Skip to main content

الحقيقة الخفية للأفكار

ما هي الأفكار؟ وما هو التفكير بالضبط؟ فلنقم بجولة في العالم المذهل اللانهائي الذي تبتدعه عقولنا.

 

حاول — إن استطعت — أن تتخيل الحياة دون فكر؛ بالنسبة إلى البشر ستكون حياة بلا حياة. فالأفكار تملأ كل لحظات يقظتنا، وسواء أكانت استبصارية أم عادية أم مرحة أم غريبة، فلا مجال لإنكار حقيقة أن التفكير أمر فطري لدينا. فيمكننا أن نقول إن الفكر بالنسبة إلى البشر يضاهي الطيران بالنسبة إلى النسور، والسباحة بالنسبة إلى الدلافين.

ولكن التفكير شيء، وفهم طبيعة الفكر شيء آخر تمامًا. فكما تطير النسور دون أي فهم للديناميكا الهوائية وتسبح الدلافين دون فهم لميكانيكا الموائع، يفكر معظمنا دون معرفة أي شيء عن طبيعة التفكير. وقد يكون التفكير أمرًا عاديًّا، ولكن يندر بعض الشيء أن نفكر في الفكر في حد ذاته.

فما هو الفكر؟ ذاك سؤال تُمثِّل الإجابة عنه صعوبة مدهشة. فقد تَطرَّق إليه علمُ الأعصاب وعلم النفس والفلسفة وغيرها من المجالات من منظوراتها المتنوعة، إلا أن الفكر لم يتلقَّ اهتمامًا مستدامًا بالقدر الذي يستحقه.

قد يُعزَى ذلك جزئيًّا إلى أن الفكر ظاهرة متنوعة ومعقدة للغاية. فثمة قدر هائل من الأشياء التي يمكننا أن نفكر فيها: جماد، أشخاص، أماكن، علاقات، مفاهيم مجردة، الماضي، الحاضر، المستقبل، أشياء حقيقية، أشياء خيالية. وقد لا نفكر في شيء مطلقًا، بل وقد نفكر في الفكر نفسه.

وممارسة الفكر أمر مراوغ بدوره، وإن كان ثمة بعض الأمور التي يمكننا قولها عنه. فنحن نستخدم الفكر في حل المشاكل واختراع الأشياء، ولكن ما مدى تحكمنا في تلك العملية؟ وهل ثمة حدود لما يمكن أن نفكر فيه؟

حتى نتمكن من إحراز بعض التقدم فيما يتعلق بالإجابة عن تلك التساؤلات، علينا أولًا أن نحدد بعض الأمور؛ فلفظ «الفكر» يمكن أن يشير إلى ثلاثة ملامح من الحياة العقلية، مختلفة إلى حد كبير.

فوفقًا لأحد المعاني، يشير الفكر إلى حدث عقلي من نوعٍ ما. فالتفكير في شيء يعني استحضاره في الذهن على نحو ما. ووفقًا لمعنى آخر يشير إلى نوع من المَلَكات العقلية؛ فكما توجد مَلَكات ذات صلة بالإدراك الحسي واللغة، ثمة مَلَكة عقلية أيضًا — أو ربما مَلَكات — ذات صلة بالقدرة على التفكير. ووفقًا لمعنى ثالث يشير الفكر إلى ضرب محدد من ضروب النشاط العقلي. فكما قد تنشغل بنشاط البحث عن شيء أو الاستماع إلى شيء، يمكنك كذلك أن تنشغل بنشاط التفكير في شيء.

دعونا أولًا نتناول الفكر باعتباره حدثًا عقليًّا. فما هي الأفكار؟ وما الذي يميزها عن الأنواع الأخرى من الأحداث العقلية، مثل الخبرات الإدراكية والأحاسيس الجسدية؟

فلنفترض أنك أوقدت نارًا في الخلاء. سيمكنك رؤية ألسنة اللهب والشعور بالحرارة. تلك أحداث إدراكية حسية بحتة. وقد تجد نفسك تتساءل أيضًا عما يمكن أن يحدث إن غيَّرتِ الريحُ اتجاهَها، أو تتساءل عن كيفية حدوث عملية الاشتعال. تلك الأحداث استحثتها التجربة الحسية الإدراكية التي تعرَّضت لها، ولكنها ليست أشكالًا من الإدراك الحسي في حد ذاتها، وإنما هي أفكار.

أكثر من مجرد شعور

على الرغم من بديهية الفارق المميز بين الإدراك الحسي والفكر، فإنه لم يتمكن أحد من توصيفه بشكل قاطع. تتمثل أحد الطرق في قول إن الأفكار تتضمن إعمال المفاهيم، على عكس الحالات الحسية. فيجوز أن نرى نارًا موقدة في الخلاء دون معرفة المفهوم المعبِّر عنها، ولكن من المستحيل أن نفكر فيها دونه، إلا أن ذلك رأي مختلَف عليه. فبادئ ذي بدء، يرى بعض المنظِّرين أن المفاهيم ضالعة في الفكر والإدراك الحسي على حد سواء. وقد اتَّضح أنه من العسير تحديد ماهية المفاهيم بدقة.

وتتمثل طريقة أخرى للتمييز بين الفكر والإدراك الحسي في سمة الوعي؛ ﻓ «طبيعة» التفكير في نار موقدة في الخلاء تختلف كثيرًا عن طبيعة إدراك تلك النار حسيًّا. ولكننا نواجه بعض الصعوبات هنا أيضًا. فعلى الرغم من اتفاق الجميع على أن التفكير في النار يختلف من وجهة النظر الذاتية عن إدراكها بالحواس، فمن الصعوبة بمكان أن نقف على سبب ذلك الاختلاف.

تزداد المسألة تعقيدًا بحقيقة أن الأفكار كثيرًا ما تكون غير واعية. فكِّر في محاولتك حل مشكلة؛ فيتبادر أمر إلى ذهنك ببساطة، أو تخلد إلى النوم وتجدها قد حُلَّت بصورة معجزة في الصباح؛ لذا لا يمكنك الاعتماد على السمة الواعية للأفكار وحدها لتمييزها عن غيرها من الأحداث العقلية.

ماذا عن الفكر باعتباره مَلَكة عقلية؟ إن نقطة بداية مفيدة هنا هي وصف رينيه ديكارت للفكر بأنه: «أداة كلية يمكن استخدامها في جميع أنواع المواقف.» ماذا قصد بذلك؟

فكر مجددًا في الفرق بين الإدراك الحسي والتفكير. فحتى تدرك تفاحة — على سبيل المثال — إدراكًا حسيًّا، لا بد من وجود علاقة سببية بينك وبينها. فلا بد أن ينعكس الضوء من عليها ويعالجه جهازك البصري. ولا يلزم وجود مثل تلك العلاقة للتفكير في تفاحة. فيمكنك أن تفكر فيها وقتما تشاء، سواء كانت موجودة أم لا. وهذا ما يتيح استخدام مَلَكة الفكر «في جميع أنواع المواقف».

السمة الأخرى للفكر التي يوجِّهنا ديكارت إليها هي نطاق الفكر. فالإدراك الحسي لا يتيح لنا الوصول سوى إلى مجموعة محدودة من الأشياء. فالبصر يمكن أن يخبرنا أن التفاحة حمراء أو أنها تسقط، ولكن فقط المخلوق الذي يتمتع بالقدرة على التفكير يمكنه إدراك حقيقة أن أصل التفاح يعود إلى غرب آسيا أو أنه يحمل جينات أكثر من الجينات التي يحملها البشر. ويمكننا أن نفكر في أشياء بعيدة عنا جدًّا مكانًا وزمانًا، وفي أشياء ملموسة وأشياء مجردة، وفي الماضي والمستقبل، وفي أشياء موجودة وأشياء غير موجودة. قد لا يكون نطاق الفكر البشري مطلق الحدود (وسنتحدث عن ذلك أكثر فيما يلي)، ولكن لا شك في أنه يتجاوز نطاق الإدراك الحسي إلى حد كبير.

السمة الأخيرة لملَكَة الفكر هي أنها ذات طبيعة إدماجية؛ فهي تمكننا من الربط بين حالة وأخرى ومن استيعاب الصلات القائمة بينهما.

دعونا نتناول حادثة شهيرة في تاريخ الطب. فأثناء عمل الطبيب إجناتس سِمِّلفايس في مستشفى بفيينا في أربعينيات القرن التاسع عشر، لاحظ أن حالات الإصابة بحمَّى النفاس في أحد جناحي الولادة أكثر بكثير منها في الآخر. ولاحظ أيضًا أن العاملين في ذلك الجناح كانوا طلبة في كلية الطب يجرون عمليات تشريح. أدى ذلك إلى تساؤله عما إذا كان الطلاب يلوثون النساء بمواد ناتجة عن تعاملهم مع الجثث. واختبر تلك الفرضية بإلزام الطلاب بغسل أيديهم بمادة هيبوكلوريت الكالسيوم — المعروفة بالقضاء على رائحة الجثث — قبل زيارة جناح الولادة؛ فأسفر ذلك عن هبوط جذري في الوفيات الناتجة عن حمى النفاس.

اقتضى التوصل إلى اكتشاف سِمِّلفايس — الذي أرسى دعائم نظرية جرثومية المرض — إجراء عمليتي إدماج؛ فهو لم يلاحِظ صلة لم تُلاحَظ من قبل فحسب، وإنما فكَّر في طريقة لاختبار الفرضية المتولدة عن تلك الملاحظة.

إننا نستخدم القدرات الفكرية المعنية بحل المشكلات بصفة يومية. وسواء كنا نخطط لإجازة، أو نحاول المواءمة بين العمل والأطفال، أو نحاول معرفة الطريق الأمثل للوصول من النقطة (أ) إلى النقطة (ب) لا أكثر، فإننا نُمضي جزءًا كبيرًا من حياتنا في التفكير في العلاقات القائمة بين الأحداث.

دعونا الآن نحوِّل اهتمامنا إلى الفكر باعتباره نشاطًا عقليًّا. بمعنى آخر، دعونا ننظر في عملية التفكير.

على الرغم من إمكانية نشأة الأفكار منفصلة، فقد يكون الأكثر شيوعًا أن تَرِد في صورة تسلسلات. وثمة نوعان من تسلسلات الأفكار. فأحيانًا تكون الأفكار ذات صلة ارتباطية؛ بمعنى أن تؤدي فكرة لأخرى بصورة طبيعية دون جهد، مثل لعبة ربط الكلمات. على سبيل المثال: قد يستحث التفكير في سويسرا أفكار التزلج؛ مما قد يفضي إلى التفكير في الكريسماس … وهكذا دواليك. والتفكير الارتباطي مألوف لدينا في أحلام اليقظة وغيرها من أشكال التفكير الحالم.

وعلى الرغم مما ينطوي عليه تتبع هذا النوع من تسلسلات الأفكار من شعور بالسرور، فيمكن القول إن قوة الفكر تكمن في شيء أكثر نظامية، وهي حقيقة أنه يمكِّنُنا من استخدام الدليل والمنطق. فالواقع أن لفظ «الفكر» أحيانًا ما يُخصَّص لذلك النشاط وحده.

فلننظر إلى تسلسل الأفكار التالي: «سقراط إنسان»، «كل البشر فانون»، «سقراط فانٍ». فمكونات ذلك التسلسل من الأفكار ذات صلة استدلالية، فإذا صحت الفكرتان الأوليان إذن الثالثة بدورها صحيحة.

جزء كبير من قيمة التفكير ينبع من قدرتنا على تنظيم الأفكار في تسلسلات متماسكة حتى «نرى» تتابع الأشياء؛ أي إن أكثر اهتمامنا بالتفكير ذو صلة بالاستدلال.

طبيعة الفكر

بعد أن ميَّزنا عدة جوانب من الفكر، يمكننا الآن أن نحوِّل انتباهنا إلى طبيعة الفكر. فما هي طبيعته؟

فيما مضى كان الظن السائد هو أن الفكر يتطلَّب نوعًا من الوسط غير المادي — روح أو عقل غير مادي. إلا أن منظِّري العصر الحديث عادةً ما يرفضون ذلك الرأي مفضِّلين آخر ماديًّا، يقتصر الفكر وفقًا له على عمليات مادية فحسب.

ثمة ثلاثة دوافع رئيسية لذلك؛ أولها: أنه يمكن أن يفسر العلاقات الارتباطية القائمة بين حالة الدماغ وحالة الفكر. فبدءًا من التغيرات الطفيفة التي تعقب شرب الكافيين وصولًا إلى التغيرات الأكثر جذرية الناتجة عن تلف الدماغ، يتضح أن حالة الدماغ وثيقة الصلة بقدرتنا على التفكير.

الدافع الثاني: هو قدرة ذلك الرأي على تفسير الدور السببي الذي تضطلع به الأفكار في العالم. فالأفكار تنتج عن أحداث مادية وكذلك تتسبَّب فيها. فقد تدفعك رؤية قطار يدخل المحطة إلى التفكير في أنه «قد حان وقت الرحيل»؛ مما يفضي إلى قيامك بالتقاط أمتعتك وصعودك على متن القطار.

الدافع الثالث: هو أن التفسير المادي للفكر يتماشى مع فكرة استمرارية الطبيعة؛ فنحن نفترض أن البشر تطوروا من حيوانات عديمة الفكر. وعلى الرغم من أننا لا يمكن أن نستبعد احتمال أن تكون تلك العملية قد تضمَّنت ظهور نوع من الوسط غير المادي، فالأكثر معقولية أن نفترض أن تطور الكائنات المفكِّرة يمكن تفسيره كليًّا بحدوث تغيرات في بنية الأنظمة المادية.

ليس ثمة سبب واحد ضمن تلك الأسباب كفيل بحسم المسألة بمفرده، ولكنها مجتمعة تقدِّم حجة قوية لصالح التصور المادي للفكر. فكيف يمكن للأفكار أن تظهر في صورة ظواهر مادية داخل الدماغ؟

طيلة معظم التاريخ البشري كان الفكر ذا طبيعة شخصية بالأساس؛ إذ لم يكن من الممكن الوصول إليه سوى من خلال الحديث أو السلوك. وثمة نظريات عدة معنية بكيفية نشأة الأفكار، إلا أن التطورات في مجال «فك شفرة الدماغ» بدأت تعرِّض الفكر لدراسات مباشرة أكثر.

فباستخدام جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، بدأ علماء الأعصاب يتمكنون من استخدام المعلومات المتوفرة عن حالة أدمغة الأشخاص لمعرفة فيمَ يفكرون. ففي إحدى الدراسات، طُلِب إلى المتطوعين أن يختاروا بين بديلين — «الجمع» أو «الطرح» — قبل أن يُقدَّم إليهم رقمان لكي يجروا عليهما العملية الحسابية التي وقع عليها اختيارهم. وتمكن الباحثون من معرفة ما إذا كان الأشخاص المشاركون في الدراسة قد اختاروا الجمع أو الطرح بنسبة دقة تبلغ ٧٠ في المائة، وبذلك استشفُّوا نواياهم الخفية (مجلة كارنت بيولوجي، المجلد ١٧، صفحة ٣٢٣). وأحرز باحثون آخرون نجاحًا مماثلًا في التوصل إلى ما ينظر إليه بعض الأشخاص من نشاطهم الدماغي وحده.

على الرغم من أن تلك خطوات أولى مثيرة للإعجاب، إلا أنه يجدر تأكيد أوجه القصور التي تعتري دراسات فك شفرة الدماغ. أولًا: يكون نطاق الأفكار الذي يُطلب من المشاركين التفكير فيه مقيدًا بصورة اصطناعية. ففي الدراسة التي تضمَّنت خياري الجمع والطرح، لم يتوفر سوى احتمالين. أما في عالم الواقع فلا يكون نطاق الأفكار مقيدًا هكذا؛ لذا من شأن مهمة تأويل النشاط الدماغي لأحد الأشخاص في الحياة اليومية أن تكون أكثر صعوبة بكثير.

إضافةً إلى ذلك، يتطلب فك شفرة الدماغ قدرًا كبيرًا من التحضير المسبق، برسم خريطة العلاقات الارتباطية القائمة بين أفكار الأشخاص ونشاطهم الدماغي. فالباحثون لا يستطيعون قراءة الأفكار غير المدرجة بالفعل في قاعدة البيانات المتاحة لديهم. ومن ثم، لا يزال على تصوير الدماغ قطع شوط طويل حتى ينجح في فك شفرة لغة الفكر، ناهيك عن ابتكار ماكينة قادرة على قراءة أفكار الناس.

أفكار وكلمات

إن أحد الأسئلة التي خضعت لنقاش محتدم فيما يتعلق بطبيعة الفكر يتعلق بالدور الذي تضطلع به اللغة فيه. وثمة طائفة واسعة من الآراء في هذه المسألة. فثمة جانب يرى أننا نفكر بلغة. وعلى الصعيد الآخر، ثمة رأي يذهب إلى أن دور اللغة فيما يتعلق بالفكر يقتصر على السماح لنا بالتعبير عن أفكارنا فحسب. ومن المرجح أن تكمن الحقيقة في مكان ما بين هذين الرأيين.

يتمثل أحد سبل دخول ذلك النقاش في النظر إلى نوعية الأفكار التي يمكن أن تَرِد على خاطر الحيوانات غير البشرية. وإنها لمسألة عسيرة على البحث، ولكن ثمة ثلاثة ميادين على الأقل عُثِر فيها على أدلة تتعلق بالفكر الحيواني، ألا وهي: الأرقام، والعلاقات الاجتماعية، والحالات النفسية.

كثير من الأنواع تتمتع ببعض القدرة على تتبع الخصائص الحسابية. ففي إحدى الدراسات، دُرِّبت فِئران على الضغط على عَتَلة عندما يسمعون نغمتين، وعتلة مختلفة عندما يسمعون أربع نغمات. ودُرِّبوا على فعل الشيء ذاته استجابةً لومضات من الضوء. فعند تعريضها لنغمة واحدة وومضة واحدة، ضغطت على العتلة الأولى؛ مما يشير إلى أنها فهمت ذك المُحفِّز على أنه «حدثان». واستجابةً لنغمتين وومضتين، ضغطت العتلة الأخرى.

بعض الأنواع يمكنها أيضًا المقارنة بين الكميات بقدر كبير من الدقة. ففي إحدى التجارب خُيِّرت قرود شمبانزي بين صينيتين من رقاقات الشيكولاتة. كل صينية كان عليها كومتان؛ كومة من ٣ رقاقات وكومة من ٤ رقاقات — مثلًا — أو كومة من ٧ رقاقات وكومة من رقاقتين. بهذا واجهت القرود مشكلة تحديد أي الصينيتين عليها رقاقات أكثر إجمالًا. وعلى الرغم من مواجهتها صعوبة كبيرة عند تشابه الكميات، فقد كانت بارعة بصفة عامة في اختيار الصينية الصحيحة.

تستطيع قرود الشمبانزي أيضًا استيعاب الكسور البسيطة؛ فعندما يُعرض عليها نصف كوب من اللبن، يمكنها الإشارة إلى نصف تفاحة وتجاهل ثلاثة أرباع تفاحة لكي تحصل على مكافأة.

بصفة عامة، تشير الأدلة إلى أن بعض الأنواع لديها القدرة على تصوُّر الكميات حتى ثلاثة بدقة، والكميات الأكبر تقريبيًّا، وذلك التصوُّر يشبه الفكر في استقلاله عن المحفزات وانتظامه.

الميدان الثاني الذي تتوفر فيه أدلة على الفكر الحيواني معني بالمرتبة الاجتماعية. فقد أُجريت على إناث البابون أبحاث مكثَّفة للغاية فيما يتعلق بالإدراك الاجتماعي، وتلك القرود يتضمن عالمها الاجتماعي المعقد تسلسلًا هرميًّا ذا مستويين. فتُحدَّد مراتب الأُسَر نسبةً إلى بعضها، كما تُحدَّد مراتب الإناث داخل كل أسرة نسبةً إلى بعضها.

هذا الترتيب — المتسم بالتغير — يضطلع بدور محوري في مجتمع قرود البابون، ولا عجب في أن قرود البابون لديها تصور معقد لعالمها الاجتماعي. على سبيل المثال، قد تفزع أنثى البابون أكثر بسلسلة صيحات تمثل تهديد بابون تابع لبابون مسيطر من أسرة أخرى أكثر مما قد تفزع من نزاع مماثل داخل الأسرة، حتى إن تساوى الاختلاف في المرتبة إجمالًا.

يشبه فهم أنثى البابون لعالمها الاجتماعي الفكر من نواحٍ عِدَّة؛ أولًا: ليست المرتبة الاجتماعية واضحة بصورة قاطعة في البيئة، ويستلزم تتبعها إعمال نظرية ما بشأنها. ثانيًا: إن فكرها يبدو غير محدود إلى حد ما؛ فأنثى البابون يمكنها أن تتصور عددًا كبيرًا من العلاقات المحتملة بين أعضاء مجموعتها بما في ذلك العلاقات غير المتوقعة. فتقدم أوجه الشبه تلك مبررًا مناسبًا لوصف تصور أنثى البابون لعالمها الاجتماعي على أنه صورة من صور الفكر.

الميدان الثالث الذي ثبت فيه وجود تصورات شبيهة بالفكر يكمن في فهم الحالات النفسية. فالرئيسيات — على الأقل — تبدي قدرة على تحديد ما يمكن لغيرها رؤيته. وبالتالي، ربما ما يعرفه استنادًا إلى ما تنظر إليه. فهي تتبع نظرة الآخرين حتى تحدد موضوع اهتمامهم وتبعد الأطعمة عن مجال رؤية الحيوانات الأخرى. وفي التجارب، لا تتناول قرود الشمبانزي التابعة سوى الأطعمة التي لا يمكن لقرود الشمبانزي المسيطرة رؤيتها — فالوضع الطبيعي هو أن تأخذ قرود الشمبانزي المسيطرة الطعام كله وتعاقب القرود التي تتحداها — مما يشير إلى أنها تفهم الصلة بين الرؤية والمعرفة.

الحالة الذهنية

ثمة أدلة أيضًا على أن الرئيسيات يمكنها أن ترصد حالة ذهنها هي نفسها. ففي سلسلة من الدراسات، تعلَّمت القرود أن تؤدي اختبارًا تطلَّب تمييزها بين شكلين. عندما كانت تقدم الإجابة الصحيحة كانت تحصل على الطعام، وعندما كانت تخطئ الإجابة لم تكن تحصل على شيء، وكانت تُضْطَر إلى الانتظار برهة حتى تحاول مرة أخرى، وهو ما لم يرُق لها. فتعلمت القرود أنه يمكنها أن تنسحب من اختبار وتنتقل إلى الاختبار التالي مباشرةً بضغط زر بعينه. وقد أشار استخدام القرود خيار الانسحاب إلى أنها كانت تقيِّم مدى صعوبة كل اختبار؛ لأنها لم تكن تنسحب سوى في الاختبارات الصعبة.

يبدو واضحًا أن الأنواع غير البشرية تستخدم العمليات الشبيهة بالفكر في عدد من المواقف. على الرغم من ذلك، فإنها لا تدنو من المدى الذي يشمله الفكر البشري ورقيه. فإلامَ يُعزَى تفرُّد الفكر البشري؟ تبدو الإجابة عن ذلك السؤال مرتبطة باللغة.

انظر إلى التجربة التالية التي خضعت لها شيبا — أنثى الشمبانزي المدرَّبة على استخدام الأرقام لتمثيل الأشياء. قُدِّم لشيبا طبقان من الطعام، أحدهما كبير والآخر صغير. فمن أجل الحصول على الطبق الأكبر، كان عليها أن تشير إلى الطبق الأصغر. وعلى الرغم من استيعابها للقاعدة إلا أنها لم تستطع التغلب على غريزتها التي تدفعها إلى الإشارة إلى الطبق الأكبر — حتى غُطِّي الطبقان ووُضِعتْ عليهما أرقامٌ تمثِّل عدد الأطعمة التي يحويها كل طبق.

أتاح استخدام الرموز لشيبا تجاوز قدراتها العادية وفعل شيء أذكى بكثير، وهو فصل فكرها عن إدراكها الحسي. هذا «الفصل» هو سمة بارزة من سمات الفكر البشري، ويجوز تيسيره من خلال (بل وربما يستلزم) استخدام الرموز، لا سيما اللغات.

أُتيح مثال آخر على القوة التحويلية للرموز من خلال دراسة أُجريت على قرود شمبانزي مدرَّبة على استخدام البطاقات البلاستيكية لتمثيل التطابق والاختلاف. فقد يُربط بين كوبين ومثلث أحمر (تطابق)، بينما يُربط بين كوب وحذاء من ناحية ودائرة زرقاء من ناحية (اختلاف).

ما إن استوعبت قرود الشمبانزي هذه الفكرة حتى أمكنها وقتها — ووقتها فقط — أن تمضي قدمًا إلى إدراك علاقات أرقى تتعلق بالتطابق والاختلاف. فقد فهمت أن العلاقة القائمة بين الكوبين مختلفة عن العلاقة القائمة بين الكوب والحذاء. فيقترح الباحثون أن تكون البطاقات قد مكَّنت القرود من تأدية تلك المهمة؛ لأنها تمكنت من تحويل مهمة أرقى إلى أخرى أبسط تتعلق بتحديد ما إذا كان الرمزان المرتبطان بكل زوج متطابقين.

وعلى حد تعليق الفيلسوف آندي كلارك: «إذن فالخبرة في التعامل مع البطاقات والملصقات الخارجية تمكِّن الدماغ ذاته من حل مشكلات كان من شأن تعقيدها وتجرُّدها أن يحيرنا في ظروف أخرى.»

وتيسر اللغةُ الفكرَ بأساليب أخرى مُهِمَّة. فهي أداة تتيح لنا تعزيز قُوانا الفكرية. فبتحويل الأفكار إلى لغة نتمكن من أن نأخذ خطوة إلى الوراء ونعرِّضها للتقييم النقدي. وثمة أسباب مقنعة تدفعنا إلى افتراض أن كثيرًا من الفكر المميِّز للبشر يتضمَّن استخدام اللغة — أو على الأقل تتيحه اللغة.

السمة الأخرى المميزة للفكر البشري هي أنه يحدث في إطار بيئة اجتماعية. فقد وُلدنا في مجتمع من المفكِّرين، وتعلمنا أن نسترشد بالخبراء، بل إن الطفولة عبارة عن فترة تدريب مطولة على التفكير؛ إذ نتعلم فيمَ نفكر، وكذلك كيف نفكر.

ربما يكون الأهم من ذلك كله أن النقل الثقافي يتيح تمرير أفضل الأفكار التي تفتق عنها جيل إلى الأجيال اللاحقة. فخلافًا للأنواع الأخرى — التي عادةً ما يُضْطَر كل جيل جديد منها إلى إعادة اكتشاف الإنجازات المعرفية المتحققة — لدينا القدرة على البناء على أفكار أسلافنا. ونحن لا نرث محتوى أفكارهم فحسب، وإنما أساليب استنبات الأفكار وتقييمها والتعبير عنها أيضًا.

ما يتضمنه التفكير

السؤال الآخر المهم الذي ينشأ عن النظر إلى الفكر باعتباره نشاطًا يتعلق بنوع السيطرة التي نتمتع بها على ذلك الفكر. فهل التفكير نشاط متعمد ومنضبط؟ أم أنه نشاط سلبي إلى حد كبير؟ هل نتحكم به؟ أم أنه مجرد شيء يحدث لنا؟

أحيانًا يكون الفكر مقيدًا بتطبيق قاعدة. العمليات الحسابية والمنطقية — على سبيل المثال — قائمة على القواعد، وقد ابتكر الفلاسفة «أدوات تفكير» نظامية كثيرة أخرى لتعينهم على التفكير بوضوح أكبر. ولكن ذلك ليس نوعًا غير مألوف من النشاط، ومعظم فترات التفكير ليست قائمة على قواعد.

فلنفرض أني سألتك لماذا لا تحارب الدول الديمقراطية بعضها (كثيرًا ما يقال إن الدول الديمقراطية لم تحارب بعضها قط، ولكن ذلك ليس صحيحًا). إذا لم تكن قد فكرت في هذا السؤال من قبل بالفعل، فربما تحتاج إلى التفكير فيه.

ما الذي تتضمنه تلك العملية بالضبط؟ إذا كانت تجربتك تشبه تجربتي من أي ناحية، فإنك تطرح السؤال على نفسك ببساطة … وتنتظر أن تَرِد فكرة على خاطرك. أحيانًا لا يتفتَّق ذهنك عن شيء ذي بال، وفي أحيان أخرى، يتفتَّق عقلك الباطن عن شيء مفهوم. وفي كلا الحالتين، ليس ثمة قاعدة يمكنك تتبُّعها عن وعي منك حتى تستنبت الأفكار المنشودة.

بصفة عامة، كثيرًا ما يبدو أن عملية التفكير لا تفوق كثيرًا طرح أسئلة على نفسك وانتظار الإجابات من عقلك الباطن. فيبدو دور الوعي في تلك الحالات مماثلًا لدور حارس وظيفته أن يضمن عدم خروج تسلسل أفكار المرء عن الموضوع.

إلا أننا نخفق بصورة مدهشة في تقييد ميل أذهاننا إلى الشرود. ففي إحدى الدراسات، طُلِب إلى الأشخاص المشاركين في الدراسة أن يقرءوا فقرة في أذهانهم ويرصدوا تعرضهم إلى «فقدان التركيز». وقاطعهم القائمون بالتجربة بصورة عشوائية حتى يتأكدوا مما إذا كانوا لا يزالون يقرءون الفقرة، فاتضح أن المشاركين في الدراسة كانوا يفقدون تركيزهم كثيرًا، والأهم من ذلك أنهم بصفة عامة لم يدركوا أصلًا أنهم فقدوا التركيز.

والواقع أن قدرًا لا يُستهان به من الفكر يكون غير موجَّه؛ أي لا يستهدف أي غاية أو مشكلة بعينها. يتَّخذ هذا النوع من الفكر أشكالًا عدة، تتراوح من مجرد شرود الذهن عن مهمة إلى الأفكار العفوية التي تَرِد إلى ذهنك فجأة بلا دعوة في أوقات الراحة أو أثناء تأدية الأعمال الروتينية.

حتى وقت قريب، كان الفكر غير الموجَّه يُنظَر إليه على أنه أحد جوانب حياتنا الذهنية الداخلية عديمة الجدوى والمتسمة بالإهدار. إلا أن الأبحاث تشير حاليًّا إلى أنه جانب طبيعي — بل وضروري — من جوانب الفكر. فنشاط الدماغ أثناء فترة شرود الذهن يذكرنا بالنشاط الذي نراه عندما ينهمك المرء متعمِّدًا في التفكير المبدع. فقد يكون الفكر غير المُوَجَّه هو أفضل فترات تفكيرنا، وهو مما يتنافى مع المنطق.

وقد ثبت أيضًا بالأدلة أن محاولة التحكم في اتجاه تدفق الأفكار يمكن أن تأتي بنتائج عكسية. ففي دراسة شهيرة، طلب عالم النفس دانيال ويجنر من المشاركين في الدراسة ألا يفكروا في الدببة البيضاء لفترة مدتها ٥ دقائق. فوجد أن تلك المجموعة سجلت أفكارًا متعلقة بالدببة البيضاء أكثر من مجموعة أخرى وُجِّهت إليها تعليمات بالتفكير في الدببة البيضاء.

حدود الفكر

إذن فعلى الرغم من تمتعنا ببعض السيطرة الواعية على اتجاه أفكارنا، فإنها ليست غير محدودة على الإطلاق. وإذا كانت سيطرتنا على أفكارنا محدودة نسبيًّا، فربما تكون مسئوليتنا عنها محدودة نسبيًّا أيضًا.

إلا أنه من الواضح أن قدرات الفكر البشري كبيرة جدًّا. فهي ليست محدودة على غرار قدراتنا البدنية وقدراتنا الإدراكية الحسية. فنحن على سبيل المثال لا يمكننا رؤية رُقع مكانية أو زمنية بعيدة ولا زيارتها، ولكن يمكننا أن نفكر فيها.

هل ثمة حدود لما يمكن لعقولنا استيعابه؟ قد تبدو فكرة كون بعض جوانب الواقع عصيَّة علينا غير مقبولة للوهلة الأولى. فعلى أي حال، لا يبدو أن ثمة جانبًا في العالم لا يمكننا التفكير فيه. فهل ثمة سبب يدفعنا لأخذ احتمال وجود حدود معرفية على محمل الجد؟

أجل، ثمة سبب. فنظرًا لأن آلية الفكر البشري هي جزء من تكويننا البيولوجي، فكل الأسباب تحدو بنا إلى الشك في أنها تعاني من نوعية العلل والبقع الخفية التي تكبِّل الأجهزة البيولوجية الأخرى. فثمة شك في أن قرود الشمبانزي تمتلك القدرة على التفكير في الميكانيكا الكمية — على سبيل المثال. وربما يكون ذلك أحد عيوب الافتقار إلى اللغة. ولكن إذا كان ثمة أجزاء من الواقع يتعذَّر على الأنواع المفكِّرة الأخرى الوصول إليها، فلماذا ينبغي أن نفترض أنه ليس ثمة جزء من ذلك الواقع يتعذَّر علينا نحن الوصول إليه؟

إن الإقرار بأن بعض جوانب الواقع تتجاوز حدود استيعابنا شيء، ولكن تحديد ما قد تكونه تلك الجوانب شيء مختلف كليًّا. فهل يمكن تعيين حدود الفكر البشري؟

قد يبدو ذلك السؤال سخيفًا. فقد تقول: إنه إذا كانت فكرة معينة يستحيل أن تَرِد على فكرنا فلا يمكننا أن نفكر فيها، ناهيك عن معرفة أنه يستحيل أن تَرِد على فكرنا. ولكن ليس ثمة تناقض في محاولة الوقوف على مكان الحدود. يكمن مفتاح الحل في التمييز بين تصور الفكرة والتفكير فيها فعليًّا. فمثلما يمكننا أن نعرف الأمور التي نجهلها — المجهول المعروف — يمكننا أيضًا أن نفكر فيما يستحيل علينا تصوره — لك أن تسميها: المستحيلات المتصورة.

وأينما وقعت حدود الفكر البشري، لا شك أننا لم نبلغها من قريب أو من بعيد. فثمة أفكار — أفكار عميقة ومهمة ونافذة — لم تخطر على بال إنسان بعد. ولقد قطعنا شوطًا طويلًا بالفكر، ومن يدري إلى أين سيقودنا؟!

التفكير مثل الكمبيوتر

ثمة نظريات كثيرة تحاول أن تشرح كيف يمكن أن ينبثق الفكر عن جسم مادي مثل الدماغ. وإحدى أنجح تلك النظريات هي النظرية الحاسوبية للفكر، التي تتصور عملية التفكير مشابهةً لعمل أجهزة الكمبيوتر.

تلك النظرية معنية بطبيعة الأفكار والتفكير على حد سواء. وباختصار تقترح النظرية أن الأفكار عبارات تَرِد «بلغة الفكر»، وأن التفكير يتضمن عمليات انتقال بين تلك العبارات، تحكمها «خصائصها الشكلية» فحسب، وليس معناها.

دعونا نحلل ما سبق قليلًا: الخصائص الشكلية هي الخصائص التي يحملها شيء بحكم هيئته المادية. فالخاصية الشكلية للكلمة هي شكلها وليس مدلولها. فكلمة monkey الإنجليزية وكلمةsinge الفرنسية مختلفتان في خصائصهما الشكلية، ولكنهما تعنيان الشيء ذاته — قرد.

ما معنى أن نقول: إن الأفكار عبارات ترد بلغة الفكر؟ فلتنظر إلى فكرة «مارسيل عنده قرد». فمثلما تتكون الجملة من رموز لغوية ذات دلالات، تذهب النظرية الحاسوبية للفكر إلى أن الفكر يتكون من «رموز فكرية» يحمل كل منها دلالة مميزة. فإحدى الرموز تشير إلى مارسيل، وأخرى للقرد، والثالثة لعلاقة «الملكية».

تشرح النظرية الحاسوبية للفكر عملية التفكير باستحضار الخصائص الشكلية لتلك الرموز. فتفترض وجود آلية حساسة للخصائص الشكلية — أيًّا كانت — وتُطبِّق مجموعة من القواعد تتعلق بكيفية التلاعب بتلك الرموز دون معرفة ما تعنيه. ومن ثم، يعمل الفكر عمل قارئ عناوين الرسائل الآلي إلى حد كبير. فعلى الرغم من أن تلك الآلة لا تعرف شيئًا عن السيد سميث أو السيد جونز، يمكنها أن تضمن وصول بريدهما إليهما؛ لأنها حساسة للاختلافات الشكلية بين سميث وجونز.

06 Dec, 2015 04:05:44 PM
0

لمشاركة الخبر