Skip to main content

الفوائد العلاجية للتوابل: التوابل الحارة تطلق ثورة جديدة في عالم الطب

إنَّ معرفة السر وراء المذاق البارد للنعناع والمذاق الحار للفلفل ربما تقودنا إلى علاجٍ جديدٍ للآلام المزمنة والسِّمْنة وحتى مرض السرطان.

يبدأ الأمر بالشعور بوخزٍ خفيف في اللسان، قبل أن يزيد ويتحوَّل إلى شعورٍ بالحرقان يجعلك تشعر وكأن فمك كلَّه يحترق، فإذا بك تتصبَّب عَرَقًا وتدمع عيناك ويسيل أنفك، وتتجرَّع الماءَ بلهفةٍ، لكن يبدو أنْ لا شيء يمكنه إطفاء هذا اللهيب. غير أنه بمجرد أن يَسكُن الألم تعتقد أنك ستبحث عن حلٍّ أفضل في المرة القادمة.

هل يمكن للتوابل الحارة أن تكون علاجًا لبعض المشكلات الطبية الكبرى؟

هل يمكن للتوابل الحارة أن تكون علاجًا لبعض المشكلات الطبية الكبرى؟

يعرف أيُّ شخص يستمتع بتناول الكاري هذا الشعور، وقد استخدم الطُّهاة على مدى قرونٍ هذا الشعورَ الذي يسبِّبه الفلفلُ الحار وغيرُه من أنواع الفلفل الأخرى؛ لإضفاء نكهةٍ على أكلاتهم. غيرَ أن العلماء لم يدركوا إلا في العقد الماضي تقريبًا كيفية تذوُّقنا للأطعمة الحِرِّيفة. لقد اكتشفوا الآلية التي لا تكشف السرَّ وراء حرارة الفلفل الحار والواسابي فحسب، بل تفسِّر أيضًا الانتعاش المهدِّئ لنكهاتٍ مثل المِنتول.

تتجاوز تبعاتُ هذا الاكتشاف حدودَ المطبخ وفن الطهي؛ إذ تُكوِّن هذه الآلياتُ نفسُها منظِّمَ حرارةِ الجسم الداخلي، حتى إن بعض الحيوانات يستخدمها من أجل الرؤية في الظلام. وعند فهم هذه المسارات، فمن المحتمَل أن يفتح الفلفلُ الحارُّ — ذلك المُكَوِّن الغذائي البسيط — آفاقًا جديدةً أمام الأبحاث التي تتعلَّق بحالاتٍ مَرَضِيَّة متنوعة؛ مثل الألم المزمن والسِّمْنة والسرطان.

بدأت القصة جديًّا عام ١٩٩٧ على يد ديفيد جوليوس — اختصاصي علم وظائف الأعضاء بجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو — ومع أن الناس تكهَّنوا طويلًا بمصدر حرارة الفلفل الحار، فإن فريقه كان أوَّلَ المكتشفين للطريقة التي يتسبَّب بها مُكَوِّنُهُ الأساسي، وهو الكابسيسين، في شعورنا بالمذاق الحار الشديد في أفواهنا؛ إذ يعتمد معظم إدراكنا الحسِّي على «قنواتٍ» معينة على سطح بعض الخلايا، تستجيب كلٌّ منها إلى عاملِ تحفيزٍ مختلفٍ، وعند تنشيط القناة تُفتَح مسامُّها؛ مما يسمح للشحنات الكهربائية في صورة أيونات — جسيمات مشحونة — بالمرور داخلها. وتوجد هذه القنوات الأيونية عادةً على الأعصاب؛ حيث يعمل تدفُّق الأيونات هذا على إطلاق نبضات كهربائية.

كان ثمة الكثير من القنوات المرشَّحة للاستجابة إلى الكابسيسين، لكن من خلال بعض الأبحاث الوراثية البارعة استطاع جوليوس تحديد القناة المسئولة عن ذلك، ويُطلَق عليها TRPV1.

المهم في الأمر أنه أوضح بعد ذلك أن القناة تستجيب أيضًا لدرجات الحرارة البالغة الارتفاع، التي تبلغ نحو ٤٣ درجة مئوية أو أعلى، الكافية لتدمير الأنسجة، ويفسِّر هذا بدقَّة سببَ الحرقان الشديد الذي نشعر به في أفواهنا عند تناول الفلفل الحار.

ارتبطت قنوات TRP (قنوات مستقبِلة لطاقة وقتية) من قَبْلُ بأنواعٍ مختلفةٍ من الإدراك الحسِّي، لكن كانت هذه هي المرة الأولى التي يُذكَر فيها منظِّم الحرارة الداخلي في الجسم (انظر الشكل). ولم يمضِ وقت طويل حتى ظهرت قنواتُ بروتينٍ أخرى ذات صلة تفسِّر حساسيتنا لمكوناتٍ غذائية ودرجاتِ حرارة أخرى. ففي عام ٢٠٠٢، على سبيل المثال، اكتشف جوليوس قناة TRPM8 التي تَنْشَط بفعل درجات الحرارة الباردة نسبيًّا؛ بين ١٠ و٣٠ درجة مئوية. وتنشط هذه القناة أيضًا بفعل المِنتول؛ مما يجعلنا نشعر بتأثيره البارد المنعش.

منظِّم الحرارة الداخلي: يتكوَّن منظِّم الحرارة الداخلي في أجسامنا من سلسلة من بروتينات TRP، التي يتفاعل كلٌّ منها مع مدًى مختلف من درجات الحرارة. ويمكن تنشيطها باستخدام مكوِّنات غذائية لتوليد شعور بالحرارة أو البرودة.

منظِّم الحرارة الداخلي: يتكوَّن منظِّم الحرارة الداخلي في أجسامنا من سلسلة من بروتينات TRP، التي يتفاعل كلٌّ منها مع مدًى مختلف من درجات الحرارة. ويمكن تنشيطها باستخدام مكوِّنات غذائية لتوليد شعور بالحرارة أو البرودة.

آلية التأثُّر بدرجات الحرارة المختلفة

عندما اكتشف جوليوس وزملاؤه قناة TRPM8 انتقلوا إلى تخليق سلالةٍ من الفئران المُهندَسة وراثيًّا تحمل نسختَيْن مَعِيبَتَيْن من الجين الذي يُشفِّر بروتين هذه القناة، ثم اختبروا حساسية هذه الحيوانات إلى البرودة عن طريق وضعها داخل صندوق يحتوي على غرفتَيْن، لكلٍّ منهما درجةُ حرارةٍ محيطة مختلفة، وقارنوا سلوكها مع أقرانها الطبيعية التي وُلِدت معها ونشأت في البيئة نفسها.

أظهرت الفئران الطبيعية تفضيلًا قويًّا للغرفة التي ظلَّت درجة حرارتها ٣٠ درجة مئوية، لكن الحيوانات المُهندَسة وراثيًّا بقيت بسعادة داخل الغرفة الأكثر برودة لفترات زمنية أطول، ولم تفضِّل الذهاب إلى الغرفة الأدفأ إلا عندما انخفضت درجة الحرارة إلى ما دون ١٥ درجة مئوية، كذلك كانت أقلَّ قدرةً من أقرانها الطبيعية على التمييز بين الأسطح الباردة والدافئة.

يعمل الباحثون حاليًّا على سدِّ الثغرات الأخرى في فهمنا لمنظِّم الحرارة في أجسامنا. ويتضح عندما يقومون بذلك أن هذه الآليات قد تطوَّرت لدى بعض الحيوانات بطرق مثيرة للدهشة؛ على سبيل المثال، يوجد لدى أفعى الحُفَر والخفافيش الماصَّة للدماء نوعٌ شديدُ الحساسية من قناة TRPA1 يستجيب لدرجات حرارة تقترب من ١٠ درجات مئوية، وقد استُخدِم من أجل التصوير الحراري بالأشعة تحت الحمراء.

إلا أن التوصُّل إلى فهمٍ جديدٍ للحواس لم يكن إلا جزءًا من سبب الشعور بالإثارة، فسرعان ما اتضح أن أدوار هذه القنوات واسعةُ النطاق؛ حيث يُحتمَل أن لها علاقةً بعددٍ كبيرٍ من الاضطرابات. ومن بين المعلومات المهمة على وجه الخصوص حقيقةُ أنها توجد على الأعصاب التي تستجيب للمحفِّزات المؤلمة، وأنها تستطيع العمل كنوع من المحوِّلات يزيد أو يخفِّف من حدَّة حساسية الأعصاب، وعندما تعطي هذه الآليةُ عكسَ النتائج المرجوَّة منها، بسبب طفرات معينة، فإن أبسط التغيرات في درجة الحرارة بإمكانها التسبُّب في ألمٍ مميت (انظر الجزء بعنوان «أسوأ من آلام الولادة»). وعلى الجانب الآخر، فإن هذه القنوات تفتح آفاقًا واعدةً أمام الأبحاث؛ من أجل تطوير أنواع جديدة من المسكِّنات يمكنها استخدام هذا المسار كمَنْفَذٍ للدخول.

في البداية ركَّزت معظمُ الأبحاث على قناة TRPV1؛ أول قناة اكتشفها جوليوس، ومع الأسف، كان العثور على سُبلٍ لتغيير الشعور بالألم عبر هذا المسار أصعب بكثير مما بدا عليه الأمر في البداية؛ حيث اتضح سريعًا أن الأدوية المحتمَلة لها آثارٌ جانبية غير مرغوب فيها وخطيرة بالفعل. وبما أن لقناة TRPV1 صلةً باكتشاف درجات الحرارة الشديدة الارتفاع، فإن أي شيء يعيق عملها يجعل الناس أقلَّ حساسية للحرارة المؤلمة. ويعني هذا أنهم يصبحون أكثر عرضةً للإصابات التي قد تتمثَّل على سبيل المثال في إحراق أنفسهم بالماء الساخن عند الاستحمام. كذلك فإنه نظرًا لارتباطها بتنظيم درجة حرارة الجسم الداخلية، فإن الأدوية التي تسدُّ هذه القناة يمكن أن تتسبَّب في حُمى بالغة الخطورة. يقول جون وود، الباحث في طب الألم بكلية لندن الجامعية: «لقد تزاحمت جميع شركات الأدوية الكبرى، وأُنفِق ما يقرب من ٦٠ مليار دولار على محاولة تصنيع أدوية تعتمد على قناة TRPV1، ولقد صنعنا منها المئات ووصفناها بعناية شديدة، لكن لم يُجْدِ أيٌّ منها نفعًا.»

سبَّبت هذه المشكلات إحباطًا لكثيرٍ من الباحثين، لكن ربما توجد طريقةٌ لتلافيها إذا فهمنا على نحو أفضل طريقةَ تفاعلِ القنوات مع البيئة المحيطة بها. في عام ٢٠١٣ اكتشف بيتر مكنوتن — الذي كان يعمل في ذاك الوقت في جامعة كامبريدج — وزملاؤه، نوعًا من البروتين يعدِّل عمل قناة TRPV1 في أثناء الالتهاب، يسمَّى هذا البروتين AKAP79 (بروتين كيناز ألفا الأساسي)، ويبدو أنه يُغيِّر جزيئات الخلية إلى تكوينات معينة. تقول جوان بتش التي تعمل أيضًا بجامعة كامبريدج، وقادت هذا العمل البحثي: «يعمل هذا البروتين على تمركُز بعض مكوِّنات مسارات الإشارات في المواضع الصحيحة داخل الخلية، بحيث تكون مستعدةً للانطلاق عندما يُفتَح المسار.» وكانت النتيجة هي انخفاض حدِّ توليد النبضات العصبية في قناةTRPV1 عند وجود هذا البروتين بكميات وفيرة، ويعني هذا أن درجات الحرارة الطبيعية غير الضارة سوف تتسبَّب في الشعور بالألم، وهذه مشكلة خطيرة في حالات الألم المزمن؛ مثل الألم العضلي الليفي، والصداع النصفي، وبعض الإصابات.

سيلان اللُّعاب عند التخدير الموضعي لدى طبيب الأسنان

من حُسن الحظ أنه ربما توجد طريقة لعكس هذا التأثير. لقد اكتشف فريق مكنوتن وبتش مادةً كيميائيَّةً تمنع بروتينAKAP79 من الارتباط ببروتين قناة TRPV1؛ مما يقلِّل الألم المرتبط بالالتهاب، كما أنها تعمل في الأساس دون تقليل الحساسية للحرارة. تقول بتش: «عن طريق منع التفاعل بين البروتينَيْن، نعمل على تقليل عدد قنوات TRPV1 المتاحة للاستجابة للمحفِّز، ونمنع تغيُّر القنوات الموجودة بالفعل في غشاء الخلية.» وحتى الآن كانت التجارب على الفئران إيجابية.

يبحث آخرون طرق استعمال هذه الأدوية في مواضع صغيرة من الجسم؛ من أجل الحصول على تخدير موضعي أفضل. من الآثار غير المحمودة لتطبيق التخدير الموضعي لدى طبيب الأسنان حاليًّا أن الأدوية تُوقِف عمل جميع الخلايا العصبية، بما في ذلك تلك التي تعمل على تحريك العضلات؛ مما يصيب الوجه بحالةٍ من الشلل مؤقتًا. وأحد الحلول لهذه المشكلة هو استخدام الكابسيسين الموجود في الفلفل الحار، أو الجزيئات ذات الصلة، كوسيلة لتحرير الأعصاب المسئولة تحديدًا عن الشعور بالألم؛ فمن خلال فتح قناة الشعور بالحرارة مؤقتًا تُنشئ هذه المادة مَنْفذًا لدخول المخدِّر إلى داخل الخلية. وبما أن الأعصاب التي تعمل على تحريك العضلات لا يوجد لديها المستقبِل نفسه، فإنها لن تتأثر به؛ ومن ثمَّ فإن المريض الخاضع للمخدِّر لن يفقد السيطرة على جميع عضلات وجهه ويسيل لعابه دون تحكم.

في ظلِّ وجود الكثير من القنوات الحرارية على الخلايا العصبية ربما يوجد أيضًا كثيرٌ من الأهداف الأخرى. على سبيل المثال، من المعروف أن التبريد له آثارٌ مسكِّنة في بعض الحالات المَرَضية المؤلمة؛ مثل التهاب المفاصل، كما أن له تأثيرًا مهدِّئًا في حالة الالتهاب. وربما يشمل هذا قناة TRPM8، لكن ربما تلعب أيضًا قنوات TRP أخرى دورًا في ذلك؛ مما قد يؤدي إلى تعقيد الصورة. ونظرًا لأن النشاط المفرط في هذه المسارات يمكن أيضًا أن يتسبَّب في حساسية مفرطة غير محمودة للبرد، فقد يصعب العثور على دواء يحقِّق وسطًا مريحًا.

في الوقت نفسه يفكر باحثون آخرون في احتمال استخدام هذه القنوات في مكافحة السِّمنة. وقد تتمثَّل إحدى الأفكار في استخدام القنوات في التلاعب بمنظِّم حرارة الجسم من أجل التحكُّم في كمِّ الطاقة المبذول بحيث يُحرق الوزن الزائد. ومن الواضح أنه أمرٌ ينبغي تنفيذه بحذر؛ فبالإضافة إلى المخاطر التي ظهرت في دراسات تخفيف الألم، فإن الفوائد قد يصعب التنبؤ بها أيضًا. على سبيل المثال، ربما تظن أن إيقاف عمل آلية الشعور بالحرارة سيكون له نفس تأثير الشعور بدرجة الحرارة الباردة؛ مما يحفِّز الآليات التلقائية لحرق المزيد من الحرارة لتعويض هذا الشعور، إلا أن الدراسات التي أُجريت على الحيوانات كانت متضاربةً؛ ففي حين أظهرت بعض الدراسات أن الفئران التي تفتقد مستقبِل TRPV1 قد فقدت الوزن، فإن دراسات أخرى أظهرت زيادةَ وزنِهَا.

في المقابل توجد إشارات إلى أن التحفيز الخفيف لمستقبِلات TRPV1 هو الحل. على سبيل المثال، يبدو أن تنشيط قناةTRPV1 يمنع إنتاج الخلايا الدهنية؛ وهي الخلايا المتخصصة في تخزين الطاقة في شكل دهون. في حين أشارت دراساتٌ أخرى إلى أن تحفيز هذه القناة يمكن أن يتسبَّب في حرق الجسم للدهون التي كوَّنها توًّا. وبما أن هذه القناة لها علاقة بعملية التذوق، فإن هذا ربما يسهم في الشعور بالشِّبَع عقب تناول الوجبة؛ مما يمنعنا من الإفراط في تناول الطعام.

مع أن السبب المحدد لهذه الاستجابة ما زال قيد النقاش، فإن التجارب التي أُجريت حتى الآن على البشر واعدةٌ. فعلى سبيل المثال، أظهر الأشخاص موضع البحث الذين طُلب منهم تناولُ جرعةٍ منتظمة من الكابسيسين كل يوم زيادةً بسيطةً في معدل السعرات الحرارية التي تحرقها أجسامهم، بقدرٍ يكفي لحدوث فقدان ثابت في الوزن على مدى شهور.

ربما أكثر ما يثير الدهشة هو اكتشاف الدور المحتمَل لهذه القنوات أيضًا في نمو الأورام. على سبيل المثال، من المعروف أن بروتين TRPM8، الذي يسمح لنا بتذوق طعم النعناع، يوجد بمستويات مرتفعة على نحو غير طبيعي في حالات الإصابة بسرطان البروستاتا. وكلما زادت خطورة المرض زادت مستويات هذا البروتين في الخلايا السرطانية. وتشير الأبحاث التي أُجريت على الحيوانات إلى أنه في هذه الحالة ربما استُخدِمت القناة في مسارات الإشارات الخلوية التي تتسبَّب في انقسام الخلية. ونظرًا لوجود هذه القنوات أيضًا في الخلايا الظهارية المبطِّنة للأوعية الدموية؛ فإنها قد تسهم في انتشار السرطان من خلال تعزيز تكوين الأوعية الدموية المُغذِّية للأورام.

إذن، فإن استهداف مسار بروتين TRPM8 قد يقدِّم طريقةً للتحكم في نمو السرطان. في إحدى التجارب اتضح أن المواد الكيميائية التي تُثبِّط نشاط بروتين TRPM8 تقلِّل من تكاثر خلايا البروستاتا السرطانية التي تنمو في صحن بِتْرِي، وقد يؤدِّي مثلُ هذه التجارب في النهاية إلى التوصل إلى أدوية تمنع انتشار هذا المرض. وبالفعل، فإن إحدى التجارب السريرية في سبيلها إلى ذلك.

تبعد هذه التوقعات كثيرًا عن اكتشاف جوليوس الأول لسِرِّ حرقان الفلفل الحار؛ فما بدا يومًا أنه فضولٌ من مُحبِّي الكاري يبدو أنه حاليًّا في طريقه إلى إثبات مكانته في مجال الرعاية الصحية.

لا يسعنا حاليًّا إلا أن نجزم بشيءٍ واحدٍ: يوجد الآن في مجال الطب بعضُ المجالات البحثية الملتهبة التي تضاهي لهيب الفلفل الحار.

أسوأ من آلام الولادة

إنَّ الحرارة أو البرودة الشديدة يمكن أن تسبِّب الألم لنا جميعًا، لكن البعض منا قد يتأثر حتى بالتغيرات الطفيفة في درجة الحرارة؛ مما يجعله يعاني معاناةً شديدةً. في عام ٢٠١٠، اكتشف جون وود بكلية لندن الجامعية وزملاؤه حالةً مَرَضِيَّةً تُسَمَّى «متلازمة الألم العَرَضي العائلي» لدى أسرة كولومبية، كانت تشكو أعراضًا من الألم الحاد.

يقول وود: «عندما يشعر أفراد تلك الأسرة بالبرد أو التعب، فإنهم يعانون من ألمٍ مبرِّحٍ في الصدر يتسبَّب في فقدانهم الوعي، وعندما يتعافَوْن من هذه الحالة، بعد ساعتين تقريبًا، تخور قواهم ويشعرون بالإنهاك. وتقول النساء إن ما يشعرن به من ألمٍ أسوأُ من آلام الولادة.»

بعدما انتهى فريق وود من رسم خريطة جينومات أفراد هذه الأسرة، حدَّدوا طفرةً في جين بروتين TRPA1 يبدو أنها السبب في الحالة المَرَضية لهذه الأسرة. يمثِّل هذا الجين الشفرة الوراثية لبروتين — أو قناة — مستقبِل على سطح الخلية، اكتُشِف في السابق أنه يستجيب لدرجات الحرارة شديدة البرودة. وبدلًا من تعطيل بروتين TRPA1، فإن الطفرة التي حدَّدها وود وزملاؤه تزيد من حساسية القناة؛ ومن ثمَّ يصبح بروتين TRPA1 نَشِطًا في الوقت الذي يُفترَض فيه أن يكون خامدًا.

يضيف وود أن متلازمة الألم هذه ربما تنفرد بها هذه الأسرة الكولومبية التي تَبيَّن حدوث الطفرة فيها؛ لذا، على الرغم من أن هذا البحث يقدِّم رؤيةً مفيدةً عن علاقة قنوات TRP بحالات الألم، فمن غير المحتمَل أن تنفق شركات الأدوية أي أموال على التوصل إلى وسيلة لتخليص هذه الأسرة من شقائها الشديد.

يطلقون عليه رجل الثلج …

… وهذا سبب وجيه؛ إذ يتمتع الهولندي ويم هوف البالغ من العمر ٥٩ عامًا بقُدرةٍ استثنائية على تحمُّل درجات الحرارة الباردة للغاية لفترات طويلة، وقد مكَّنته هذه القدرة من حصد ما لا يقل عن ٢٠ رقْمًا عالميًّا قياسيًّا؛ ففي عام ٢٠٠٩، وصل هوف إلى قمة جبل كليمنجارو في يومين، وهو لا يرتدي شيئًا سوى سروال قصير. وفي وقت لاحق في العام نفسه، خاض سباق ماراثون بالكامل في المنطقة القطبية الشمالية في فنلندا في درجة حرارة تقترب من −٢٠ درجة مئوية وهو يرتدي — مجدَّدًا — سروالًا قصيرًا فقط. وفي عام ٢٠١١، حطَّم رقمه العالمي القياسي لتحمُّل الثلج، من خلال بقائه مغمورًا بالماء المتجمد لما لا يقل عن ساعتين تقريبًا.

يُرجِع هوف هذا إلى قدرته على التحكم الواعي في وظائف جسمه، فيقول: «إنه تفوُّقُ العقل على المادة، لقد تعلَّمتُ من تمرينات التنفس التحكمَ في جهازي العصبي وجهاز المناعة والجهاز القلبي الوعائي، ويمكِّنني هذا من البقاء فترة أطول في البرد، وتحمُّل الألم.»

ثمة أدلة علمية تدعم مزاعم هوف؛ فقد أظهرت دراسةُ حالةٍ في عام ٢٠١٢ أجراها باحثون من جامعة رادباود في نيميخن بهولندا أن أسلوب تأمُّله يُنتج فيما يبدو استجابةً موجَّهة للضغوط؛ مما يقلِّل من المشاعر غير المحمودة التي عادةً ما تكون مصاحِبة للطقس الشديد البرودة.

يُحتمَل أن يلعب علم الوراثة دورًا أيضًا؛ حيث يوجد جينٌ معيَّنٌ مسئولٌ عن حدوث الفروق الفردية في الحساسية للبرد. يشفِّر هذا الجين بروتينًا مستقبِلًا — أو قناة — يطلق عليه TRPM8، يوجد عادةً في مجموعة فرعية من الألياف العصبية الحساسة للألم. وتعمل أنواعٌ معينة من TRPM8 على زيادة أو تقليل حساسية الناس لدرجات الحرارة الباردة إلى حدٍّ مؤلم، وربما توجد طفرات منه تجعل الناس لا يشعرون تمامًا بالبرد.

يقول ديفيد جوليوس، اختصاصي علم وظائف الأعضاء بجامعة كاليفورنيا، في سان فرانسيسكو: «لم ينمِ إلى علمي إثبات حدوث أي طفرات لجين TRPM8 لدى البشر، لكنَّ شخصًا مثل هوف يبدو مرشحًا جيدًا لرسم تسلسلاته الجينية.»

10 Dec, 2015 09:34:36 PM
0

لمشاركة الخبر