Skip to main content

نهاية الدول القومية: هل ثمة بديل؟

تتسبَّب الدول القومية في بعض من أكبر مشكلاتنا، بدءًا من الحروب الأهلية وحتى التقاعس حيال قضية التغير المناخي. ويقترح العلم أن ثمة طرقًا أفضل لإدارة الكوكب.

 

جرِّب — ولو للحظة — أن تتصوَّر العالم بلا بلدان. تخيَّل خريطة غير مقسَّمة إلى رقع ملونة أنيقةٍ كلٌّ منها له حدوده وحكوماته وقوانينه. حاولْ أن تصف أيَّ شيء يفعله مجتمعنا مثل التجارة والسفر والعلوم والرياضة وحفظ السلام والأمن، دون ذكر بلدان. حاول أن تَصِفَ نفسك أنك تتمتَّع بحق التجنس بجنسية واحدة على الأقل، وحق تغييرها، ولكن لا يحقُّ لك ألا تحمل جنسية على الإطلاق.

وهذه الرقع الملوَّنة على الخريطة ربما تكون ديمقراطيات أو ديكتاتوريات أو أكثر فوضوية بما لا يجعلها أيًّا منهما، إلا أن جميعها تزعم أنها شيء واحد وهو: دول قومية؛ أقاليم ذات سيادة ﻟ «شعوب» أو أمم لها الحقُّ في تقرير مصيرها في حدود دولها المستقلة. هكذا تقول الأمم المتحدة، التي تُقِرُّ الآن وجود ١٩٣ دولة قومية.

ويزداد المطالبون بإقامة دولهم الخاصة، بدءًا من الاسكتلنديين الذين يصوِّتون للاستقلال وحتى الجهاديين الذين يُعلِنون عن إقامة دولة جديدة في الشرق الأوسط. وكثير من الأخبار اليومية المهمة — بدءًا من الصراعات في غزة وأوكرانيا وحتى الجدالات الحادة حول الهجرة وعضوية الاتحاد الأوروبي — لها علاقة بالدولة القومية على نحو ما.

وعلى الرغم من اتِّجاه اقتصادنا إلى العولمة، تظلُّ الدول القومية هي النظام السياسي الأساسي على وجه الكوكب؛ فالأعداد المهولة من الأصوات التي ذهبت إلى الأحزاب الوطنية في انتخابات الاتحاد الأوروبي لهذا العام تُثبِت أن الحركة الوطنية لا تزال حية، رغم أن الاتحاد الأوروبي يحاول أن يتخطَّاها.

ومع ذلك، فثَمَّةَ شعور مُتنامٍ بين خبراء الاقتصاد وخبراء الشئون السياسية، بل والحكومات الوطنية، بأنَّ الدولة القومية ليست بأفضلِ معيارٍ نُدِير شئوننا وفقًا له؛ إذ يجب أن نُدِير أمورنا الحيوية مثل الإمدادات الغذائية والمناخ وفقًا لمعيار عالمي. ومع ذلك، فكثيرًا ما تتغلَّب الأجندات القومية على الصالح العالمي. وعلى نطاق أضيق، غالبًا ما يبدو أن المدينة والإدارات الإقليمية تخدم مواطنيها على نحو أفضل من الحكومات الوطنية.

كيف ينبغي لنا إذن أن ننظِّم أنفسنا؟ هل نظام الدولة القومية هو النظام الطبيعي الحتمي؟ أم أنها مفارقة تاريخية خطيرة في عالم تسوده العولمة؟

لا تعدُّ هذه الأسئلة أسئلةً علمية في الأحوال المعتادة، إلا أن هذا الأمر يتغير؛ حيث يتناول هذه الأسئلة باحثون في نظرية التعقيد وعلماءُ اجتماعٍ ومؤرِّخون باستخدام أساليب جديدة، والإجابات ليست دائمًا كما تتوقَّع. تُعَدُّ الدولة القومية ظاهرةً حديثة وهي أبعد ما تكون عن الأزلية. ومع زيادة التعقيدات، فإنها تتحوَّل بالفعل إلى تركيبات سياسية جديدة. فكنْ على استعداد للعصور الوسطى الجديدة.

قبل أواخر القرن الثامن عشر، لم تكن ثَمَّةَ دول قومية حقيقية، حسبما يذكر جون بريويلي؛ الأستاذ بكلية لندن للاقتصاد. وحين كنتَ تُسافر عبر أوروبا، لم يكن يُطلب منك جواز سفرك عند الحدود، ولم تكن جوازات السفر أو الحدود موجودة على النحو الذي نعرفها عليه الآن. كان للناس هويات عرقية وهويات ثقافية، لكن هذه الهويات لم تكن تحدد فعليًّا الكيان السياسي الذي يعيشون فيه.

ويرجع أصل هذا إلى أنثروبولوجيا وسيكولوجية الممارسات السياسية المبكرة للبشرية. كانت بداياتنا بوصفنا بشرًا في صورة عائلات ممتدة رحَّالة، ثم شكَّلنا جماعات أكبر من مجموعات الصيد وجمع الثمار، ثم استقرَّ بنا المقام — قبل حوالي ١٠ آلاف عام — في القرى الزراعية. كان لمثل هذه التحالفات مزايا تكيفية؛ حيث كان الناس يتعاونون على توفير الغذاء والدفاع عن أنفسهم.

الحرب والسلام

لكنهم كذلك كانوا مقيَّدِين بحدود؛ فقد أظهر روبين دونبار — الأستاذ بجامعة أكسفورد — أن الفرد الواحد يستطيع أن يظلَّ متابعًا للتفاعلات الاجتماعية التي تربط بين حوالي ١٥٠ شخصًا فقط لا أكثر. وتتضمَّن الأدلة على ذلك دراسات أجريت على القرى ووحدات الجيش عبر التاريخ، وعلى متوسط مجموع قائمة الأصدقاء على موقع فيسبوك.

لكن كان هناك سبب واحد مهمٌّ ليكون لديك عدد من الأصدقاء أكبر من ذلك؛ ألا وهو الحرب، يقول بيتر تورتشين — من جامعة كونيتيكت بستورز: «في المجتمعات ضيقة النطاق، تُعزى ما بين ١٠ إلى ٦٠ بالمائة من حالات الوفاة في صفوف الذكور إلى الحرب.» ومن ثم، فإن زيادة عدد الحلفاء كان يَعنِي فرصًا أكبر للنجاة.

ووجد تورتشين أن الإمبراطوريات الأوراسية القديمة أصبحت بالغة الضخامة في الأماكن التي كان القتال فيها أشدَّ ما يكون؛ مما يشير إلى أن الحرب كانت عاملًا رئيسيًّا في التوسُّع السياسي. ويستنتج عالِم الآثار إيان موريس — من جامعة ستانفورد في كاليفورنيا — أنه مع زيادة التعداد السكاني، لم يستطع الناس العثور على أراضٍ خالية يفرُّون إليها من الأعداء. وكان الخاسرون في المعارك يذوبون ببساطة في مجال العدو؛ ومن ثم راحت هذه المجالات تتَّسِع.

فكيف تَعَدَّتْ هذه المجالات رقم دونبار؟ تتمثَّل الإجابة العامة للبشرية عن هذا السؤال في ابتكار الهيكل الهرمي. اتَّحَدَتْ عدة قُرًى معًا تحت زعيم واحد، ثم اتَّحَدَتْ زعامات متعددة معًا تحت زعيم أعلى مكانةً. ولكي تنمو هذه التحالفات، ضمَّت إلى نفسها مزيدًا من القرى، ومزيدًا من الطبقات الهرمية إذا استدعت الضرورة.

وهذه الهياكل الهرمية كانت تَعْنِي أن القادة كان باستطاعتهم تنسيق جماعات كبيرة دون أن يضطر أي شخص إلى أن يتابع بنفسه علاقات مع أكثر من ١٥٠ شخصًا. وبالإضافة إلى دائرة الفرد المباشرة، فإنه يتفاعل مع شخص واحد أعلى منه في المستوى الهرمي، ومع ثمانية أشخاص من المستويات الأدنى عادةً؛ حسبما يقول تورتشين.

يقول ينير باريام — رئيس معهد نيو إنجلاند للأنظمة المعقدة في كامبريدج بماساتشوستس — إن هذه التحالفات استمرَّت في الاتساع والزيادة في التعقيد من أجل تأدية أنواع أكثر من الأعمال الجماعية. ولكي يبقى مجتمع ما قائمًا، يجب أن يكون سلوكه الجماعي معقدًا بقدر تعقيد التحديات التي يواجهها، بما في ذلك المنافسة من الجيران. إذا تبنت مجموعة بعينها مجتمعًا هرميًّا، كان على منافسيها أن يفعلوا الأمر نفسه. وهكذا انتشرت المجتمعات الهرمية وازداد التعقيد الاجتماعي.

وعلاوةً على أن الهياكل الهرمية الأكبر كانت تنتصر في حروب أكثر، كانت كذلك تطعم عددًا أكبر من الأشخاص عبر وفورات الحجم، التي أتاحت ابتكارات تقنية واجتماعية مثل الري وتخزين الغذاء وحفظ السجلات واعتناق دين واحد، وتلا ذلك تشكُّل المدن والممالك والإمبراطوريات.

لكن هذه لم تكن دولًا قومية؛ إذ كان من الممكن أن يؤدِّي غزو مدينة أو منطقة بعينها إلى ضمها إلى إمبراطورية ما بِغَضِّ الطرف عن الهوية «القومية» لأهلها، يقول المؤرخ أندرياس أوزياندر — من جامعة لايبتزيش في ألمانيا: «إن رؤية الدولة باعتبارها إطارًا ضروريًّا للسياسة وأنها من عمر الحضارة نفسها لا تصمد في وجه الدراسات المدقِّقة.»

وتتمثَّل إحدى النقاط الأساسية في أن المجتمعات الزراعية كانت تتطلَّب قدرًا بسيطًا من الإدارة الحقيقية؛ فمن بين كل عشرة أشخاص هناك تسعة فلاحين كان عليهم الزراعة أو الموت جوعًا؛ ومن ثمَّ كانوا ينظِّمون أنفسهم بأنفسهم إلى حد كبير، ثم تدخَّلت الحكومة لتحصل على نسبتها، وتفرض قانونًا جنائيًّا أساسيًّا، وتحفظ السلام في الأقاليم غير المتنازَع عليها. وبخلاف ذلك كان دورها الأساسي هو القتال من أجل الحفاظ على تلك الأقاليم أو اكتساب أقاليم جديدة.

يقول أوزياندر إنه حتى بعد ذلك بفترة طويلة، لم يكن الحكام يقضون غير قليل من الوقت في الحكم. في القرن السابع عشر، كان نصف مليون جندي من جيش لويس الرابع عشر — ملك فرنسا — يخوضون حروبًا خارجية، بينما كان هناك ألفا جندي فقط يحافظون على النظام داخل البلاد. وفي القرن الثامن عشر، لم يكن الهولنديون ولا السويسريون في حاجة إلى حكومة مركزية على الإطلاق، كما كان باستطاعة كثيرين من مهاجري شرق أوروبا إلى الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر أن يحددوا القرى التي جاءوا منها، لكنهم لم يستطيعوا تحديد البلد؛ إذ لم يكن للأمر أهمية بالنسبة لهم.

يقول بريويلي إنه قبل العصر الحديث كان الأشخاص يعرفون أنفسهم «رأسيًّا» بأسماء حكامهم، وكان التفاعل الأفقي بين الفلاحين فيما يتجاوز السوق المحلية محدودًا. وأيًّا كان الآخرون الذين يحكمهم الملك وما إذا كان هؤلاء الآخرون يشبهونهم بأي شكل من الأشكال، فإنها كانت مسألة غير مهمة على الإطلاق.

تختلف مثل هذه الأنظمة أشدَّ الاختلاف عن الدول القائمة اليوم، والتي تتمتَّع بحدود مُعرَّفة جيدًا تعجُّ بالمواطنين، يقول بريويلي إنه في ظل نظام الولاءات الرأسية، تكون القوة في ذروتها حيث يعيش الحاكم فيما تضمحلُّ في الأقاليم الحدودية التي تتداخل مع المناطق المجاورة لها. والإمبراطوريات القديمة ملوَّنة على الخرائط الحديثة كما لو أنها كانت ذات حدود ثابتة، لكنها لم تكن كذلك. علاوة على ذلك، كثيرًا ما كانت الأقاليم والأشخاص يخضعان لدوائر قضائية مختلفة لأغراض مختلفة.

مجتمعات بسيطة

ويقول باريام: إن مثل هذه السيطرة غير المحكمة تعني أن الوحدات السياسية قبل العصر الحديث لم تكن قادرة إلا على قليل من الأفعال البسيطة؛ مثل: زراعة المحاصيل الغذائية، وخوض المعارك، وجباية الضرائب، وحفظ النظام، وبعضها — مثل الإمبراطورية الرومانية — أدَّى ذلك على نطاق واسع جدًّا، إلا أن التعقيد — وهي الأعمال المختلفة التي كان بإمكان المجتمع أن يؤديها على نحو جماعي — كان قليلًا نسبيًّا.

كان التعقيد مقيدًا بالطاقة التي كان المجتمع قادرًا على تسخيرها. لأغلب فترات التاريخ كان ذلك يُشِير في الأساس إلى عمل الإنسان والحيوان. وفي أواخر العصور الوسطى، بسطت أوروبا سيطرتها على الكثير من الموارد، وبخاصة الطاقة المائية. وقد عزَّزَ هذا الأمر من التعقيد الاجتماعي فزادت التجارة على سبيل المثال؛ مما تطلب حكومة أكبر وأقوى. وقد أفسح النظام الإقطاعي اللامركزي الطريق أمام ممالك مركزية تتمتَّع بقوة أكبر.

ومع ذلك لم تكن تلك دولًا قومية؛ فقد كانت الملكيات تُعرَّف بأسماء حُكَّامها، وكان الحكام يُعرَّفون بالاعتراف المتبادل أو على النقيض؛ بالحرب شبه المستمرة. ومع ذلك، اكتشف الملوك في أوروبا — مع نمو التجارة — أن باستطاعتهم زيادة نفوذهم من خلال الثروة أكثر مما يمكنهم من خلال الحرب.

في عام ١٦٤٨، أنهت صلح وستفاليا في أوروبا قرونًا من الحرب من خلال الإعلان عن سيادة الممالك والإمبراطوريات والكيانات السياسية القائمة، وأن أيًّا منها لن تتدخَّل في الشئون الداخلية للأخرى. وكانت هذه خطوةً باتِّجَاه الدول الحديثة. ومع ذلك، ظلت هذه الكيانات ذات السيادة غير مُعرَّفة بالهويات القومية لشعوبها. ويقال إن جذور القانون الدولي تعود إلى معاهدة وستفاليا، إلا أن كلمة «دولي» لم تُصَغ إلا بعد ١٣٢ عامًا من إبرام هذه المعاهدة.

كانت أوروبا في هذا الوقت قد بلغت نقطة انطلاق الثورة الصناعية، يقول باريام إن تسخير قَدْرٍ أكبر من الطاقة المستمَدَّة من الفحم كان يَعْنِي أن السلوكيات المعقدة التي كان يؤديها الأفراد — مثل النسيج — يمكن أن تتضخَّم؛ مما يُسْفِر عن أعمال جماعية أكثر تعقيدًا إلى حد كبير.

وقد يتطلَّب هذا حكومة من نوع مختلف. في عاميْ ١٧٧٦ و١٧٨٩، أدَّت الثورات التي اندلعت في الولايات المتحدة وفرنسا إلى قيام أولى الدول القومية؛ التي تُعرَّف بالهوية القومية لمواطنيها بدلًا من سلالات حكامهم، يقول بريويلي إنه وَفْقًا لإحدى الروايات التاريخية المهمة عن تلك الفترة: «في عام ١٨٠٠ لم يكن هناك أيُّ شخص في فرنسا يعتبر نفسه فرنسيًّا، وبحلول عام ١٩٠٠ كانوا جميعًا يعدون أنفسهم فرنسيين.» ولأسباب متعددة، كان للأشخاص في إنجلترا حسٌّ مبكر «بإنجليزيتهم» — حسبما يقول بريويلي — لكن هذا الحس لم يظهر في شكل أيديولوجية قومية.

وبمجيء عام ١٩١٨، بتفكُّك آخرِ الإمبراطوريات الأوروبية متعددة الجنسيات — مثل إمبراطورية آل هابسبورج في الحرب العالمية الأولى — أُعيد رَسْم الحدود الدولية الأوروبية من جديد وفقًا لعوامل ثقافية ولغوية إلى حد كبير. وفي أوروبا على الأقل، كانت الدولة القومية هي المبدأ الجديد.

يتمثَّل جزء من السبب وراء هذا الأمر في تعديل براجماتي لنطاق السيطرة السياسية اللازم لإدارة اقتصاد صناعي. وعلى خلاف الزراعة، تحتاج الصناعة إلى الصلب والفحم وموارد أخرى غير موزَّعة على نحو متَّسِق؛ ومن ثم لم تستطع كثير من الدول الصغرى البقاء. وفي الوقت نفسه، أصبحت الإمبراطوريات صعبة الانقياد في الوقت الذي كانت تتجه فيه إلى الصناعة، وهكذا كانت في حاجة إلى حكم فعلي حقيقي أكثر؛ ومن ثم اندمجت الدول الصغرى في أوروبا في القرن التاسع عشر، وانقسمت الإمبراطوريات.

ولم يكن مبرر قيام هذه الدول القومية الجديدة هو مجردَ كونها فعَّالة من الناحية الاقتصادية فقط، بل لأنها تحقِّق مصائر رعاياها أيضًا. ومع ذلك، خلص عدد من المؤرخين إلى أن الدول هي التي تُعرِّف أممَها، وليس العكس.

على سبيل المثال، لم تكن فرنسا تعبيرًا طبيعيًّا عن الأمة الفرنسية التي تواجدت من قبلها؛ فخلال الثورة التي اندلعت عام ١٧٨٩، لم يكن نصف سكانها يتحدَّثون اللغة الفرنسية. وفي عام ١٨٦٠، عندما اتحدت إيطاليا، فإن ٢٫٥ بالمائة فقط من سكانها كانوا يتحدَّثون اللغة الإيطالية الرسمية بانتظام، وكان قادتها يتحدثون الفرنسية بعضهم مع بعض. وقد ذكر أحدهم قولًا مشهورًا: إنه أمَا وقد أُقيمت إيطاليا، فعلينا أن نوجِد الإيطاليين؛ وهي عملية يشعر كثيرون أنها لا تزال جارية حتى اليوم.

يعتقد عالم الاجتماع سينيشا ماليشيفيتش — الأستاذ بكلية جامعة دبلن في أيرلندا — أن عملية «بناء الأمم» هذه كانت خطوة رئيسية في تطور الدول القومية الحديثة، وقد تطلَّبت خلق أيديولوجية قومية تساوي من الناحية العاطفية بين الأمة ومجموع الأشخاص ضمن دائرة الأسرة والأصدقاء التي تحدَّث عنها دونبار.

وقد اعتمد هذا بدوره اعتمادًا كبيرًا على التقنيات الإعلامية. وفي تحليل مهم، وصف بيندكت أندرسن — الأستاذ بجامعة كورنيل في نيويورك — الأممَ ﮐ «مجتمعات تخيلية»: بمعنى أنها تفوق دائرة معارفنا المباشرة إلى حد كبير، ولن نلتقي بكل أفرادها أبدًا، ومع ذلك فالناس مستعدون للتضحية بأرواحهم من أجل أمتهم كما يفعلون من أجل عائلاتهم.

وقد ظهرت مثل هذه المشاعر القومية — على حد زعم بيندكت — بعدما جعلت الكتب المطروحة في السوق العامة اللكناتِ العاميةَ لغةً رسمية وخلقت مجتمعات لغوية. وأتاحت الصحف للأشخاص معرفة الأحداث ذات الاهتمام المشترك؛ مما خلق مجتمعًا «أفقيًّا» ضخمًا كان مستحيلًا فيما سبق، وكذلك عزَّز التعليم الجماعي — عن قصد — من الهوية القومية بتمويل من الدولة.

يقول ماليشيفيتش إن العامل الأساسي المحرك لهذه العملية الأيديولوجية كان عاملًا هيكليًّا أساسيًّا؛ ألا وهو نمو البيروقراطيات واسعة التأثير واللازمة لإدارة المجتمعات الصناعية المعقدة. على سبيل المثال — حسبما يقول بريويلي — في ثمانينيات القرن التاسع عشر، أصبحت بروسيا أول حكومة تدفع تعويضات البطالة. في البداية، كانت هذه التعويضات تُدفع في القرية الأصلية للعامل؛ حيث لم يكن تحديد الهوية يمثِّل مشكلة. وحين هاجر الناس للعمل، باتت تعويضات البطالة متاحة في جميع أرجاء بروسيا. ويقول بريويلي: «فقط بدايةً من ذلك الوقت، بات ينبغي للحكومة تحديد هوية المواطن البروسي.» وللقيام بذلك كانت الدولة في حاجة إلى البيروقراطية. وتبع ذلك أوراق المواطنة، والتعداد السكاني، وحماية الحدود.

وكان ذلك يعني تضخم هياكل التحكم الهرمية مع زيادة عدد مستويات الإدارة الوسطى. ويدفع ماليشيفيتش بأن مثل هذه البيروقراطيات هي التي جمعت بين الناس في وحدات بحجم الأمم، لكن هذا الأمر لم يكن متعمدًا؛ وإنما نتج عن سلوك الأنظمة الهرمية المعقدة. يذكر باريام أنه مع ممارسة الناس لمزيد من أنواع الأنشطة المختلفة يصبح هيكل التحكم بمجتمعهم أكثر قوةً حتمًا.

في الدولة القومية الناشئة، يُترجَم هذا إلى زيادة البيروقراطيين لكل مواطن من السكان. وقد شجَّع التقيد بمثل هذه الرقابة البيروقراطية المُحكمة الأشخاصَ على الشعور بوجود أواصر شخصية تجمعهم بالدولة، خاصة مع تراجع علاقتهم بالكنيسة والقرية. ومع زيادة الحكومة من إحكام سيطرتها، حصل الأشخاص على مزيد من الحقوق في المقابل مثل حق التصويت، وللمرة الأولى شعر الأفراد بأنهم أصحاب الدولة.

أهي الحالة الطبيعية للأمور؟

يقول بريويلي إنه ما إن أقامت أوروبا نموذج الدولة القومية وازدهر، حتى أراد الجميع أن يحذو حذوها. وفي الواقع، يصعُب الآن تخيُّل وجود طريقة أخرى. لكن هل البنية التي نمت تلقائيًّا من رحم تعقيد الثورة الصناعية هي حقًّا الطريقة المثلى لإدارة شئوننا؟

وفقًا لما يذكر برايان سلاتري — الأستاذ بجامعة يورك، بتورونتو، كندا — لا تزال الدول القومية تزدهر بناءً على المعتقد الذائع الانتشار بأن «العالم يتكون بطبيعته من جماعات قومية أو قبلية متمايزة فيما بينها، متجانسة في داخلها، تشغَل أجزاءً منفصلة من الكرة الأرضية، وتستحق الولاء الأول لمعظم أفرادها.» إلا أن الأبحاث الأنثروبولوجية لم تُثْبِت صحة ذلك، على حد قول سلاتري. وحتى في المجتمعات القبلية، دائمًا ما كانت التعددية العرقية والحضارية واسعة الانتشار. إن التعددية اللغوية شائعة، والحضارات تتَّحِد بعضها مع بعض، والجماعات اللغوية والحضارية ليست متطابقة.

علاوة على ذلك، دائمًا ما يحمل الأشخاص إحساسًا بالانتماء إلى جماعات مختلفة متعددة بناءً على الإقليم والحضارة والخلفية المشتركة وأشياء أخرى، يقول سلاتري: «إن الزعم بأن هوية الشخص ورفاهته ترتبطان ارتباطًا محوريًّا برخاء الجماعة القومية خاطئ، وهذا الأمر حقيقة تاريخية واقعية بسيطة.»

ربما لا يكون من العجب إذن أن يفشل نموذج الدولة القومية في أحيان كثيرة؛ فمنذ عام ١٩٦٠، اندلعت أكثر من ١٨٠ حربًا أهلية على مستوى العالم.

وكثيرًا ما تُعزى مثل هذه الصراعات إلى التوترات العرقية والفتن الطائفية. والدول التي تنهار — مثل سوريا في الوقت الحالي — عادةً ما تكون ممزَّقة بمثل هذا النوع من العنف العرقي والطائفي. وبحسب فكرة أن الدولة القومية ينبغي أن تضمَّ أمة واحدة فقط، فكثيرًا ما يُلْقَى باللوم في حالات الإخفاق هذه على الإرث الاستعماري الذي جمع بين شعوب كثيرة داخل حدود غير طبيعية.

لكن في مقابل كل دولة مثل سوريا أو العراق ثمة دولة مثل سنغافورة أو ماليزيا أو تنزانيا، ينسجم أفراد شعبها على نحو جيد، على الرغم من أنهم يتشكَّلون من جماعات «قومية» متعددة. وفي ذات الوقت، ألفت الدول التي تضم أعدادًا كبيرة من المهاجرين مثل أستراليا والأمريكتين أُمَمًا متحدة من تنوُّع أولي ضخم.

فما الذي يصنع الفارق؟ يتَّضِح أنه في حين أن العرق واللغة أمران مهمان، فإن ما يهمُّ بحق هو البيروقراطية، ويتجلَّى هذا في المصائر المختلفة للدول المستقلة التي صَعِدَتْ مع انهيار الإمبراطوريات الأوروبية عبر البحار عقب الحرب العالمية الثانية.

وفقًا لميثولوجيا القومية، كل ما كانت تحتاج إليه هذه الدول هو أرض وعَلَم وحكومة وطنية، واعتراف من الأمم المتحدة. وفي الواقع، كانت تلك الدول في حاجة حقيقية إلى بيروقراطية معقَّدة.

بعض المستعمرات السابقة التي كان لديها بيروقراطية معقَّدة أصبحت ديمقراطيات مستقرة، ولا سيما الهند، وبعضها لم تصبح كذلك؛ منها مثلًا: جمهورية الكونغو الديمقراطية — على وجه الخصوص — التي كانت مستعمَرة بلجيكية، ولم يهتمَّ حكامها المستعمرون سوى باستخراج الموارد. كثير من هذه المستعمرات تحوَّل إلى ديكتاتوريات تتطلَّب نظامًا بيروقراطيًّا أبسطَ بكثير من الديمقراطيات.

وتُفاقِمُ الديكتاتوريات من الصراع العرقي؛ وذلك لأن مؤسساتها لا تدعم اتحاد هوية المواطنين مع الأمة. وفي مثل هذه المواقف، يتراجع الأفراد إلى التحالفات الجديرة بالثقة التي تقوم على صلة القرابة، والتي تُسْفِر في سهولة عن ولاءات تشبه «عدد دونبار». تفضِّل الحكومات غير المستقرة والمناصرة لجماعاتها العرقية جماعاتها الخاصة، في حين يتنامى الشعور بالاستياء بين الجماعات المنبوذة، والصراع الناتج عن ذلك يُمكِن أن يكون عنيفًا.

وتؤكِّد الأبحاث الحديثة أن المشكلة لا تتمثَّل في التنوُّع العرقي نفسه، وإنما في عدم وجود قدر كافٍ من الشمولية الرسمية. وعلى البلاد التي تتَّسِم بضحالة تنوعها العرقي التاريخي الآن أن تعلم ذلك بسرعة، في الوقت الذي يهاجر فيه الناس للعثور على وظائف في ظل اقتصاد العولمة.

قد تتوقَّف كيفية نجاح هذا الأمر على ما إذا كان الأفراد سينعزلون على أنفسهم أم لا؛ فالبشر يُفَضِّلُون العيش بالقرب من أشخاص يُشبِهونهم، ومن الممكن أن تكون نتيجة ذلك مناطق عرقية منعزلة. استخدمت جنيفر نيل — الأستاذ المساعد بجامعة ولاية ميشيجان في مدينة إيست لانسنج — النماذج القائمة على العملاء لدراسة تأثير الانعزال في الأحياء الواقعة في المدن. ويُرَجِّح عملها أن هذه المناطق المنعزلة تعزِّز التماسك الاجتماعي، لكنَّ ذلك يأتي على حساب التسامح بين الجماعات. وقد تكون المناطق المنعزلة الصغيرة المتجاورة هي الحل.

ولكن على أيِّ نطاق؟ يقول باريام إنه في المجتمعات التي يمتزج أهلها في تناغم — مثلما هو الحال في سنغافورة المسالمة حيث تُحظَر المناطق المنعزلة على نحو فعَّال — لا توجد صراعات عرقية. كذلك قد تعزز المناطق المنعزلة الأكبر حجمًا من الاستقرار؛ فباستخدام النماذج الرياضية للربط بين حجم المناطق المنعزلة وحوادث الصراعات العرقية في الهند وسويسرا ويوغوسلافيا السابقة، وجد باريام أن المناطق المنعزلة التي يبلغ اتساعها ٥٦ كيلومترًا أو أكثر توفِّر مناخًا من التعايش السلمي؛ خاصةً إذا كانت تنفصل عن بعضها بحدود جغرافية طبيعية.

على سبيل المثال، كانتونات سويسرا الستة والعشرون، والتي تتحدَّث بلغات مختلفة وتعتنق ديانات مختلفة، تستوفي اختبار الاستقرار المكاني لباريام، باستثناء كانتون واحد؛ فقد شهدت منطقة معزولة يتحدَّث سُكَّانها باللغة الفرنسية داخل برن الناطقة بالألمانية الاضطراب الكبير الوحيد في التاريخ السويسري الحديث. وقد حُلَّ ذلك الوضع المضطرب بانفصال هذه المنطقة لتصبح كانتونًا مستقلًّا — وهو كانتون جورا — يستوفي المعايير.

ومرة أخرى، رغم ذلك، لا يشكِّل العرق واللغة سوى جزء من المسألة. يزعم لارس إريك سيدرمان — من المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيورخ — بأن كانتونات سويسرا قد حقَّقت السلام ليس من خلال التعديل الجغرافي للحدود، وإنما من خلال الإجراءات السياسية التي تمنح الكانتونات استقلالًا كبيرًا ودورًا في اتخاذ القرارات الجماعية.

بالمثل، باستخدام قاعدة بيانات مجمعة حديثًا لتحليل الحروب الأهلية منذ عام ١٩٦٠، وجد سيدرمان أن احتمالات وقوع الصراعات تزداد في الواقع في البلاد التي تتَّسِم بتنوُّع عرقي أكبر. لكن التحليل الدقيق يُثبِت أن الاضطرابات لا تنشأ بسبب التنوع وحده، وإنما باستبعاد جماعات بعينها من السلطة على نحو ممنهج.

كانت الحكومات ذات الممارسات السياسية القائمة على العرقية بالغة الضعف. وقد شكَّلت الولايات المتحدة حكومة من مثل هذا النوع تمامًا في العراق بعد غزوها عام ٢٠٠٣؛ حيث أدَّى إقصاء الشيعة للسُّنَّة إلى قيام متمردين بإعلان قيام دولة سُنِّيَّة على أرض محتلة في العراق والشام. ووفقًا لميثولوجيا الدولة القومية، ترفض هذه الدولة الحدود الاستعمارية للعراق والشام؛ نظرًا لأنها تُكرِه «أممًا» متنافرة على العيش معًا.

التطهير العرقي

ومع ذلك، لا يمكن أن يكون الحل هو فرض التماثل العرقي. على مدار التاريخ، كان ما يُسَمَّى بالتطهير العرقي أمرًا دمويًّا على نحو متفرِّد، والتجانس «القومي» ليس ضمانًا للتناغم. وعلى أية حال، لا يوجد تعريف جيد للجماعة العرقية؛ فالانتماءات العرقية لكثير من الأفراد مختلطة، وتتغير بتغير المناخ السياسي؛ فالأعداد التي ادَّعت أنها ألمانية في إقليم سوديت التشيكي الذي ضمه هتلر تغيَّرت على نحو جوهري قبل الحرب وبعدها. وربما تكون المطالبات الروسية للمناطق الناطقة باللغة الروسية شرقيَّ أوكرانيا الآن واهية بالمثل.

يُشِير بحث كل من باريام وسيدرمان إلى وجود حل واحد للتنوع في الدول القومية؛ ألا وهو نقل السلطة إلى المجتمعات المحلية كما فعلت دول متعددة الثقافات مثل بلجيكا وكندا.

يقول سلاتري: «إننا في حاجة إلى وجود مفهوم عن الدولة كمكان قد تكون فيه الانتماءات واللغات والأديان المتعددة في أمان وتحقِّق ازدهارًا. وهذا هو المفهوم الذي تبنته دولة تنزانيا، ويبدو أنه مفهوم ناجح إلى حد معقول.» تضم تنزانيا أكثر من ١٢٠ جماعة عرقية وحوالي ١٠٠ لغة.

وفي النهاية، الشيء الذي يمكن أن يكون أكثر أهمية من العرق واللغة والدين هو حجم الاقتصاد. وربما يكون الحجم اللازم لازدهار الاقتصاد قد تغيَّر مع ظهور التكنولوجيا؛ فدولة إستونيا الصغيرة متفوقة في التكنولوجيا العالية، لكن دولة بهذا الصغر ربما لا تكون قد شكَّلت بعدُ قوة اقتصادية كافية للتنافس.

وهذا هو السبب وراء كون إستونيا عضوًا متحمسًا في الاتحاد الأوروبي على هذا النحو؛ فبعد الحروب المدمِّرة في القرن العشرين، حاولت البلدان الأوروبية الحيلولة دون اندلاع مزيد من الحروب من خلال دمج صناعاتها الأساسية معًا. وذلك المشروع — الذي أصبح فيما بعدُ الاتحاد الأوروبي — يقدِّم الآن لدوله الأعضاء على نحو أساسي وفورات حجم مربحة عبر التصنيع والبيع في أكبر سوق متحدة على مستوى العالم.

وما يُخْفِق الاتحاد الأوروبي في خلقه هو ولاء على الطراز القومي؛ الذي يعتقد ماليشيفيتش أنه يعتمد هذه الأيام على الوطنية «المبتَذَلة»، التي تتجلَّى في الرياضة والأناشيد الوطنية والبرامج الإخبارية التليفزيونية، بل وفي المسابقات الغنائية. وهذا يَعنِي أن ولاءات الأوروبيين لم تعد متفقة مع الوحدة السياسية التي تتولَّى إدارة جزء كبير من حكومتهم.

يقول جان زيلونكا — الأستاذ بجامعة أكسفورد — إنه من المفارقة أن الاتحاد الأوروبي قد أنقذ دول أوروبا القومية، التي باتت الآن أصغر من أن تنافس بمفردها. ويزعم زيلونكا أن مطالبة الأحزاب القومية ﺑ «استعادة السلطة من بروكسل» من شأنه أن يؤدِّي إلى بلاد أضعف وليست أقوى.

لكنه يرى مشكلة من نوع مختلف؛ لقد نشأت الدول القومية من الهياكل الهرمية المعقدة للثورة الصناعية. ويُضِيف الاتحاد الأوروبي طبقةً أخرى إلى الهيكل الهرمي ولكن من دون القدر الكافي من التكامل الذي يأتي كأساس لممارسة السلطة القاطعة. تفتقر هذه الطبقة الجديدة إلى شرطين أساسيين من شروط ماليشيفيتش؛ وهما: أيديولوجية قومية وبيروقراطية متكاملة واسعة الانتشار.

ورغم ذلك، ربما يوضِّح الاتحاد الأوروبي معالم الصورة التي سيبدو عليها العالم فيما بعد الدولة القومية.

يتَّفِق زيلونكا مع ضرورة وجود مزيد من التكامل بين الأنظمة الأوروبية الحاكمة مع ازدياد اعتماد النظم الاقتصادية بعضها على بعض، لكنه يقول إن الهرمية الأوروبية المشلولة — في أغلب الأحيان — عاجزة عن تحقيق ذلك. وبدلًا منها، يرى زيلونكا استبدال الهرمية بشبكات من المدن والمناطق، بل والمؤسسات غير الحكومية. هل يبدو ذلك مألوفًا؟ يطلِق المؤيدون لهذه الفكرة عليها: العصور الوسطى الحديثة.

يقول زيلونكا: «إن البنية المستقبلية وممارسة السلطة السياسية سيكونان أشبه بنموذج العصور الوسطى عن نموذج وستفاليا. هذا الأخير يدور حول تركز السلطة والسيادة والهوية الواضحة.» أما نموذج العصور الوسطى الحديثة — على الجانب الآخر — فيَعنِي سلطات متداخلة، وسيادة مقسمة، وهوياتٍ متعددة، ومؤسساتٍ حاكمةً، وحدودًا غير محددة.

كذلك ترى آن ماري سلوتر — أستاذة العلوم السياسية بجامعة برينستون، ومساعد وزير خارجية الولايات المتحدة سابقًا — أن الهياكل الهرمية تُفسِح الطريق لشبكات عالمية تتكوَّن في الأساس من خبراء الدول القومية وبيروقراطييها. على سبيل المثال، تعمل الحكومات الآن عبر شبكات مرنة مثل مجموعة الدول الصناعية السبع (أو الثماني أو العشرين) لإدارة المشكلات العالمية بدرجة أكبر من عملها من خلال الهيكل الهرمي للأمم المتحدة.

من وجهة نظر إيان جولدن — مدير كلية أكسفورد مارتن بجامعة أكسفورد، التي تحلل مشكلات عالمية — فإن مثل هذه الشبكات ينبغي أن تَظهَر. ويعتقد أن المؤسسات القائمة — مثل وكالات الأمم المتحدة والبنك الدولي — عاجزة من الناحية البنيوية عن التعامل مع المشكلات التي تنشأ من العلاقات العالمية المتبادلة؛ مثل: عدم الاستقرار الاقتصادي، والأوبئة، والتغير المناخي، والأمن الإلكتروني، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أن هذه المؤسسات هي هياكل هرمية من الدول الأعضاء التي تعجز هي نفسها عن التعامل مع هذه المشكلات العالمية، ويستشهد جولدن بقول سلوتر: «إن المشكلات الشبكية تتطلب استجابة شبكية.»

ومرةً أخرى، السلوك الأساسي للأنظمة وحدود العقل البشري يفسِّران لنا السبب. يشير باريام إلى أنه في أي هيكل هرمي يجب أن يكون الشخص الموجود على رأس هذا الهيكل قادرًا على فهم النظام بأكمله. وحينما تكون الأنظمة أكثر تعقيدًا من أن يفهمها عقل بشري واحد، يزعم باريام أن هذا النظام عليه أن يتطوَّر من هيكل هرمي إلى شبكات؛ حيث لا تقتصر المسئولية على شخص واحد.

فأين يؤدي ذلك بالدول القومية؟ يقول بريويلي: «إنها تظل الحاوياتِ الرئيسيةَ للقوة في العالم.» ونحن في حاجة إلى قوتها للحفاظ على الأمن الشخصي الذي جعل العنف البشري يصل إلى أقلِّ مستوًى له عبر الزمان.

علاوة على ذلك، يقول داني رودريك — الأستاذ بمعهد الدراسات المتقدمة ببرينستون — إن اقتصاد العولمة الذي يسمح في حد ذاته بنشأة هذه الشبكات يحتاج إلى كيان أو شخص يضع القواعد ويطبِّقها. والدول القومية حاليًّا هي الكيانات الوحيدة التي تتمتَّع بالقوة الكافية للقيام بذلك.

إلا أن أوجه قصورها واضحة، سواء في حل المشكلات العالمية أو تسوية الصراعات المحلية. قد يتمثَّل أحد الحلول في إيلاء المزيد من الاهتمام إلى المستوى الذي تعمل عليه الحكومة. ويتمثَّل مبدأ الاتحاد الأوروبي الأساسي، الذي يُعرف بتفويض السلطة، في فكرة أن الحكومة ينبغي أن تعمل على المستوى الذي تكون عنده في أقصى فاعلية لها، بحيث تكون الحكومة المحلية معنيَّة بالمشكلات المحلية، فيما تعمل السلطات العليا على مستويات أعلى. وثمة أدلة مبنية على تجارِب عملية على نجاح هذا المبدأ؛ إذ من الممكن أن تُدار الأنظمة الاجتماعية والبيئية على نحو أفضل عندما يُنَظِّم مستخدموها أنفسهم بأنفسهم عنه عندما يُدِيرُها قادة من خارجها.

ومع ذلك، يصعب رؤية الكيفية التي يستطيع نظامنا السياسي أن يتطور بها على نحو متماسك في ذلك الاتجاه؛ إذ إنه من الممكن أن تعترض الدول القومية سبيلَ كلٍّ من نقل السلطة أو تفويضها للإدارة المحلية وإنشاء شبكات لتحقيق الأهداف العالمية. ومع تغير المناخ، يمكن أن ندفع بأن الدول القومية قد قامت بذلك بالفعل.

ثمة بديل عن التطور باتجاه عالم العولمة ذي الشبكات المتداخلة — سواء كان على طراز العصور الوسطى الحديثة أم لا — وهو الانهيار، يقول البروفيسور مارتن شيفر — الأستاذ بجامعة فاخينيجن في هولندا: «إن معظم الأنظمة الهرمية تَمِيل — على الأرجح — إلى أن تُصبِح مُثقَلَة بالمهام عند المستوى الأعلى، ومرتفعة التكاليف، وعاجزة عن الاستجابة للتغيير. وقد يظهر التوتُّر الناتج عن ذلك في صورة انهيار جزئي.» وبالنسبة للدول القومية، قد يعني هذا أي شيء بدءًا من تجدد تفوق المدن وحتى الفوضوية على النمط العراقي. وعلى الرغم من أن هذا الاحتمال غير مؤكد، فإن له جانبًا مشرقًا؛ يقول بعضهم إن الانهيار هو الدمار الخلَّاق الذي يتيح ظهور كيانات جديدة.

شئت أم أبيت، قد تكون مجتمعاتنا الآن في طور هذه المرحلة الانتقالية بالفعل، وليس بإمكاننا بعدُ أن نتخيَّل عدم وجود بلدان، ولكنَّ إدراك أن هذه البلدان كانت حلولًا مؤقتة لمواقف تاريخية معينة يمكنه فقط أن يساعدنا على التعامل مع الانتقال إلى أية مرحلة نحتاج إليها فيما بعدُ. وسواء أكانت بلداننا تحتمل أم لا، فإن الهياكل التي ندير شئوننا من خلالها تنتظر تغييرًا؛ لذا فقد حان الوقت لنبدأ التخيُّل.

02 Dec, 2015 10:24:15 AM
0

لمشاركة الخبر