Skip to main content

الذكاء الحاد: كيف أسهم تشكيل الأدوات في بناء عقولنا؟

كيف أصبحنا الكائنات الأذكى على كوكب الأرض؟ يمكن التعرُّف على قصة القفزات العقلية لأسلافنا من خلال الأحجار؛ ودليلنا في ذلك أحد العاملين الحاليين في مهنة تشذيب الأحجار.

تطايَرَ «الشررُ» عند احتكاك حجر مع آخَر، وكانت شظايا ناجمة عن هذا الاحتكاك ترتدُّ من الأثاث الذي يحيط بي كلما اصطدمتُ به. كل ضربة جعلتني أجفل، ولكن بروس برادلي كان مثالًا حيًّا على التركيز ورباطة الجأش وهو يكحت رأس الفأس التي يصنعها. على أي حال هي مهارةٌ ظلَّ برادلي يصقلها منذ وقت طويل يصعب عليه تذكُّره. يقول برادلي: «لقد كنتُ أشذِّب الحجارة منذ نعومة أظفاري. قد تسخر من ذلك إذا أردْتَ، ولكنني لديَّ مقطع فيديو يثبت ما أقول.» ويضيف برادلي قائلًا إنه عندما كان طفلًا كان عادةً ما يُرَى وهو يضرب حجرًا بحجر في حديقة والديه. بعد ذلك، عندما انتقلَتْ عائلته إلى ولاية أريزونا، طَوَّرَ برادلي من قدراته من خلال محاكاة أنصال السهام المنتشرة في الصحراء، التي كان يصنعها سكان أمريكا الأصليون.

بعد مرور عقود من الزمان، صنَعَ برادلي أدواتٍ حجريةً كنماذج لتلك التي ظهرت على امتداد التاريخ البشري. تعجُّ ورشة عمله في جامعة إكستر بالمملكة المتحدة بهذه الأعمال اليدوية؛ حيث توجد هناك أكوام من الأحجار موضوعة بجوار الحوائط، ويوجد في أحد الجوانب جِلْدُ ظبيٍ عليه بقعة داكنة، مُعلَّقًا في إطارٍ خشبيٍّ. يخبرني برادلي بأن هذا الظبي ذُبِح باستخدام بعض الأدوات اليدوية التي صنعها فريقه. يقول برادلي: «لدينا ثلاجة هناك ممتلئة بقطع اللحم، يمكنك تناوُلها إذا أردْتَ.»

لكنني كنتُ مهتمًّا بمكان آخَر، فلم تكن الأدوات الحجرية الموجودة أمامي على الطاولة مفيدة فحسب، بل إنها تروي أيضًا رحلةَ تطوُّرِنا من مجرد قرد إلى إنسان مُفكِّر يمتلك عقلًا. اعتمدَتِ المحاولاتُ السابقة لتتبع تاريخ العقل على التكهُّن بقدر ما اعتمدَتْ على الأدلة الدامغة. لكن، على مدار السنوات الثلاث الماضية، اتَّبَعَ مشروع برادلي الذي بعنوان «خبرات معرفية شكَّلَتْ عقل الإنسان» نهجًا أكثر دقةً في استكشاف أدمغة البشر الذين صنعوا هذه الأدوات. يمكننا الآن من خلال وضع النتائج التي توصَّلْنا إليها بشأن تشكيل الأدوات الحجرية جنبًا إلى جنب مع علم الأعصاب وعلم النفس وعلم الآثار؛ أن نضع تقديرات تتعلق بأصول القدرات العقلية التي يمتاز بها البشر كتحديد الوقت الذي بدأنا فيه للمرة الأولى ترتيبَ أفكارِنا وأفعالنا، ومتى ازدهر تخيُّلنا البصري، ومتى بدأنا التفكير في الماضي والمستقبل، ومتى كانت أول مرة مارسنا فيها الألعاب التمثيلية (التخيُّلية)، بل إن هناك أيضًا تلميحاتٍ حول الوقت الذي نشأَتْ فيه قدرتنا على الصبر والشعور بالخجل والشك وكذلك طبيعة أحلام أسلافنا.

الحجم ليس كل شيء: يتعلَّق الذكاء البشري بتنظيم مناطق المخ أكثر مما يتعلَّق بالحجم الكلي للمخ. من الممكن أن تكون الأدوات قد شكَّلت دورًا رئيسيًّا في تكوين أجزاءٍ من هذا العضو المعقَّد.

الحجم ليس كل شيء: يتعلَّق الذكاء البشري بتنظيم مناطق المخ أكثر مما يتعلَّق بالحجم الكلي للمخ. من الممكن أن تكون الأدوات قد شكَّلت دورًا رئيسيًّا في تكوين أجزاءٍ من هذا العضو المعقَّد.

اعتقَدَ الناس لفترة طويلة في وجود «مُكَوِّن سرِّيٍّ» يتفرَّد به الذكاءُ البشريُّ، والذي قد يفسِّر قدراتنا المعرفية الاستثنائية. ومنذ وقت ليس ببعيد، سُلِّطَتِ الأضواء على حجم المخ، أو بعبارة أخرى على فكرة أن امتلاك مخٍّ كبيرٍ يُعَدُّ السرَّ وراء تميُّز قدراتِنا المعرفية. مع ذلك، يتضح أكثر فأكثر أنه ليس هناك مُكَوِّن سرِّيٌّ، بل إن طريقتنا المميزة في التفكير تنبع من إعادة تنظيم الأجزاء المختلفة للمخ بقَدْر ما تنبع من نمو حجمها (انظر الرسم بعنوان «الحجم ليس كل شيء»). فضلًا عن ذلك، حدثَتْ عمليةُ إعادة تنظيم الأجزاء المختلفة للمخ قبل أن نتطوَّر ونتشعَّب عن الشمبانزي بوقتٍ طويلٍ؛ نحو ستة ملايين سنة. في الواقع، يمكن ملاحظة تغيُّرات مشابهة ولكن أخف حدةً لدى أقرب أقربينا على سلم التطوُّر في طائفة الرئيسيات. يقول يورون سمارز من جامعة ستوني بروك في نيويورك، الذي عقد مقارَنةً العام الماضي بين ١٧ نوعًا من الرئيسيات من حيث تطوُّر المخ: «بدرجةٍ ما، نحن لا نعدو كوننا قردة أكثر تطوُّرًا.»

إذن، ما الذي عَجَّلَ بهذا التطوُّر في سلسلة أسلافنا بما يتجاوَز ما كان يحدث في القردة الأخرى، وكيف ساعَدَ هذا الأمر في ظهور طُرُقٍ جديدة للتفكير؟ لا يمكننا تحديدُ معالم هذا المسار إلا من خلال إعادة فحص السجلات الأثرية (انظر التسلسل الزمني أدناه). لهذا السبب أنا متواجِد في ورشة عمل برادلي.

توقَّفَ برادلي عن مواصلة عمله لفترةٍ وجيزةٍ كي يعرض عليَّ ثلاث أدوات حجرية، كانت أولاها وأكثرها بدائيةً هي الصخر المُسنَّن الذي ربما يشير إلى أول لحظة فارقة في تلك الرحلة. كان أسلافنا الأوائل، إلى جانب سَيْرهم على القدمين، يشبهون القردة إلى حدٍّ كبيرٍ، وربما كان استخدامهم للأدوات استخدامًا محدودًا مثلهم مثل الشمبانزي والرئيسيات الأخرى؛ حيث كانوا يلتقطون الحجارة الصغيرة من على الأرض لسَحْق ثمار الجوز. لكن، تغيَّرَتِ الأمورُ منذ نحو ٢٫٦ مليون سنة مع ظهور قرد أسترالوبيثيكوس جارهي؛ فبدلًا من الاكتفاء بالاستفادة من الطبيعة بالحالة التي وجدوها عليها، بدأت هذه القرود في إدخال تعديلات على الطبيعة؛ حيث استخدموا ببراعة حجرًا واحدًا في تشذيب طرف حجرٍ آخَر، واستعملوا الحافة الحادة الناتجة في ذبح الحيوانات. إن فكرة استخدام أداةٍ معيَّنَةٍ من أجل ابتكار أداة أكثر نفعًا منها تُعَدُّ في حدِّ ذاتها قفزةً مفاهيميةً. لكن الأمر الذي لا يقل أهميةً هو حقيقة أن ابتكار أداة مسنَّنة على غرار أدوات الحضارة الألدوانية يتطلَّب براعةً وتحكُّمًا في الحركة، وهما شيئان لا يتوافران لدى الأنواع الأخرى من القردة؛ فهذا الأمر يتضمَّن عمليةَ تنسيقٍ لأطرافك بحيث تكون لكلِّ يدٍ وظيفةٌ مختلفة عن الأخرى. تقول ندى خريشة، زميلة برادلي: «ستحتاج إلى استخدام يدٍ في الدعم وأخرى في الطَّرْق.» وتلك حركات يجد الشمبانزي صعوبةً في إتقانها، حتى مع التدريب. إذا كان هذا التحكُّم في الجسد يبدو كوثبةٍ بسيطةٍ أكثر من كونه قفزةً كبيرةً؛ فتأمَّلْ جميع الفُرَص الجديدة التي أتاحها — بما في ذلك ابتكارُ أدواتٍ أفضل — والتي من الممكن أن تعزِّزَ مستويات ذكاء البشر؛ مما يزيد من سرعة تطوُّرهم مقارَنةً بالأنواع الأخرى من القردة. يقول برادلي: «أنا على استعدادٍ للمراهنة بأنه لم يكن ليتواجد الوعي والإدراك على هذا الكوكب لو أنه لم يكن لدينا أحجار قابِلة لتقطيعها إلى رقائق.»

إلا أن أسلافنا كانوا يتطوَّرون ببطء حتى مع وجود ذلك العامل المحفِّز. فلم يكن هناك تغيُّر ملحوظ إلا مع ظهور الإنسان المنتصب القامة، بعد مرور نحو مليون سنة. الإنسان المنتصب القامة له أهمية؛ نظرًا للعديد من الأسباب، فقد عاش في جماعاتٍ أكبر من أسلافه، إلى جانب أنه كان يمتلك جسمًا مُشابِهًا إلى حدٍّ كبير لجسم الإنسان الحديث. إن نجاح العيش في جماعات يستلزم التعاون والقدرة على الكشف عن المخادعين الذين يحاولون الحصول على شيء دون بذل جهد ومعاقبتهم. وفقًا لرأي إيفا جابلونكا من جامعة تل أبيب في إسرائيل، من الممكن أن تكون تلك التحديات قد حفزت عملية تطوُّر الأحاسيس المعقَّدَة مثل الشعور بالخزي والإحراج، التي من شأنها أن تساعد الأفراد على الانصياع للأوامر. تقول إيفا: «لقد تطوَّرَ لدينا الجانبُ العاطفيُّ قبل أن يتطوَّرَ الجانبُ المعرفي.» لكن ما يميِّز بالفعل طريقةَ التفكير لدى الإنسان المنتصب القامة يكمن في الأداة الثانية من الأدوات الثلاث الموجودة أمامي، وهي الفأس الحجرية في المرحلة الأشولية؛ وهي أداة مميزة تشبه ورقة النبات.

أفضل من حيث التصميم

نحن لا نعلم مصدرَ الإلهام الذي يقف وراء هذا التصميم الثوري، فربما أُوحِيَ بفكرته في منام. كانت المحاولات الأولى التي ترجع إلى نحو ١٫٥ مليون سنة، بسيطة للغاية، ولكن على مدار المليون عام التي أعقبت تلك الفترة، أصبحت الفئوس الأشولية أكثر رفعًا وتناسقًا؛ حيث بدأت في تجسيد أسلوب عمل أكثر تنظيمًا واتساقًا. أوضح برادلي أنه لكي تشكِّلَ تصميماتٍ أكثرَ تعقيدًا ودقةً، ستحتاج إلى تجهيز سطح الحجر عن طريق إزالة رقاقات أصغر حجمًا من أجل تشكيل زاوية قبل الطَّرْق على الرقاقات الأكبر حجمًا والأكثر تسطُّحًا. قال برادلي وهو يزيل رقاقات من الحجر الذي أمامه: «لقد تطلَّبَ تصميمُ هذه الفئوس الكثيرَ من التخطيط والفهم للقوة.» إن تقسيم هدفٍ ما إلى مجموعة من الأفعال الأكثر بساطةً على هذا النحو يشير إلى بدايات التفكير الهرمي. إن تقسيم أفعالنا إلى أقسام وترتيبها ترتيبًا متسلسلًا يمثِّل على ما يبدو جوهرَ الطريقة التي نستخدمها في أدائنا للأنشطة المختلفة في الوقت الحالي — سواء كنَّا نصنع كوبًا من الشاي أو نملأ حوضَ الاستحمام بالمياه — مما يعني أنه يكاد يكون من المستحيل تخيُّلُ عقولنا تعمل بأي طريقة أخرى. لكن التصميمات المصقولة للفئوس الأشولية تقدِّم بعضَ الدلائل الأولية على أن قدرة أسلافنا على تنظيم أفكارهم بهذه الطُّرُق الأكثر تعقيدًا كانت في بداية تطوُّرها. إن هذا التجديد في تصميم الفئوس يرتبط بنقلة مرحلية أخرى مهمة في الإدراك المعرفي البشري، أَلَا وهي اللغة؛ إنه نظام معقَّد للغاية يعتمد على العديد من عمليات التفكير المختلفة، لدرجة أن أصوله تُوصَف في بعض الأحيان بكونها اللغزَ الأكبرَ في مجال التطوُّر، لكن هناك بعض الأدلة تشير إلى أن صنع الأدوات ربما كان عاملًا حافزًا. يشير أحدُ المتعاونين مع برادلي، وهو ديتريش ستاوت من جامعة إيموري في أتلانتا بولاية جورجيا، إلى أن النطق بوضوحٍ يتطلَّب حركةً دقيقةً للشفتين واللسان. لا يمتلك الشمبانزي والرئيسيات الأخرى القدرةَ على القيام بذلك، ولكن عند أسلافنا، حفَّزَ صُنْعُ الأدواتِ عمليةَ تطوُّر مناطق المخ التي لها دور في التحكُّم في الحركة، والتي أُسنِدَتْ إليها لاحقًا مهمةُ التحكُّم في الكلام. يشير ستاوت أيضًا إلى أن التفكير التتابعي اللازم لابتكار الفئوس الحجرية التي على شكل ورقة نبات يتشَابَه مع التفكير الذي يتيح لنا فهم الجمل وبناءها.

لاختبار مدى صحة هذه النظرية، أجرى ستاوت فحوصاتٍ على المخ في محاولةٍ منه لتحديد المهارات المعرفية المستخدَمَة في كل نوع من أنواع صُنْع الأدوات. كما هو متوقَّع، أظهرَتْ فحوصاتُ المخ أن الأشخاص الذين يصنعون نُسَخًا مطابقةً للأصل من الأدوات التي كانت تُصنَع في الحضارة الألدوانية، يكون لديهم أعلى درجة من النشاط في مناطق المخ المرتبطة بالتحكُّم في الحركة اللازمة للتحدُّث، في حين أن نشاط المخ لدى الأشخاص الذين صنعوا أدواتٍ تحاكي تلك التي كانت تُصنَع في العصر الأشولي المتأخِّر يُظهِر تداخلًا بينه وبين نشاط المخ الذي يرتبط عادةً بالقواعد اللغوية. وهذا يشمل التلفيف الجبهي السفلي على طول الجزء السفلي من الفص الجبهي؛ وهي المنطقة التي نمَتْ سريعًا لدى الجنس البشري مقارَنَةً بالأنواع الأخرى من القردة.

من ثَمَّ، يمكن القول بأن اللغة هي السمة التي نتفرَّد بها، وظهورها هو الذي وضع حدًّا فاصلًا بيننا وبين جميع الأنواع الحيوانية الأخرى، ولكن لسوء الحظ، نقطة التحوُّل هذه في رحلتنا تكاد لا تُذكَر في السجلات الأثرية. لم يتمكَّنْ برادلي من أن يُظهِر لي الأدواتِ التي تدلُّ على نحوٍ قاطعٍ على الكلمات الأولى التي نَطَق بها أسلافنا، لكن هناك تلميحات بأن أسلافنا بدءوا الكلامَ في الوقت الذي يُعتقَد فيه أن النوع المنقرض من إنسان هايدلبرج، قد تطوَّرَ من الإنسان المنتصب القامة منذ نحو ٦٠٠ ألف سنة على الأقل.

مما لا شك فيه أن إنسان هايدلبرج كان أكثر شبهًا بالإنسان الحالي من جوانب أخرى؛ فقد كان حجم المخ لدى إنسان هايدلبرج ١٢٠٠سم٣ وهو أصغر بفارقٍ طفيفٍ جدًّا عن حجم المخ البشري الحالي؛ مما أعطاه قوةً معرفيةً تتجلَّى في مختلف الأدوات التي كان يستخدمها، بما يشمل الفئوس الحجرية والسواطير وأنصال الرماح المصقولة. لا بد أنَّ تَخَيُّلَ مسألة تحويل كتلةٍ من الحجارة لا شكلَ لها إلى هذه الأشكال والأنماط المختلفة قد تطلَّبَ إدراكًا مكانيًّا جيدًا، وربما يشير هذا إلى نشأة التخيُّل البصري لدى البشر. لقد تردَّدَ إنسان هايدلبرج على أماكن محدَّدة مرارًا وتكرارًا، مُخلفًا في بعض الأحيان الفئوس اليدوية في أنحاء شتى من الأرض. هذا الإهدار المتعذِّر تفسيرُه لأعمالٍ يدويةٍ جيدة يراه البعضُ محاوَلَةً مبكِّرةً لتحديد المواقع المهمة، وهذا يقترب من طريقة التفكير التي تُعَدُّ ضروريةً لاستخدام الرموز. الأمر المهم أن إنسان هايدلبرج كان يتمتع بجهاز صوتي أكثر تطوُّرًا؛ على سبيل المثال، تشير الآثار الموجودة في العظام إلى أن إنسان هايدلبرج كان لديه عدد أكبر من الأعصاب التي تربط بين المخ واللسان مقارَنةً بأسلافه، ويبدو أن صندوق الصوت لدى إنسان هايدلبرج لا توجد به زائدةٌ أشبه بالبالون تعيق النطقَ كما هو الحال في الأنواع الأخرى من القردة. إن هذين التغييرين لازمان من أجل إصدار الأصوات بوضوح والتحدُّث بطلاقة.

في أي وقت ظهرَتْ فيه اللغة جلبَتْ معها مجموعةً جديدةً كاملة من التحديات العقلية. تقول جابلونكا: «عندما أروي لك قصةً، من الممكن أن أجعلَكَ تشعر بالخوف بسهولةٍ شديدةٍ، ويجب عليك أن تتحكَّمَ في هذا الخوف.» من السهل التسليم جدلًا بتلك القدرة، لكن الشمبانزي فشل في التمييز على نحوٍ جيدٍ بين الرموز والأشياء الحقيقية؛ فهو على سبيل المثال، يُثَار بشدةٍ عندما يرى صورةً لثمرة موز. بالمثل، قد يكون أسلافنا جاهدوا في بداية الأمر من أجل فهم الصور العقلية التي تستحضرها اللغة. تقول جابلونكا إنه كي يتعامل أسلافنا مع ردود أفعالهم العميقة والمباشِرة؛ يجب أن تكون قد تطوَّرت قدرتُهم على التحكُّم في انفعالاتهم. وعليه فإنهم ربما يكونون قد تعلَّموا خلال ذلك كيف يكونون أكثر شكًّا وارتيابًا في الآخَرين. بالإضافة إلى ذلك، هم احتاجوا إلى ذاكرةٍ لفظيةٍ أَفْضَل كي يتمكَّنوا من تذكُّر ما قاله الآخَرون لهم، للتفريق بينه وبين ما حدَثَ في حياتهم الخاصة. تقول جابلونكا إنه انطلاقًا من هنا، نشأَتْ لدى الإنسان القدرةُ على «رواية قصته؛ أي: سيرته الذاتية». إذا كانت جابلونكا على صواب، فإن اللغة ساهمَتْ في شعورنا بالذات.

صُنِعت بإتقان

الأرجح أن أسلافنا كانوا لا يزالون يحاولون التعامُل مع هذه الصعوبات في الوقت الذي اقترَبَ العقل البشري فيه من المرحلة الأخيرة من رحلته. يلفت برادلي انتباهي إلى الأداة الثالثة الموجودة على الطاولة أمامنا؛ وذلك من أجل أن يسلِّط الضوءَ على هذه القفزة العقلية النهائية. هذه الأداة الجميلة المصنوعة وفقًا لطريقة لوفالوا في تشكيل الحجارة نُحِتَتْ من حَجَرٍ أسودَ لامعٍ، وتبدو مع النُّقَر الصغيرة التي تبطِّن حافتَها أشبه إلى حدٍّ ما بصَدَفة محار. يخبرني برادلي بأن هذه الأداة تشبه الفئوس الحجرية الأكثر بدائيةً إلى حدٍّ كبيرٍ؛ حيث تُستخدَم هي الأخرى في تقطيع اللحم وتقسيمه إلى أجزاء صغيرة، ربما كانت قيمة هذه الأداة جماليةً أكثرَ منها عمليةً. لِصُنْع هذه الأداة، يُشكَّل حجرُ الأساس في صورةٍ دائريةٍ قبل إزالة «الغطاء» بطَرْقةٍ واحدةٍ، إن تلك الحرفة تتطلَّب مهارةً وصبرًا كبيرين؛ وفقًا لما توصَّلَ إليه تلامذة برادلي وخريشة المتدرِّبون على هذه الحرفة في العصر الحديث. تقول خريشة: «الناس يحبون صنع الفئوس الحجرية، ولكنهم يكرهون صنع أدوات لوفالوا.» بما أن هذه العملية تضمُّ العديد من المراحل المختلفة، وغالبًا ما يحتاج المتدرِّبون على هذه الحرفة إلى تعليمات محدَّدة، فإن العقل الذي تمكَّنَ في المقام الأول من ابتكار هذه الأداة كان على الأرجح قادرًا على التفكير الهرمي المتطوِّر والتواصُل المعقَّد اللازمين للتعليم. ظهرَتْ هذه الأشياء المعقَّدَة للمرة الأولى منذ ٣٠٠ ألف عام على الأقل، لكن على الرغم من وجودها ضمن الآثار التي خلفها نوعُنا البشريُّ، إلا أنها تقترن على نحوٍ أكثَرَ شيوعًا بإنسان نياندرتال.

تقدِّم أدوات لوفالوا بعضًا من أفضل الأدلةِ التي تشير إلى أن إنسان نياندرتال كان يتقاسَم الكثيرَ من قدرات الإدراك المعرفي التي كان يملكها البشر الذين كانوا يعيشون في الوقت ذاته. هنا يكمن اللغز، يقول برادلي: «أيًّا كانت القفزة المعرفية التي حقَّقَها إنسان نياندرتال، فإنها توقَّفَتْ ولم تستمر.» إذن، لماذا طوَّرْنا ابتكاراتٍ أكثر طموحًا وثقافاتٍ فنيةً ثريةً بالرغم من توقُّف إنسان نياندرتال عن التطوُّر؟ أجِبْ عن هذا السؤال وسوف تتعرف على المرحلة النهائية من تطوُّر العقل البشري.

يعتقد البعضُ أن الإجابة عن هذا السؤال تكمن حرفيًّا في اللعب الذي يمارسه الأطفال. فبينما أخذ أسلافنا في التشعُّب عن الرئيسيات الأخرى، أخذَتْ مرحلة الطفولة تطول على نحوٍ مستمرٍّ؛ مما أعطى للمخِّ المزيد من الوقت للتطوُّر خارج الرحم. يبدو من بقايا العظام والأسنان أن أطفال الإنسان البدائي استغرقوا وقتًا أطول في التطوُّرِ والنموِّ مقارَنةً بأطفال إنسان نياندرتال. تقول أليسون جوبنيك، أستاذ علم نفس الطفل في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، إن الوقت الإضافي الذي استغرقه أطفال إنسان نياندرتال في اللعب ربما يكون قد ساعَدَهم على تطوير نوعٍ جديدٍ من التفكير وهو «التفكير المخالِف للواقع»؛ وهو القدرة على التفكير فيما قد تبدو عليه الأشياء، وليس الكيفية التي تبدو عليها فعليًّا فحسب. تقول أليسون إن ذلك الأمر أتاحَ لهم تخيُّلَ البيئة بطُرُقٍ أكثر إبداعًا؛ مما أعطاهم تحكُّمًا أكبر فيما يحيط بهم. نتيجةً لذلك، أصبح بإمكانهم القيام بأمور ربما لم تتبادَر إلى أذهان الإنسان في العصور البشرية الأولى، مثل ابتكار أدوات جديدة وبناء أماكن إيواء. من وجهه نظر فريدريك كوليدج وتوماس وين من جامعة كولورادو في مدينة كولورادو سبرينجز، فإن هناك عاملًا محفزًا أكثر تأثيرًا. يقول فريدريك وتوماس إن القفزة المعرفية الأخيرة كانت تعود إلى طفرةٍ وراثيةٍ حدثَتْ بالصدفة زادَتْ من قدرتنا على تذكُّر العديدِ من الأفكار والتعامُل معها، حتى لدى البشر في العصر الحديث، فإن هذه «الذاكرة العاملة» تقتصر على نحو سبعة أشياء. مع ذلك، فإن زيادةً ضئيلةً ربما كان لها نتائج هائلة. إنَّ قدرة الإنسان المتطوِّرة على تذكُّر ما قد قِيلَ أمامه للتوِّ ربما تكون قد أدَّتْ إلى زيادة تعقيد وتطوُّر المحادثة؛ مما يسمح باستخدام قواعد نحوية أكثر تعقيدًا بجملٍ عديدةٍ ومختلفةٍ؛ وذلك يعني أنه يمكنك التفكيرُ والتخطيطُ على نحوٍ افتراضيٍّ باستخدام عباراتٍ؛ مثل: «ماذا لو؟! …» و«إذا … فإن …»

ترتبط الذاكرة العاملة أيضًا بالابتكار والإبداع؛ وذلك لأنها تسمح لك بالاكتشاف الذهني للحلول المختلفة لمشكلةٍ ما. يُشِير وين وكوليدج أيضًا إلى بَحْثٍ يوضِّح أن الذاكرة العاملة المتطوِّرة كان من الممكن أن تُحسِّن ذاكرتنا الطويلة المدى والتخطيط المستقبلي؛ وذلك لأنها تُقَدِّم ما يشبه «لوحًا ذهنيًّا أسود» أكبر حجمًا، يمكننا أن نجمع ونسجِّل عليه تفاصيلَ تجاربنا السابقة، وأن نعتمدَ عليه في التوصُّل إلى أفضل طريقةٍ للمضيِّ قُدُمًا في المهمة.

وصفة لتحقيق النجاح

لقد دعمَتْ موجةٌ من الأدلة المقترنة بظروفٍ معينةٍ هذا الافتراضَ خلال السنوات الأخيرة؛ فعلى سبيل المثال، ألقَتْ لين وادلي من جامعة ويتووترسراند في جوهانسبرج في جنوب أفريقيا نظرةً على خطواتِ صناعةِ مواد الغِرَاء المُستخدَمَة في لصق نصل الرمح في عصاه. إن البشر في العصور الأولى كانت لديهم مواد لاصقة بسيطة مثل الصمغ النباتي، لكن وادلي وجدَتْ أن البشر الذين كانوا يعيشون في كهف سيبودو في جنوب أفريقيا بدءوا منذ نحو ٧٠ ألف عام في صنع توليفة من عصارة الشجرة مع مادة غروية حمراء وشمع النحل؛ مِنْ أَجْلِ إنتاج غراء ممتاز لا يتكسَّر إلى أجزاءٍ عند تعرُّضِه للاصطدام، ولا يذوب في الماء.

وجدَتْ وادلي عندما حاولَتْ أن تكرِّر الوصفات المعقَّدَة أنه يتعيَّن عليها أن تأخذ في الاعتبار العديدَ من العوامل المختلفة، من بينها درجة حرارة النار والرطوبة والنِّسَب المختلفة من المكونات؛ اعتمادًا على جودة عصارة الشجرة. تقول وادلي: «لقد تطلَّبَ الأمرُ الكثيرَ من التنسيقِ من أجل ضمان نجاح الوصفة.» وهو أمرٌ لا يمكن حدوثه إلا مع وجود ذاكرةٍ عاملةٍ متطوِّرةٍ من أجل تذكُّر جميع العناصر المختلفة في نفس الوقت.

يُستمَدُّ المزيد من الأدلة من الطعام الذي كان يتناوله هؤلاء الناس؛ ففي ذلك الوقت تقريبًا، بدأ الإنسانُ البدائيُّ الحديثُ في اصطياد الطرائد البرية الصغيرة؛ مثل أنواع الغزلان الصغيرة والقوارض. جرَّبَ كلينت جانيوليس — الخبير السابق في مجال أساليب نجاة أفراد الجيش في الظروف الصعبة، الذي يعمل في الوقت الحالي في جامعة أوكسفورد — الطُّرُق التي استخدموها، ووجد أنه بحاجة إلى وضع من ١٠ إلى ١٥ فخًّا من أجل التقاط ما يكفي من الطعام ليكون الأمرُ جديرًا بالعناء. يقول كلينت: «يمكنك في خلال بضع ساعات نصب عدد من الفخاخ الكافية للحصول على طعامك، وربما لشخصٍ آخَر لمدة يوم واحد.» لكن هذا الأمر يتطلَّب نوعًا من التروِّي، إضافةً إلى أن تتبُّعَ مواقعهم يحتاج إلى هذا النوع من الإدراك المعرفي المتطوِّر الذي أشار إليه كلٌّ من وين وكوليدج.

إن توقيت حدوث هذه التطوُّرات منذ ٧٠ ألف عام يُعَدُّ أمرًا ذا أهمية خاصة؛ وذلك لأنها أعقبَتِ اندلاع بركان توبا الهائل في إندونيسيا، والذي أدخل العالم في عصر جليدي قصير وتسبَّبَ في انخفاض عدد السكان في أفريقيا. من الممكن أن تكون جميع الطفرات الوراثية المفيدة التي حدثَتْ لدى العدد الصغير المتبقِّي من السكَّان قد انتشرَتْ سريعًا تاركةً أثرًا باقيًا في سلالتهم. يقول كوليدج: «إنَّ جميع البشر الباقين على قيد الحياة هم سلالة هؤلاء البشر البالغ عددهم ٢٠٠٠ أو نحو ذلك.» إذا كان وين وكوليدج على حقٍّ، فإن اندلاعَ بركان توبا كان بمنزلة نقطة البداية للمرحلة الأخيرة الموصِّلة إلى التفكير الحديث. وبفَضْل تسلُّحنا بهذا النوع من التفكير المتميِّز نوعًا ما، تركنا أفريقيا واستحوذنا على العالم، بينما انقرَضَ إنسان نياندرتال وغيره من أبناء عمومتنا في عملية التطوُّر.

بالطبع رحلتنا لم تنتهِ، ومن المثير التكهُّنُ بالكيفية التي سيتطوَّر بها عقل الإنسان في المستقبل. يتساءل وين إذا ما كنَّا سنرى المزيدَ من التغيُّرات في الذاكرة العاملة أم لا، ويقول: «إن الذاكرة العاملة متغيِّرة ما بين السكان.» ويضيف قائلًا: «نحن نظنُّ أنها قد لا تزال تخضع للتغيُّر التطوري.» من الممكن أن تغيِّر التطوراتُ في مجال التكنولوجيا التحدياتِ العقليةَ التي نُواجِهها تغييرًا جوهريًّا، تمامًا مثلما فعلَتِ الأدوات الحجرية في الماضي. إن الادعاءات القائلة بأن الإنترنت يجعلنا أغبياء ثبت أنها لا أساس لها من الصحة حتى الآن، لكنَّ طريقةَ تفاعُلِنا بعضنا مع بعض تخضع بالتأكيد إلى التغيُّر، وكذلك المهارات العقلية المرتبطة بالنجاح أيضًا.

يهتم برادلي بالماضي أكثر من اهتمامه بالمستقبل. كان الهواء ممتلئًا بغبار حجر الصوان عندما أعطاني برادلي الفأس بعد انتهائه من صنعه. يقول برادلي إنه لا يزال هناك العديد من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات بينما نحاول استكمال الحلقات الناقصة من سلسلة التطور المعرفي. ويضيف برادلي: «من وجهة نظرنا، هذه مجرد دراسة للجوانب السطحية لما يُمكن القيام به.» لكنه تمكَّنَ فعليًّا من تحقيق أحد أهدافه، أَلَا وهو رغبته في تعليم جيل جديد من العاملين في تشذيب أحجار الصوان المهاراتِ التي كان يصقلها منذ طفولته.

هناك أيضًا فرصة لأنْ تَجِد أعمالُ برادلي اليدويةُ مكانًا لها إلى جانب تلك القِطَع الأثرية التي طالما أُعجِبَ بها برادلي. يقول برادلي إن مؤسسة سميثسونيان الكائنة في واشنطن العاصمة تهتم بجَمْع أعماله اليدوية التي صَنَعها طوال حياته من أجل إظهار مدى التقدُّم الذي يُحرِزه المشتغِل بمهنة تشذيب الحجارة في العصر الحديث. يقول برادلي مازِحًا: «جسدي أيضًا قد يكون أحد المعروضات الدائمة في مؤسسة سميثسونيان عند وفاتي.» ستكون هذه المؤسسة مرقدًا ملائمًا لبرادلي الذي عمل بمهنة تشذيب الأحجار «منذ نعومة أظفاره»، وقضى حياته محاولًا فهم الكيفية التي شكَّلَتْ بها الخبراتُ التراكميةُ تفكيرَ الإنسان.

07 Dec, 2015 03:13:50 PM
0

لمشاركة الخبر