أحمد دحبور… شاعر بنى من حيفا والقصيدة بيوتا للعاشقين
«الشاعر هو أوّلا شاهد، هو ابن لحظته وابن عصره»، هكذا تحدث الشاعر الفلسطينيّ أحمد دحبور في أحد الحوارات الصحافيّة معه، ابن حيفا، المولود فيها يوم 21 نيسان/ أبريل 1946، والذي تهجّر منها عام 1948 عندما كان في عامه الثاني، ورحل عنّا يوم السبت، الثامن من نيسان/ أبريل 2017. فقال عن عيد ميلاده: «لم يشعل لي أهلي شمعتين احتفاء بعيد ميلادي الثاني، إنما حملوني وهاجروا بي في المنافي».
لم تغب حيفا عن قصائده وأحاديثه وأحلامه بالعودة إليها يوما ما، خلال الحوار ذاته، قال: «في كلمة سر تلقيتها من أمي تحديدا، يعني هي ما كانت تدرسني دروس وطنيّة، كانت تحكي لما تكون الدنيا برد كثير تقول: بسيطة يمّا، بكرا منروح على حيفا وبتشوف الدنيا دفا.. بحيفا الدنيا بتشتي بس على الزرع. بحيفا في جبل بمشي اسمه الكرمل. هي خلقت أسطورة، وهي لا قصة وطنية لا وشي، هي قصة خيال مرأة بسيطة بتعزي ولادها حتى يصمدوا المصاعب اللي بعيشوا فيها».
وعن حيفا قال يوما ما: «من طفولتي، وأنا مشدود لمكان غامض، هو الجنة تقريبا، اسمه حيفا».
من حيفا، لجأت عائلته إلى لبنان، ومن ثم إلى سوريا، فترعرع ودرس «الولد الفلسطينيّ» في مخيّم حمص للاجئين الفلسطينيّين. لم يتلق الشاعر تعليما أساسيا كافيا، لكنه كان مطالعا وقارئا نهما، حمله فضول وتوق المعرفة إلى الإبحار في قراءة الشعر العربيّ والعالميّ الكلاسيكيّ القديم والحديث، ومن خلال هذا السّفر المتواصل، صقل موهبته الشعريّة التي واصل تطويرها مع تطور القصيدة. فقال في أحد الحوارات معه، في حديثه عن الشعر وعن قصيدته: «أتابع تدوين تجربتي الروحيّة والنفسيّة، وما أكتبه هو استمرار لبناء شخصيتي. حتى في فترة من الفترات كتبت، إنه الشعر بمثابة جاسوس على الشاعر. بكشفه، بقولك هو وين، أين يقف؟ كيف ينتمي للعالم؟ من يعادي؟ بما يلتزم؟ طبعا أثناء ذلك، أشكال التعبير تتطور. أتذكر أول مرة نشرت شي، يمكن عام 1961، قصيدة ساذجة سميتها همسات. الشي الوحيد الذي أتمناه منها أنها موزونة وسليمة اللغة. كنت فتى في الخامسة عشرة من عمري. لكن، تطوّر الشعر، هنالك أشكال فرضتها الحداثة، أنا جزء من الحياة، أتطور مثلما الحياة تتطور».
تابع القصيدة وتطورها، وكرّس حياته للكتابة عن تجربته الإنسانيّة التي هي جزء من تجربة الفلسطينيّ وقصّته. عمل مديرا لتحرير مجلّة «لوتس» حتى عام 1988، ومديرا عاما لدائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينيّة وعضوا في اتحاد الكتّاب والصحافيين الفلسطينيين، وحاز جائزة توفيق زيّاد في الشعر عام 1998. من أهمّ أعماله الشعريّة: «الضواري وعيون الأطفال» (حمص 1964) «حكاية الولد الفلسطيني» (بيروت 1971) «طائر الوحدات» (بيروت 1973) «بغير هذا جئت» (بيروت 1977) «اختلاط الليل والنهار» (بيروت 1979) «واحد وعشرون بحرا» (بيروت 1981) «شهادة بالأصابع الخمس» (بيروت 1983) «ديوان أحمد دحبور» (بيروت 1983) «الكسور العشريّة».
الأغنية وبلورة الهويّة الجمعيّة
يرتبط اسم أحمد دحبور فورا، في ذاكرة العديد من الفلسطينيين، بمسيرة فرقة «العاشقين». هو الذي كتب معظم أغاني الفرقة منذ تأسيسها، الفرقة التي، كما العديد من الفرق الموسيقيّة والغنائيّة الملتزمة وأغاني الثورة الفلسطينيّة، عملت على بلورة الهويّة الجمعيّة الفلسطينيّة، تماما كما فعل أحمد دحبور في قصائده، وكذلك كمل فعل العديد من الشعراء والكتّاب الفلسطينيين في مسيرتهم الأدبيّة. يقول الشاعر الفلسطيني زكريا محمد، في حديث عن أحمد دحبور، لوكالة وفا في مقال بعنوان :»أحمد دحبور: عود اللوز الأخضر الذي لا يكلّ من الذهاب إلى حيفا» نُشر في حزيران/يونيو 2016: «أحمد دحبور واحد من الذين أسهموا في إعادة صياغة الهوية الفلسطينية الحديثة منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، أي كان واحدا من الذين صاغونا، وصاغوا أفقنا. لا يمكنك أن تتحدث بسهولة عمن أسهم بصياغتك، فأنت بشكل ما صياغته، ونحن في الواقع، وإلى حد لا بأس به، من صياغة قصيدتي: «جمل المحامل» و«حكاية الولد الفلسطيني». ستقول لي: لكن هذه بداية أحمد دحبور، فأقول لك: ومن هو الذي لا يمكن اختصاره ببدايته؟ قل لي من هو؟ الشاعر بدايته. لا يتخطى عتبتها. البداية هي النهاية. وبداية أحمد دحبور ونهايته هي الهوية، الهوية الجمعيّة لا الهوية الذاتيّة. نحن الآن مهووسون بالهوية الذاتيّة، ونحن نملك هذا الترف لأن دحبور وجيله نجحوا في تثبيت الهوية الجمعيّة. ترف الهوية الذاتيّة ما كان ليكون خيارا بين أيدينا لولا أحمد دحبور ومحمود درويش وجيلهما».
رحل أحمد دحبور عن عمر ناهز 71 عاما في المستشفى الاستشاريّ العربيّ في رام الله، بعد صراعه مع المرض خلال العام الأخير، وأعلنت وفاته أثر إصابته بفشل كلويّ. وكانت قد نعت وزارة الثقافة الفلسطينيّة الشاعر الراحل، قائلة في بيانها: «تفقد فلسطين ليس فقط واحدا من عمالقة الأدب والإبداع الفلسطيني، بل بوصلة كانت حتى اللحظات الأخيرة تؤشر إلى فلسطين، وأيقونة لطالما كانت ملهمة للكثير من أبناء شعبنا في مختلف أماكن إقامتهم، وفي مختلف المفاصل التاريخيّة الوطنيّة، هو الذي كان بكلمات أشعاره يعكس العنفوان والكبرياء الفلسطيني، خاصة في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وبقي حتى رحيله المفجع».
الوداع الأخير
امتلأت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي برسائل النعي والتعازي والوداع، كتبتها شخصيات من المشهد الثقافي الفلسطيني والعربي، من شعراء وكتّاب وفنانين، وكذلك من قراء ومتابعي الشاعر وقصائده، شاركوا مقاطع من قصائده وصورا له. كتبت الفنانة ريم بنّا عبر صفحتها: «أحمد دحبور.. رحلت وتركت لنا «عود اللوز الأخضر».. وكثيرا من أغاني الثورة الفلسطينية التي كتبتها ورددناها.. وإن لم تعُد إلى حيفا كما حلمت.. حيفا ستنام في حضن أحلامك..».
«الشاعر الثائر العاشق»
أمّا الشاعر والصحافي علي مواسي فكتب: «كان مصدوما وغاضبا جدّا من أنّه يتلقّى علاجه في مستشفى «هداسا عين كارم»، ويريد أن يغادره فورا «من دون أيّ نقاش. «كيف هيك بتعملوا فيّي… كيف بتجيبوني لعندهم… مين حكالكم إنّي بأمّنلهم هدول؟!» قال بتوتّر لزوجته، أمّ يسار، من دون أن تجيب، فحالته الصحّيّة ما كانت لتحتمل إلّا أن يُنقل لمستشفى مجهّز بما يمكن إنقاذه، إثر تدهور حالته نتيجة الإهمال الطبّيّ في مجمع فلسطين الطبّيّ في رام الله. كان مصدوما وغاضبا جدّا من أنّ رفيقة دربه رحلت فجأة بعد مغادرته المستشفى إلى بيته في رام الله بفترة وجيزة. بكاها مثل طفل في أعتى حالات حزنه وخوفه وغربته. «كيف هيك بتعمل… معقول؟ كيف بتروح هيك يعني؟ بصير ما تودّعني؟ بصير ما تقول ولا حتّى كلمة؟ هيك يعني؟ خلص» كان ينظر في عيوننا يلتمس إجابة ما، ثمّ تفيض عيناه بصمت شاحب طويل، وبدمع كثير. فتنكسر عيوننا خجلا من كلّ هذا العشق. «قدّيش لفّيت ولفّيت… إذا فيه هوا حلو بهالدّنيا هو هوا حيفا». قال وهو يحدّثني مع آخرين عن تغريباته الكثيرة، وتواعدنا أن ننظّم له سهرة جميلة قرب بحر حيفاه، قريبا قريبا. عذرا لأنّني ما وفيت بوعدي يا أحمد الحبيب… عذرا أيّها الشاعر الثائر العاشق… عذرا».
كوب الشاي في حيفا
وكتب الشّاعر فارس سباعنة عبر صفحته: «في أمسية توقيع موسوعة جوني منصور عن (حيفا)، أمسك المايكروفون بين الجمهور وقال عن كوب الشاي في حيفا كلاما عاديا لا أتذكره الآن… لكنني أتذكر أنني بكيت ونظرت إلى عرفات الديك إلى جانبي كان أيضا يبكي.. لم ألتق أحمد دحبور سوى مرات قليلة أسلّم عليه بخجل، لكنّ صوتَه في تلك الأمسية قال إنه لم يفعل في حياته إلا الاشتيـاق».
العودة إلى حيفا والموت بعيدا عنها
عاد أحمد دحبور إلى حيفا لزيارة أولى بعد تهجيره منها، كان ذلك في عيد ميلاده الخمسين، يوم 21 نيسان/ أبريل 1996. وعلى الرغم من الصورة التي بناها لحيفا من حكايات والدته، إلا أنه رآها أجمل في الحقيقة. يعيش الفلسطينيّ اللاجئ حياته كلّها حالما بالعودة إلى وطنه، إلى مدينته وبيته، وإن لم يعد إليها، يحلم على الأقل أن يموت ويُدفن فيها.
مات صاحب «عود اللوز الأخضر» بعيدا عن بيته الأوّل، عن «هوا حيفا» وأرضها، تاركا خلفه قصائد تحمل عشقا ووجعا وأحلاما متواصلة لشعب بأكمله، وأغاني سيكون لها الدور دوما برواية قصص الناس لجيل قادم، و«حكاية الولد الفلسطينيّ»، الذي قال يوما: «ليت لي وقت لأكتب غير ذلك كلّه/ لكني لا أندم/ هذا الكتاب من الغلاف إلى الغلاف/ مخيّم».
القدس العربي