Skip to main content

الليل: عندما يحل الظلام يزداد الخوف

لماذا نستمتع بإثارة مشاعر الخوف بداخلنا؟ إجابة هذا السؤال أقدم مما قد تظن.

٢٦ ديسمبر ١٩٧٣. حشود كبيرة في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية تتحدَّى أجواء الشتاء البارد المظلم لتصطفَّ أمام صالات السينما، وكثيرون تمنوا لو لم يفعلوا ذلك.

فيلم «البريق» أحد أكثر الأفلام رعبًا على الإطلاق.

فيلم «البريق» أحد أكثر الأفلام رعبًا على الإطلاق.

قالت امرأة بعدما تركت الفيلم في منتصفه: «لن أعود مجددًا إلى صالة العرض.» وقالت أخرى: «كان عليَّ أن أغادر القاعة، لقد فاق الأمر قدرتي على الاحتمال.» بعض الناس أفرغوا ما في معدتهم، وآخرون غابوا عن الوعي، فبدأت صالات العرض تخزِّن النشادر وأكياس التقيؤ. يقول روبرت هوناهان كبير مديري صالة العرض السينمائي في بيركلي بكاليفورنيا: «لم أرَ شيئًا كهذا طيلة ٢٤ عامًا قَضَيْتُها في العمل بصالات العرض السينمائي.»

كان مبعث ذلك الرعب فيلم «طارد الأرواح الشريرة»، وهو فيلم يدور حول فتاة عمرها ١٢ عامًا تسكن جسدها روح شريرة. قد تظن أنَّ القصص المرعبة التي رُوِيَتْ عن الفيلم ستنفِّر الناس منه، ولكن كل ما نجحت فيه كان إذكاء النار. أثار الفيلم ضجة كبيرة، محقِّقًا إيرادات بلغت ٦٦ مليون دولار في العام الأول من عرضه. وإذا ما أخذنا التضخم بعين الاعتبار؛ فسنجد أنَّ إيرادات ذلك الفيلم كانت من أعلى إيرادات الأفلام على الإطلاق.

أيُّ شخص شاهد فيلم «طارد الأرواح الشريرة» — أو فيلم «الحلقة» أو «مشروع ساحرة بلير» أو «كابوس في شارع إلم» أو غيرها من آلاف الأفلام المشابهة — يمكنه أن يدرك شعور الجماهير في عام ١٩٧٣. أن نحتار بين المشاهدة وعدم المشاهدة، نَسترِق النظر من بين أصابعنا، مترقِّبين موجة الخوف المقبلة المثيرة للغثيان، ونحن نعلم أنَّ الوضع سيزداد سوءًا لا محالة. وعندما ينتهي الأمر، نتنهَّد بارتياح ونضحك متسائلين عن سبب إقدامنا على تلك الفعلة.

فلماذا نفعل ذلك إذن؟ بالنسبة إلى ماتياس كلازِن من جامعة أورهوس في الدنمارك يمثِّل هذا السؤال العمل الذي كرَّس حياته من أجله. فيقول: «لدينا انبهار متناقض غريب بالأشياء المفزعة، وقد كرَّستُ حياتي المهنية كلها لفهم سببه.»

عندما كان كلازن في الرابعة عشرة من عمره أقنعه أصدقاؤه بمشاهدة فيلم لستيفن كينج، هو «السائرون نيامًا»، ولا تزال تبعات قراره تُلازِمه. فيقول: «كان مريعًا، واضطررت إلى المغادرة.» فأُرِيقَ ماء وجهه واضطر إلى إثبات نفسه؛ لذا قرأ رواية «الصمود» ورواية «البريق» وبضع روايات أخرى لستيفن كينج، وتعلَّم تدريجيًّا أنْ يستمتع بشعور الخوف.

إنَّ انبهارنا بقصص الرعب قديم قِدَم ولعنا بسرد القصص على الأرجح؛ أي قِدَم الطبيعة البشرية نفسها. فتتضمن ملحمة جلجامش — أحد أقدم الأعمال الأدبية الباقية حتى يومنا هذا — وحشًا يُدعَى خمبابا خلقَتْه الآلهة ليكون «رعبًا للبشر». والشيطان الذي ورد في قصة طارد الأرواح الشريرة مخلوق بابلي أيضًا، يُدعَى بازوزو.

ومنذ زمن بعيد، قبل وجود خمبابا وبازوزو من أجل إخافة البشر القدامى، ليس ثمة شك في أنَّ الناس كانوا يلتفُّون حول نيران المخيَّمات للاستماع إلى قصص الشياطين والوحوش، جائلين ببصرهم بتوتر في الظلام.

وحتى يومنا هذا لا يزال الظلام هو وقت إسدال الستائر وإطفاء الأضواء وإخافة أنفسنا بملء إرادتنا. ويصدر نحو مائة فيلم رعب وإثارة وتشويق كل سنة، محققين إجمالًا إيرادات تَفُوق المليارَيْ دولار.

خوفٌ أزلي

لماذا يُقبِل ملايين الأشخاص على إنفاق المال ليخيفوا أنفسهم؟ في الأوساط العلمية، عادةً ما تُفسَّر جاذبية الرعب من منطلق فرويدي؛ باعتبارها تعبيرًا رمزيًّا عن الرغبات والمخاوف المكبوتة. أما كلازن فيرى أنَّ هذا محض هراء، ويقول: «إذا أردنا أن نفهم ذلك، فعلينا أن نأخذ في حسباننا البرمجة البيولوجية؛ أي السمات المتطورة للتكوين المعرفي البشري.» معنى ذلك أنَّه علينا أنْ ننقِّب في أغوار الماضي السحيق.

عاش أسلافنا الأوائل في بيئة محفوفة بالمخاطر. ففي زمننا هذا تجوب غابات السافانا في شرق أفريقيا ستة أنواع من الثدييات كبيرة الحجم آكلة اللحوم. ومنذ نحو ٢٫٥ مليون سنة كان هذا الرقم أقرب إلى ١٨، منها: السنوريات ذات الأسنان السيفية، والضباع العملاقة.

فلا شكَّ أنَّ أجدادنا كانوا على قائمة طعام تلك الكائنات، أو أنهم في كثير من الحالات كانوا يُقتَلون شرَّ قتلة في جوف الليل. في عام ١٩٧٠، اكتُشِفَت جمجمة عمرها ٣٫٥ مليون سنة لطفل من جنس أوسترالوبيثيكوس (من أشباه البشر) في كهف سوارتكرانس بجنوب أفريقيا، وكان فيها جرحان وخزيان دائريان يناسبان عضة النمر المرقَّط. واكتُشِفت أيضًا حفريات لعظام بشرية متحجِّرة عليها علامات أسنان ومخالب لكائنات ليلية أو غسقية أخرى؛ مثل: الأُسود، والضِّباع، والتماسيح، بل ونسر في إحدى الحالات.

لا نعلم عددَ مَنْ هاجمَتْهم الحيواناتُ المفترسة أو قتلَتْهم من أسلافنا، ولكننا نعلم أن القبائل الحديثة التي تعيش على الصيد وجمع الثمار لا تزال تعاني مستويات مرتفعة من الافتراس. فمن بين الذكور البالغين بقبيلة آتشي — التي تعيش في أدغال باراجواي — قرابة ١ من كل ١٠ تقتله اليغور عادةً أثناء الليل.

قصة الرعب التطورية الطويلة تلك خلَّفَتْ آثارًا عميقة في الإدراك المعرفي للبشر. فقد حَبَانا التطورُ جهازًا لاكتشاف الأخطار شديد الحساسية للأخطار المميتة التي واجهها أسلافنا؛ من ثعابين وعناكب ولا سيما الحيوانات المفترسة آكلات اللحوم الضخمة. فما إنْ يُقدَح زناد ذلك الجهاز، حتى يُطلق سلسلة من الاستجابات الفسيولوجية والانفعالية التي تُعِدُّ الجسم للهروب أو القتال، فتتسع حدقتا العينين ويخفق القلب بقوة ويندفع الدم إلى العضلات وترتفع مستويات السكر في الدم، تظهر تلك الاستجابة في صورة شعور بالخوف.

هذا الجهاز مُعَدٌّ للاستجابة عند أدنى تحفيز؛ إذ إنَّ التكلفة التطورية للإنذار الكاذب أقل بكثير من تكلفة الإخفاق في الاستجابة. ومن ثَم تدفع أدنى إشارة لأي شيء يشبه الخطر الجهازَ إلى الحركة — حتى لدى سكان المدن في العصر الحديث — كخرطوم مياه بين الحشائش أو حشرة أم أربعة وأربعين في المغطس، أو صوت حفيف النباتات تحت جنح الظلام، أو الوحوش الخيالية بالتأكيد. يقول كلازين: «تعيدنا القصص المرعبة إلى الزمن الماضي عندما كانت الشمس الغاربة إشارةً إلى الخطر. وقد تكون الوحوش الحقيقية آخذة في التجمُّع خارج دائرة الضوء الذي يلقي به لهبُ النيران.»

يجمح خيالنا متجاوزًا الوحوش الحقيقية ليشمل الجثث المتحركة والأشباح وغيرهما من الكائنات الخارقة للطبيعة. ولكن الخوف الكامن الذي تثيره تلك الأشياء هو نفس الخوف: الرعب المميت من الافتراس. فأيًّا كان ذلك الكائن، فهو يراقبنا من وراء ظلال خفية، كائن غامض ينتظر لحظة الهجوم حسب جدول لا نعيه، ولن نعرف ما أصابنا إلا بعد فوات الأوان.

ما لا يفسره كل ذلك هو سبب استمتاع الناس بالرعب، أو على الأقل احتمالهم له. فيقول كلازن: «هذا هو السؤال.»

إحدى الأفكار التي طُرِحت في ثمانينيات القرن العشرين مفادها أنَّ أفلام الرعب توفِّر غطاءً للمراهقين الشهوانيين؛ حتى يدنو أحدهما من الآخر مستترَيْن بالظلام، إلا أن ذلك التفسير لا يمكن أن يكون جلَّ ما في الأمر.

أحد أفضل المؤشرات إلى إجابة أصوب يأتي من حالة سيدة تُعرَف باسم إس إم، اشتهرت بعدم قدرتها على الشعور بالخوف؛ نظرًا لتلف في دماغها (مجلة نيو ساينتيست، ٩ مارس، صفحة ٣٦). فمنذ عامين، عرض لها الباحثون المعنيون بحالتها مقاطع من سلسلة أفلام رعب، لكنها لم يَبْدُ عليها الخوف، بل وجدت المقاطع شيِّقة ومُسلِّية.

يشير ذلك إلى أنَّ أفلام الرعب ليست مخيفة فحسب؛ فوراء الخوف تكمن مشاعر أخرى مُجزِية أكثر. ويقول كلازن إنَّ ذاك تفسير منطقي من المنظور التطوُّري أيضًا. فعلى الرغم من أنَّ البشر جميعًا لديهم جهاز لاكتشاف الأخطار يعمل بصورة عامة مع أي خطر، فلا بد أنَّ أسلافنا وجب عليهم أن يتعلَّموا أي الأشياء تحديدًا يخشونها في بيئتهم. والميراث الذي خلَّفه ذلك هو أنَّ سكان المدن يسهل عليهم اكتساب رهاب الكلاب والعناكب والثعابين أكثر من الأخطار الحقيقية مثل حركة المرور والدهون المشبعة. والأشخاص الذين وجدوا عملية التعلم تلك مجزية تزداد فرصهم في البقاء وتمرير جيناتهم إلى الأجيال التالية. نتيجة لذلك تطوَّر لدينا أيضًا ميل شاذ للاستمتاع بخوفنا الفطري من الوحوش المفترسة، لا سيما في البيئات التي نعلم أنها آمنة. يقول كلازن: «تلك هي قوة الجذب، إنها الطبيعة البشرية.»

وقد تناول ستيفن كينج — ملك الرعب — هذه المسألة منذ أمد بعيد في روايته «رقصة الموت»، التي تُعتبَر تحليلًا لأدب الرعب. بل إنه حاول تقديم تفسير له، فقال: «إننا نختلق أهوالًا مرعبة؛ حتى تساعدنا على التعامل مع الأهوال الحقيقية.»

 

06 Dec, 2015 10:53:23 AM
0

لمشاركة الخبر