمملكة المتحدة على تحليل عينات مأخوذة من الرواسب الموجودة أسفل المياه المتجمِّدة في بحيرة هدجسون، وتنبع تلك البحيرة من أسفل منطقة كانت غطاءً جليديًّا كثيفًا بفضل انحسار الجليد؛ مما أدَّى إلى الحصول على أول عينة من الرواسب تحت الجليدية الموجودة في القارة القطبية الجنوبية، والتي يبلغ عمرها ١٠٠ ألف سنة. وما وجده بيرس يتشابه مع ما اكتشفه بول؛ إذ كانت الكتلة الحيوية أكبر مما توقَّعه، فيقول: «ربما ضغوط الانتقاء الطبيعي ليست قاسيةً كما تخيَّلْنا من قبلُ، يبدو أنها قد تكون مساعدة على الحياة.»

والأهم من ذلك أنها لم تكن مجرد أعضاء كثيرة من أنواع قليلة، فقد كشف علم الجينوم أن موقع البحيرة يعجُّ بالتنوع، وعن هذا يقول بيرس: «ربما توقعنا أن يكون هناك كائنات حية عالية التخصُّص، لكننا اكتشفنا مجموعة واسعة التنوع، فبعض هذه الكائنات يعيش في الماء العذب، والبعض الآخَر يعيش في المياه المالحة، ومنها أليف الظروف القاسية، وغيرها منتشر في بقاعٍ أخرى حول العالم؛ وهذا كله كان مفاجأة لنا.»

وكان هذا التنوُّع حاضرًا أيضًا في التكوين البيوكيميائي لهذه الكائنات؛ فقد أظهر تحليل الحمض النووي أن ربع المادة البيولوجية الموجودة في بحيرة هدجسون لا يمكن أن تتشابه مع أيٍّ من السلاسل المعروفة، وما زالت المجموعة البحثية في انتظار النتائج النهائية، لكن يبدو أنها أنواع جديدة تمامًا.

وإذا كنَّا ظننا أن الحياة صعبة في ظلِّ البيئات ذات درجات الحرارة القاسية، فإننا اعتقدنا أن الحياة معدومة تمامًا في الصخور الموجودة في أعماقٍ سحيقةٍ تحت أقدامنا. ورغم ذلك، فخلال السنوات القليلة الماضية ثبت أننا مخطئون في هذا التصوُّر أيضًا؛ فالأعماق الصخرية تأوي أيضًا نظامًا بيئيًّا شاسعًا من الأحياء الدقيقة، وهو أيضًا غير مستغَلٍّ مثل القارة القطبية الجنوبية، ويمتد حول العالم كله.

نحو الأعماق

في كل مكان بحثنا فيه فاجأتنا الأحياء الدقيقة بإصرارها ومهارتها ووفرتها. ورغم ذلك، فإن خنادق المحيطات هي أكثر البيئات القاسية التي لم يتم استكشافها، في حين أنها أكثر هذه البيئات تبشيرًا بالنتائج. ورغم أننا خطونا خطوات كبيرة في فهم حياة أعماق البحار، تظلُّ الخنادق هي آخِر مكان مجهولٍ بالنسبة لنا. ويقول تيم شانك عالم أحياء أعماق البحار في معهد وودز هول لعلوم المحيطات في ماساتشوستس: «إنها أكبر محيط حيوي بيئي غير مستكشَف على وجه الأرض.»

وعن هذا الصدد يقول ياسبرز: «خنادق المحيطات أماكن فريدة للغاية.» وتَجمع المنطقة المسمَّاة بالأخاديد القاعية العميقة بين العديد من الظروف القاسية في آنٍ واحدٍ من ضغط هائل وظلام دامس ودرجة حرارة منخفضة تصل إلى ٢ درجة سليزيوس، ورغم أن درجة الحرارة ليست بالغة الانخفاض كما هو واضح، لكنها تمنع نمو معظم البكتيريا. ومع تلك البيئة القاسية، فإن الطبيعة المنعزلة للخنادق ونظامها البيئي الفريد يجعلانها نسخةً مشابهةً لأرخبيل جالاباجوس، لكنها نسخة تحت الأعماق، فكلٌّ منهما لا بد أنها تضمُّ طيفًا من الكائنات الفريدة التي اضطرت للتكيُّف مع بيئتها غير التقليدية.

في العام الماضي، ثبتت صحة حدس ياسبرز القائل بوجود حياة ثرية في الأعماق السحيقة؛ حيث كشف روني جلود — عالم البيئة المتخصِّص في الأحياء الدقيقة وفريقه البحثي في جامعة جنوب الدنمارك في أودنسه — عن نتائج تحليل عيناتٍ جُمِعت من عمق تشالنجر الموجود في قاع خندق ماريانا على بُعْد ١١ كيلومترًا تقريبًا من سطح الجهة الغربية للمحيط الهادئ، فكلُّ سنتيمترٍ مكعب من الطين المأخوذ من هناك كان يحتوي في المتوسط على ١٠ ملايين ميكروب؛ أي ما يزيد عن عشرة أمثال العدد الموجود في الطين المأخوذ من هضبةٍ على قمة الخندق. كيف يمكن لتلك الكائنات المحرومة من الضوء أن تكون كثيرةَ التناسُلِ لهذا الحدِّ؟ ويقول جلود إن تلك الخنادق تتَّسم بمهارةٍ خاصةٍ في جذب المغذيات الداعمة للحياة، فمنحدراتها الحادة الواسعة تعمل كقمعٍ يوصل المادة العضوية إلى القاع، حيث توجد البكتيريا وتتغذى عليه.

لكن هل من الممكن أن تحتوي كائنات الخندق على أدوية جديدة؟ لقد ظهرت بشائر أولية لذلك عندما تعاوَنَ ياسبرز مع بول في إنتاج عقاقير كيميائية مستخرَجة من مجموعة مختلفة من ميكروبات خندق ماريانا؛ فبكتيريا المكورات الجلدية قاطنة الأعماق السحيقة — وهي بكتيريا شعاوية استخرجَتْها من قاع البحر غواصةٌ يابانية تدار عن بُعْد — تفرز عائلة جديدة من مواد كيميائية حيوية لم تُرَ من قبلُ تُدعَى ديرماكوزينات تبشِّر بمقاومة الطفيل الذي يسبِّب مرضَ النوم (دورية إنترناشونال جورنال أوف سيستيماتيك آند إيفولوشنري ميكروبيولوجي، المجلد ٥٦، الصفحة ١٢٣٣). ويقول ياسبرز أن خندق بيرو-تشيلي لا بد أنه مأهول ببكتيريا جديدة مشابِهة لم يبحث عنها أحدٌ من قبلُ. ويستطرد قائلًا: «لم تؤخَذ إلا عينتان فقط أو ثلاث عينات من هناك.» فالبكتيريا لم تكن ضمن قائمة بحث هؤلاء المنقِّبين لأن هدف المشروع كان البحث عن الديدان وغيرها من الكائنات الصغيرة. ويعلِّق ياسبرز قائلًا: «ما وجدوه كان غريبًا ومختلفًا، ومن ثَمَّ فلدينا دليل جيد على أن هذا ما سيحدث معنا.»

إن هذا العمل مناسِب تمامًا لياسبرز؛ فقد ظلَّتْ تلك الخنادق غير مستكشَفة لسبب وجيه، ولطالما كان من المستحيل الوصول لها. وبتمويل يصل إلى ٩٫٥ ملايين جنيه استرليني من الاتحاد الأوروبي سيبدأ ياسبرز العمل في مشروعه الجريء المسمَّى «فارما سي». وقام ياسبرز بتجميع شركائه بعناية، فهم منتقَون من ١٣ بلدًا، ويضمون ٢٥ مؤسسة ومجموعة تجارية؛ سيكون فريقًا نخبويًّا رفيع المستوى. واختيرت تشيلي نظرًا لمنفذها على الخندق، واختير بقية الشركاء على أساس الخبرة. وابتكرت شركة الإنقاذ البريطانية ديب تيك نظامًا جديدًا من الحبال والروافع يأمل مصمِّموه أن يخلصهم من الحاجة إلى السفن العلمية المتخصِّصة، ومن ثَمَّ تقل تكاليف أخذ العينات لتصل إلى العُشْر.

ورغم ذلك تظل هناك عقبة أخيرة لن يكون من السهل تجاوُزها؛ فالمخلوقات التي تستوطن هذه الأرض القاسية تجد بيئتنا المعتدلة مميتةً بالنسبة لها مثلما نجد بيئتها مميتةً بالنسبة لنا. ويوضِّح تريسي مينسر من معهد وودز هول أن كثيرًا من تلك الكائنات من المحتمَل أن تكون أليفة الضغط العالي وتحتاج لبيئة قاسية لتعيش فيها، وأن بكتيريا الأعماق السحيقة ربما لا تكمل رحلتها إلى السطح حية.

تمكِّن مجموعةٌ من غرف الضغط العالي المتطورة الباحثين من زرع كميات صغيرة من تلك البكتيريا أليفة الظروف القاسية، لكن مثل هذه المعدات نادرة وصعبة الاستخدام، ولحسن الحظ أن ياسبرز وضَعَ يديه على غرفةٍ يمكنها محاكاة عمق ٤٠٠٠ متر، وهذا سيساعد في بقاء بعض البكتيريا الأقل قوةً على قيد الحياة. ورغم ذلك، فإن ياسبرز يخطِّط لأخذ عينات من أعماق مختلفة، ويظن أن بعض هذه البكتيريا يمكنه التكيُّف مع ضغوط مستوى البحر.

لا يبدأ الطريق الطويل من أعماق المحيطات اللزجة إلى الدواء الجديد إلا عند وصول العينات سالمةً وتخزينها في أماكن باردة، ويأمل فريق فارما سي في اختبار العديد من الأدوية المرشحة على الحيوانات قبل انتهاء المشروع في ٢٠١٦.

في البداية سيعزلون البكتيريا ويضعونها في مستعمرات أكبر، وبعد ذلك يعدُّون مستخرجًا من البكتيريا ويختبرون قوةَ مئات المركبات التي أنتجوها على الخلايا المصابة بالأمراض المختلفة، ويقول ياسبرز معلِّقًا: «وإذا أثبت أحد المركبات جدارته، فعليك أن تستمر في التنقية حتى تصل إلى المادة الفعَّالة وتجري عليها مزيدًا من الاختبارات.»

وسوف تساعد أساليب التصفية المتطورة في تسريع العملية. ولاكتشاف النشاط ضد أمراض الجهاز العصبي، على سبيل المثال، استعانَ ياسبرز بباحثين في جامعة لوفان الكاثوليكية في بلجيكا، إذ طوَّرَ هؤلاء الباحثون اختبارات قياس جديدة باستخدام أسماك الزيبرا. وتُعَدُّ أسماك الزيبرا حيوانات مناسِبة على نحوٍ غير متوقَّع لاختبار الأدوية الجديدة؛ نظرًا لتشابُهها جينيًّا وفسيولوجيًّا ودوائيًّا مع البشر، والأهم من ذلك أن استخدام الأسماك يعني إسراع عملية التصفية وإمكانية إجرائها باستخدام عينات صغيرة.

وستتمثَّل الخطوة الأخيرة في قيام إحدى شركات الصناعات الدوائية بتطوير الدواء على نطاقٍ واسعٍ. وفي الوقت الذي قد تكون فيه كبرى شركات الصناعات الدوائية تراجعت عن إنتاج المضادات الحيوية إلى حدٍّ كبير، تُغامِر الشركات الصغيرة بالدخول إلى هذا المجال. رونالد فاركوهار — الذي يقود جهودَ اكتشاف الأدوية في شركة كيوبست فارماسوتيكالز في لكسينجتون بولاية ماساتشوستس — متحمس للنجاح الذي يُتوقع أن تحققه فارما سي في المستقبل، ويقول: «البيئات المتنوعة والغريبة ضرورية لاكتشاف أنواع جديدة من المضادات الحيوية.»

يهدف ياسبرز إلى أن يتبع زيارته لأعماق المحيط الهادئ بزيارات مشابهة للخنادق المحيطية مثل خندق كيرماديك الموجود قبالة نيوزيلندا، وخندق ماريانا الموجود في غرب المحيط الهادئ، وخندق إيزو-بونين الموجود قبالة اليابان.

ولكنه سيبدأ بزيارة خندق بيرو-تشيلي، وستغادر السفينة خلال بضعة أسابيع، وبمجرد أن تصل إلى المكان سيُنزِل مهندسو ديب تيك آلةَ أخْذِ عيناتٍ جوفيةٍ طولها متر عن جانب السفينة، وسوف تستغرق الآلة ما بين ٤ و٦ ساعات للوصول إلى قاع المحيط وتثبيت نفسها في رواسبه. وستكون الرحلة إلى السطح أسرع؛ نظرًا لأنها مدعومة بالمحركات، وخلال مدة أخذ العينات من الخندق التي تستغرق ١٠ أيام سوف يعمل المهندسون في نوبات عملٍ على مدار الساعة لجمع العيِّنات.

كلُّ مَن على متن السفينة يأملون في أن تؤدِّي تلك الشحنة النفيسة التي ينقلونها إلى البر إلى بزوغ فجر جديد من المعجزات الطبية، بفضل حياة الأحياء المجهرية التي ظلَّتْ تنتظر فرصتها في ظروف الأرض القاسية منذ ملايين السنين.

15 Dez., 2015 03:47:11 PM
0