Skip to main content

الخفافيش: مستودع نشر الأمراض المعدية

تحوي أجسامُ الخفافيش عددًا هائلًا من الأمراض القاتلة التي تنتقل أحيانًا إلى البشر. فهل يمكننا الحيلولة دون حدوث وباءٍ عظيم؟

ظهرت «أول حالة إصابة» في السعودية لرجل يبلغ من العمر ٦٠ عامًا، أُصِيب هذا الرجل بمرضٍ غامضٍ في يونيو ٢٠١٢، وتُوفِّيَ بعد ١١ يومًا. وعندما أرسَلَ طبيبُه عيناتٍ لفحصها كشفَتِ النتيجةُ عن فيروس جديد شبيه بالفيروس الذي تسبَّبَ في تفشِّي مرض سارس (الالتهاب الرئوي اللانمطي الحاد) منذ عشر سنوات.

انتقال الفيروسات من الخفافيش إلى البشر: تسبَّبَتِ الفيروسات التي تحملها الخفافيش في العديد من حالات العدوى المؤكَّدة على مدار السنين.

انتقال الفيروسات من الخفافيش إلى البشر: تسبَّبَتِ الفيروسات التي تحملها الخفافيش في العديد من حالات العدوى المؤكَّدة على مدار السنين.

سرعان ما أُصِيب المزيد من الأشخاص بهذا المرض — الذي أصبح يُعرَف الآن باسم متلازمة الشرق الأوسط التنفُّسِيَّة أو فيروس ميرس — وتُوفِّيَ حتى الآن نصف المصابين به. هنا يجب أن يُطرَح سؤال جوهري، وهو: ما هو مصدر هذا الفيروس؟ أشارَ نمطُ العدوى إلى أن مأوى هذا المرض هو بعض الحيوانات التي تعيش في شبه الجزيرة العربية، وهو المكان الذي ظهرَتْ فيه جميع الحالات حتى الآن أو ترجع إليه، وأنه عادةً ما ينتقل إلى البشر. لكن، ما هو الحيوان الناقل للفيروس؟

كانت الخفافيش منذ ٢٠ عامًا من أبعد الحيوانات المشتبَه في نقلها هذا الفيروس، وكان المرض الخطير الوحيد الذي تشتهر الخفافيشُ بنقله إلى البشر هو داء الكلب (السُّعار)، لكن منذ ذلك الحين، ارتبطت مجموعةٌ كاملةٌ من الأمراض المُمِيتة بالخفافيش، بدءًا من الإيبولا والتهاب الكبد الوبائي سي، ووصولًا إلى فيروس سارس، وربما امتدَّ الأمرُ الآن إلى فيروس ميرس (انظر الرسم). وربما يكون فيروس ميرس قد انتقَلَ أولًا إلى الجِمَال ثم إلى البشر، لكن تشير جميعُ الأدلة حتى الآن إلى أن هذا الفيروس هو أحدث فيروسٍ يصيب البشرَ عن طريق الخفافيش، ولن يكون الأخير. يقول لين-فا وانج، الذي ساعَدَ في إثبات أن الخفافيش هي مصدر تفشِّي فيروس سارس عام ٢٠٠٣: «ستكون الخفافيش على الأرجح مصدرًا لتفشِّي مرضٍ جديدٍ آخَر خلال السنوات الخمس القادمة. وعلى الرغم من أن الخفافيش بالتأكيد ليست المصدر الوحيد للفيروسات الجديدة، فقد تبيَّنَ مرارًا وتكرارًا في الآونة الأخيرة أنها أحدُ أهمِّ المستودعات؛ ومن ثَمَّ فعلينا أن نتأهَّب لظهور وباءٍ محتمَلٍ آخَر يكون مصدره الخفافيش.»

ظهرت المخاوف بشأن انتشار الفيروسات وانتقالها من الخفافيش إلى البشر لأول مرة في أستراليا عام ١٩٩٤ بعدما تسبَّبَ فيروس غامض في وفاة ١٥ فرسًا في هِندرا، وهي إحدى ضواحي مدينة بريزبين، وأُصِيب شخصان بالفيروس من الخيول؛ الأمر الذي يُحتمَل أنه حدَثَ من خلال خدوشٍ تعرَّضَتْ للدم المُلوَّث بالعدوى، وتُوفِّيَ الشخصان في النهاية وكانت وفاتهما مروِّعة إلى حدٍّ ما. من المؤكَّد أنَّ حيوانًا ما قد أصاب الخيولَ بالعدوى، إلا أن الاختبارات التي أُجرِيَتْ على مئات الأنواع من الحيوانات لم تكشف عن شيء.

وسَّعَ الفريقُ نطاقَ بحثه ليشمل الخفافيش حتى يتأكَّدوا من أنهم لم يفوِّتوا شاردةً ولا واردةً في هذا الشأن، فاستطاع هيوم فيلد، وهو طبيب بيطري يعمل حاليًّا لدى منظمة إيكوهيلث آليانس غير الهادفة للربح، على مدى عدَّة سنواتٍ أن يصطاد ما يزيد عن ٥٠٠٠ خفاش ويأخذ عيِّنَاتِ دم منها. ووُجِدَتْ أجسامٌ مضادة لفيروس هِندرا في الخفافيش الكبيرة آكِلة الفاكهة التي تُعرَف باسم الثعالب الطائرة؛ مما جعلها المشتَبَه به الأول في نقل العدوى. وفي عام ٢٠٠٠، عثر فيلد وزملاؤه على الفيروس ذاته لدى بعض الأشخاص؛ مما أكَّدَ على أنَّ هذه الخفافيش هي المستودع الطبيعي لهذا المرض.

يقول فيلد: «كان فيروس هِندرا الفيروسَ الأول في الجيل الجديد من الفيروسات الحيوانية المنشأ الذي يرتبط بالخفافيش.» وسرعان ما اكتُشِفَ العديد من الفيروسات الأخرى في أستراليا، بما في ذلك فيروس قريب الشبه بفيروس داء الكلب يُعرَف الآن باسم الفيروس الكلبي الأسترالي، وتسبَّبَ هذا الفيروسُ في وفاة سيدة عام ١٩٩٦ إثرَ تعرُّضِها لعضة خفَّاش.

لا تزال حالات الإصابة بين البشر بفيروس هِندرا والفيروس الكلبي الأسترالي نادرةً للغاية، إلا أنه في عام ١٩٩٨ أُصِيبَ ٢٢٩ شخصًا في نيباه في ماليزيا بحالةٍ من الحمى والصداع وتورُّمِ الدماغ إثرَ إصابتهم بفيروس آخَر لم يُسمَع عنه من قبلُ، وقد تُوفِّي نصفهم.

اتضح أن فيروسَ نيباه ذو صلةٍ وثيقةٍ بفيروس هِندرا؛ ومن ثمَّ سرعان ما تمَّ إرجاع السبب في تفشِّي هذا الفيروس إلى نوعين من خفافيش الثعالب الطائرة الموجودة في جميع أنحاء جنوب شرق آسيا. يُوجَد فيروس نيباه في لُعاب الخفافيش الحاملة للعدوى؛ لذلك من الممكن أن ينتشر عَبْرَ الفاكهة التي أكلت الخفافيش جزءًا منها.

التفشِّي المُهْلِك

أُصِيبت الخنازيرُ بالعدوى في حادِث تفشِّي فيروس نيباه عام ١٩٩٨، بعدما تناولَتْ فاكهةً أوقعتها الخفافيشُ على الأرض وكانت مغطاةً بلُعَابها، وانتقل الفيروس بعد ذلك إلى البشر. أما في معظم حالات تفشِّي الفيروس التي حدَثَتْ لاحقًا، والتي شملت عادةً عشرات الحالات، كانت العدوى تنتقل إلى الإنسان مباشَرةً من خلال أمرٍ مثل تناوُلِ العصير المستخرَج من نخيل التمر المُلوَّث بلُعَاب الخفافيش. وبالإضافة إلى ذلك، فقد انتشَرَ الفيروسُ في بعض الحالات من المرضى المصابين به إلى الأشخاص الذين يُخالِطونهم عن قُرْبٍ.

لا يزال فيروس نيباه من الفيروسات التي لا يمكن للخفافيش أن تنشرها بسهولةٍ بين البشر، لكن في ظل وجود فيروسات الطيور مثل فيروس الأنفلونزا إتش ١ إن ٥، سيكون مكمن الخوف الحقيقي أن يتحوَّر فيروس الخفافيش المميت للبشر إلى نوعٍ مُهلِك للغاية ينتقل بسهولة من إنسانٍ إلى آخَر، وهو ما حدث في الصين في وقتٍ ما في عام ٢٠٠٢.

ظهرَتْ في شهر نوفمبر من ذلك العام في مقاطعة جوانجدونج في الصين حالاتُ وفيات بين السكان جرَّاء الإصابة بنوعٍ خطيرٍ من الالتهاب الرئوي، وتَصَدَّر تفشِّي هذا الفيروس عناوينَ الصُّحُف الرئيسية في فبراير ٢٠٠٣ عندما أُصِيب رجلُ أعمالٍ أمريكيُّ الجنسية بالفيروس في طريق عودته من الصين. هبطت الطائرة في فيتنام حيث تُوفِّي الرجل في أحد المستشفيات، وتُوفِّيَ أيضًا العديد من أفراد الطاقم الطبي المنوطين بعلاجه، وانتشَرَ المرض الذي سُمِّيَ بمتلازمةِ الالتهاب الرئوي اللانمطي الحاد، أو فيروس سارس، في غضون أسابيع في ما يقرب من ٢٠ دولة.

اضطرت الحكومات إلى اتخاذ إجراءات مشدَّدة؛ حيث عُزِل الأشخاص المصابون بفيروس سارس وجرى تتبُّع جميع المخالِطين لهم، وأُطلِقت حملاتٌ لقياس درجة حرارة الجسم في المدن التي انتشرت فيها العدوى للكشف عن عَرَض الحمى الشديدة المصاحِب لفيروس سارس، إلى جانب إجراء فحصِ الركَّاب قبل إقلاع رحلاتهم الجوية. أنشأت بكين مستشفى يضم ١٠٠٠ سرير في غضون أسبوع، ولحسن الحظ نجحت هذه الإجراءات؛ لأن أعراض فيروس سارس تظهر قبل أن يُصبِحَ الشخصُ المصاب به ناقِلًا للعدوى. ومن ثَمَّ، تَمَّ احتواء انتشار الفيروس بسهولة، ولكن بعد أن كان قد أصاب بالفعل ما يزيد عن ٨٠٠٠ شخص وأودى بحياة ٧٧٥ آخَرين.

فيروس كورونا التاجي هو المُسبِّب لفيروس سارس، لكن فيروسات كورونا البشرية لا تُسبِّب عادةً أي أعراض سوى البرد. في البداية، أُثِيرَتْ شكوكٌ حول احتمال انتقال فيروس سارس إلى البشر عَبْرَ الزَّبَاد الذي يُباع في أسواق جوانجدونج، لكن لم يُعثَر على الفيروس في أيٍّ من حيوانات الزَّبَاد، سواء البرية أو غيرها، منذ عام ٢٠٠٣. وبالإضافة إلى ذلك، وُجِد أنه على الرغم من أن الفيروسات لا تصيب عادةً الأنواعَ العائلةَ لها سوى باعتلالٍ خفيفٍ، اشتدَّتْ حدَّة المرض على نحوٍ بالغٍ في حيواناتِ الزَّبَاد التي عُرِّضَتْ عمدًا للإصابة بفيروس سارس داخل المعامل.

بناءً على ذلك، بدأ لين-فا وانج، اختصاصي الأمراض المُعدِيَة في كلية الطب للدراسات العليا في جامعتَيْ ديوك الأمريكية وجامعة سنغافورة الوطنية في سنغافورة، وعضو الفريق الذي اكتشف مصدر فيروس هِندرا، يشكُّ في أن حيوانات الزَّبَاد كانَتِ العائلَ الوسيط للفيروس. وعثر فريقُه بالفعل عام ٢٠٠٤ على أجسامٍ مضادة لفيروسات كورونا المشابهة لفيروس سارس في ثلاثة أنواع من الخفافيش، ولم تظهر أيضًا أي علاماتٍ للمرض على الخفافيش التي عُرِّضَتْ عمدًا للإصابة بفيروس سارس داخل المعمل.

أشار وانج في بحثٍ أُجرِيَ عام ٢٠٠٥ إلى أن السيناريو المفترَض لإصابة حيوانات الزَّبَاد بفيروس سارس أنَّ عددًا قليلًا منها انتقلَ إليه العدوى عن طريق الخفافيش، ثم اصطِيدَتْ هذه الحيوانات وأُخِذت إلى السوق حيث انتقَلَ الفيروس إلى البشر، وتَحوَّرَ الفيروسُ في لحظةٍ ما أثناءَ عمليةِ انتقالِه على نحوٍ سمَحَ بانتشاره بين البشر. وتأكَّدَتْ في العام الماضي النظريةُ القائلة بأن الخفافيش هي مصدر تفشِّي الفيروس، عندما وجَدَ فريقٌ بحثيٌّ من بينهم وانج فيروساتٍ مطابِقةً تقريبًا لفيروس سارس في الخفافيش الصينية من فصيلة «حدوة الحصان».

في هذا العام ذاته، ارتبَطَ فيروس خطير آخَر بالخفافيش، وهو فيروس إيبولا. يتسبَّب هذا الفيروس في حدوثِ نزيفٍ من جميع فتحات الجسم، وغالبًا ما يُودي بحياة المصاب. سُجِّلَ أول حادث معروف لتفشِّي هذا الفيروس بين البشر في جنوب السودان عام ١٩٧٦. وظلَّت معرفة الحيوان العائل لهذا الفيروس لغزًا محيِّرًا لفترة طويلة، إلا أنه في عام ٢٠٠٥ عُثِر على الحمض النووي الريبي لفيروس إيبولا في ثلاثة أنواع من خفافيش الفاكهة في جمهورية الكونغو والجابون، ومن المثير للقلق أن فيروس إيبولا ربما لا يكون مقتصرًا على أفريقيا الوسطى؛ ففي العام الماضي، أشار فريقٌ بحثيٌّ من بينهم إيان ليبكين — اختصاصي الفيروسات في جامعة كولومبيا — إلى العثور على أجسام مضادة لفيروس إيبولا في خفافيش الفاكهة في بنجلاديش.

وتبيَّنَ أيضًا أن الخفافيش هي مصدر تفشِّي فيروس آخَر وثيق الصلة بفيروس إيبولا؛ وهو فيروس ماربورج الذي هو نوع آخَر من الفيروسات النزفية. فقد عُثِر في عام ٢٠٠٧ ومجدَّدًا في عام ٢٠٠٨ على فيروس ماربورج حيًّا في خفافيش الفاكهة المصرية الرابِضَة في كهف كيتاكا في أوغندا، وهو مكان تفشِّي الفيروس في عام ٢٠٠٧.

يقول تشارلز كاليشر، اختصاصي الفيروسات في جامعة ولاية كولورادو، إن ارتباط تفشِّي فيروس سارس بالخفافيش في عام ٢٠٠٥ كان الاكتشافَ الذي دقَّ ناقوسَ الخطر. ففي ذلك الحين، لم يكن يُعرَف سوى ٦٦ نوعًا من الفيروسات التي تُصِيب الخفافيشَ، وارتفع الآن هذا الرقمُ إلى نحو ١٥٠ نوعًا؛ حيث صارت العديد من المجموعات تعكف على البحث عن الفيروسات التي تنقلها الخفافيش، ومن المؤكَّد وجود المزيد منها في البيئة. واستنتج ليبكين مؤخرًا أن الثدييات تلعب دورَ العائل الوسيط لما يقرب من ٣٠٠ ألف نوع من الفيروسات على الأقل، التي لم يُكتشَف معظمُها بعدُ.

إن ما اكتُشِفَ لا يمكن تأكيده، وخيرُ مثال على ذلك هو فيروسات كورونا. فعلى الرغم من أن الحيوانات بجميع أنواعها تلعب دورَ العائل الوسيط لتلك الفيروسات، يبدو أن الخفافيش على وجه التحديد هي الحيوانات العُرْضة للإصابة بها؛ فقد اكتشفَتْ مؤخرًا كاثرين هولمز من جامعة كولورادو أن ١٠ في المائة من الخفافيش البنية الكبيرة الموجودة في الولاية مصابةٌ بفيروس كورونا-ألفا، وفي الفلبين تبيَّنَ أن ثلث عدد الخفافيش التي أُخضِعَتْ للاختبار مصابةٌ بفيروس كورونا-بيتا، أما في إسبانيا فقد اكتُشِف ١٤ نوعًا مختلفًا من فيروس كورونا في تسعة أنواع من الخفافيش.

إنَّ تنوُّعَ فيروسات كورونا وانتشارها الواسع في الخفافيش يتيح مزيدًا من الفُرَص لتفشِّي هذه الفيروسات بين البشر. تقول هولمز: «يُوجَد الكثير جدًّا من فيروسات كورونا في الأنواع العديدة المختلفة، وتصيب معظم هذه الفيروسات نوعًا واحدًا فقط على نحوٍ تفضيليٍّ، لكنها قد تنتقل مع التحوُّرات العديدة إلى أنواع جديدة من الحيوانات العائلة.»

ومما يثير الخوف أن الفيروس لا يمكنه الانتقال إلى البشر فحسب، بل يكتسب القدرة أيضًا على الانتشار بسهولةٍ بينهم؛ مما يؤدِّي إلى موجةٍ أخرى من التفشِّي الهائل على غرار ما حدث مع فيروس سارس أو أسوأ. ومن حسن الحظ أنَّ هذا الأمر لم يحدث مع فيروس ميرس؛ حيث إنَّ عددَ حالات الإصابة المؤكَّدة حتى الآن أقل من ٢٠٠ حالة، لكن هناك خطورة مع كل حالة جديدة أن يُطوِّر فيروس ميرس قدرتَه على الانتشار بسرعةٍ وسهولةٍ أكبرَ بين البشر.

أجادَ نوعٌ آخَر من الفيروسات — يُحتمَل أن يكون انتقَلَ من الخفافيش إلى البشر — الانتشارَ مُحدِثًا تأثيرًا مدمِّرًا. ففي العام الماضي، أفاد فريق ليبكين أنه من المحتمَل أن تكون الخفافيش هي مصدر فيروس التهاب الكبد الوبائي سي الذي يتسبَّب في إتلاف الكبد والإصابة بالسرطان، ويصيب هذا الفيروس نحو ٣ في المائة من سكان العالم، وقد وُصِف هذا الفيروس بالطاعون الصامت؛ إذ إن الكثير من الأشخاص لا يُدرِكون إصابتهم به إلا عندما تظهر عليهم أعراض خطيرة.

إذن، ما الذي يؤهِّل الخفافيش لأن تكون حامِلًا جيدًا للفيروس؟ وهل من المحتمَل أن تلعب الخفافيش، على وجه الخصوص، دورَ العائلِ الوسيط للفيروسات التي يمكن أن تصيب الإنسان بأمراض خطيرة؟ يعتقد كاليشر وفيلد وهولمز أن الخفافيش يمكنها أن تلعب هذا الدور.

أحد الأسباب التي تؤهِّل الخفافيش لأن تكون حاملًا جيدًا للفيروس أنها تستطيع الطيران؛ ومن ثَمَّ تنقل الفيروسات لمسافات طويلة، كما أنها تميل إلى أن تحطَّ معًا في أعدادٍ هائلةٍ وعلى مقربةٍ من بعضها البعض؛ ومن ثَمَّ تزداد احتمالية انتقالِ العدوى من الخفافيش المصابَة إلى الخفافيش الأخرى. مما لا شك فيه أن الطيور تُشبِه الخفافيش في هذا الجانب؛ حيث تنقل الطيورُ الكثيرَ من أنواع الأنفلونزا في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك فيروس إتش ١ إن ٥ الذي يمكن أن يودي بحياة المصاب. ولكن، قد يكون من الأسهل انتقال العدوى إلينا من الفيروسات التي تحملها الخفافيش؛ لأن الخفافيش أقرب صلةً بنا من الطيور.

بالإضافة إلى ذلك، تدخل الخفافيش في مرحلةٍ تُعرَف بالبيات الشتوي؛ حيث تنخفض درجة حرارة أجسامها. وتحدث هذه الحالة في الليالي الباردة وخلال فصل الشتاء. بطبيعة الحال، تتخلَّص الحيوانات المصابة بالعدوى سريعًا من الفيروسات الموجودة في أجسامها، لكن الخفافيش ببرودةِ أجسامِها قد تعمل مثل الثلاجات؛ مما يسمح للفيروسات بالبقاء على قيد الحياة لفترةٍ أطول، حتى على مدار شتاءٍ كامل.

أشارت أيضًا دراسةٌ أجراها فريقٌ بحثيٌّ، من بينهم وانج، عام ٢٠١٢ إلى أن الخفافيش على وجه الخصوص لديها أجهزة مناعة جيدة؛ مما يجعلها أكثر قدرةً على حمل الفيروسات دون الاستسلام للموت أو الشعور بالتعب لدرجةٍ تجعلها غير قادرة على الطيران، فالطيران يستهلك كثيرًا من الطاقة ويولِّد العديد من الشوارد الحرَّة المدمِّرة للحمض النووي. من ثَمَّ كان على الخفافيش على مدى مراحل تطوُّرها أن تزيد وسائل دفاعها ضد هذه المواد الكيميائية المدمِّرة. وتشير الدراساتُ الجينيةُ إلى أن هذا الأمر كان له أثر جانبي تمثَّلَ في تحفيزِ قدرةِ جهازها المناعي على احتضان الفيروسات.

مع ذلك، يقول ليبكين إنه حتى لو كانت الخفافيش تُجِيد على وجه الخصوص احتضانَ الفيروسات ونَشْرَها، فإن إلقاء اللوم عليها يجعلنا نَحِيد عن الجانب المهم في هذا الصدد؛ إذ تلزم لظهور مرضٍ مُعْدٍ مجموعةٌ كاملةٌ من العوامل، ولا تمثِّل أنواع الحيوانات التي تشكِّل مصدرَ الفيروس سوى عامل واحد منها. وتلعب العوامل البشرية دورًا رئيسيًّا في سبب انتقال هذه الأمراض من الخفافيش إلى الإنسان. ومن هذه العوامل: إزالةُ الغابات، وتجزئةُ المَوَاطِن الطبيعية، والتغيُّرُ المناخي، والزحفُ العمراني، والسفرُ الدولي. يقول ليبكين: «أصبح عالمنا قريةً صغيرةً، وأصبحنا ندخل في مجالات لم نكن نعرف بها من قبلُ.»

أحد الأمثلة على ذلك هو تفشِّي فيروس نيباه للمرة الأولى؛ فقد تسبَّبَتْ إزالةُ الغابات والجفافُ معًا في إحداث أزمة للخفافيش في عام ١٩٩٨. لذلك، اتجهَتِ الحيوانات في بحثها عن الطعام إلى البساتين المزروعة حديثًا التي حلَّتْ محلَّ مَوْطِنها الطبيعي في الغابات المطيرة، وتغَذَّتِ الخنازيرُ التي ظلَّتْ في مكانٍ قريبٍ من مَوطِنها على بقايا طعام الخفافيش؛ مما أدَّى إلى انتقال الفيروس إلى الإنسان. يقول فيلد: «تعرَّضَتِ البيئة الطبيعية التي اعتادَتِ الثعالبُ الطائرة البحثَ عن طعامٍ فيها للتقسيم والتجزئة، بالإضافة إلى أماكن الموارد الغذائية المتناثِرة في جميع أنحاء الريف، التي تكون قريبةً من البشر في أغلب الأحيان.»

لذا، فإن البشر هم مَن يجب حقًّا أن يتحمَّلوا اللومَ في ذلك. لكن بما أن فقدان المَوْطِن الطبيعي والتغيُّر المناخي مستمران، هل يتعيَّن علينا قَتْلُ الخفافيش قبل أن تفتك بنا أمراضُها؟ قبل أن تجيب عن هذا السؤال، تخيَّلْ أن عائلتك تواجِه هذا الخطر. في أستراليا العام الماضي، بعدما تُوفِّيَ الطفل لينكولن بوشيه البالغ من العمر ٨ أعوام إثرَ إصابته بعدوى الفيروس الكلبي الأسترالي جرَّاء تعرُّضه للخدش من خفَّاش، نادَى العديدُ من الأشخاص بالقتل الوقائي للخفافيش؛ الأمر الذي أثَارَ غضبَ أنصارِ الحفاظِ على البيئة. تقول لويز سوندرز من مؤسسة الحفاظ على الخفافيش وإنقاذها، وهي مؤسسة خيرية محلية في ولاية كوينزلاند: «إنه ردُّ فعلٍ طائشٍ غير مدروس، ولا يبدو أن الساسة ينصتون إلى النصيحة العلمية التي تقول بأن هذا التصرُّف لا يجدي نفعًا.»

مما لا شك فيه أن فكرة القتل الوقائي للخفافيش لم تنجح في أمريكا الجنوبية؛ حيث كانت عملية تسميم الخفافيش المصاصة للدماء تُجرَى على نطاق واسع منذ سبعينيات القرن العشرين لمنع تفشِّي داء الكلب؛ فوفقًا لدراسة أجرتها سونيا ألتيزر، وهي عالِمة بيئة في جامعة جورجيا في الولايات المتحدة، على مدى ثلاث سنوات على ٢٠ مستعمَرَةً من مستعمرات الخفافيش في بيرو، فإن قتل الخفافيش لم يزد الأمرَ إلا سوءًا.

إن المشكلةَ هي أنَّ قَتْلَ كلِّ فردٍ من أفراد الخفافيش أمرٌ مستحيلٌ تقريبًا، وسرعان ما ستعاوِد أعدادُ الخفافيش الارتفاعَ مع قلة التنافُس على الغذاء. وعلاوةً على ذلك، فقد يعمل قتلُ الخفافيشِ على تفشِّي داء الكلب بمعدلاتٍ أكبر من خلال زيادة التنقُّل بين المستعمرات، وبطبيعة الحال ستحتوي تلك العشائر المتزايدة في العدد على نسبةٍ أعلى من صِغَار الخفافيش المفتقِرة إلى المناعة؛ لذا تقول ألتيزر: «ربما يتعيَّن عليك القضاءُ على الأخضر واليابس، وإبادةُ كلِّ شيء تقريبًا لكي يكون قتلُ الخفافيش فعَّالًا مؤثِّرًا.»

بما أنَّ الخفافيش تمثِّل نحو رُبْع إجمالي عدد أنواع الثدييات الموجودة، فإن لديها أيضًا قيمةً هائلةً من منظور التنوُّع البيولوجي. وعلى الرغم من أنَّ الخفافيش المصاصة للدماء لا تلقى استحسانًا لدى الكثيرين، فإن أقرباءها من الخفافيش الآكِلة للحشرات تساعِدنا على نحوٍ مباشِرٍ من خلال التهام المليارات من الحشرات. قدَّرَتْ دراسةٌ أُجرِيَتْ عام ٢٠١١ أن القضاء على الخفافيش في الولايات المتحدة سيكلِّف المزارِعين ما بين ٤ مليارات و٥٠ مليار دولار أمريكي سنويًّا.

يُوجَد العديد من الأمور الأخرى التي يمكن القيامُ بها في هذا الصدد إلى جانب القتل الوقائي. الحذر أمر ضروري، بدءًا من مراقبة الأمراض الناشئة مثل فيروس ميرس إلى معرفة الفيروسات التي تتوارَى في أجسام الخفافيش قبل أن تصيب البشر، ويجري الآن بالفعل تطويرُ لقاحات ضد العديد من الفيروسات، بدءًا من فيروس إيبولا إلى فيروس نيباه، كما تُلقَّح الخيولُ حاليًّا في أستراليا ضد فيروس هِندرا.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تحذيرَ الأشخاص من المخاطِر الناجمة عن الخفافيش قد يُحدِث أيضًا فَرْقًا. فممَّا زاد من مأساوية حادث وفاة لينكولن بوشيه أنه لم يكن يعرف مطلقًا ضرورة أن يخبر والدَيْه أنه تعرَّضَ للخَدْش من خفَّاش، ولم يكتشف والداه الأمرَ إلا بعد مرور شهرين على الحادث، بعد أن كان المرض قد اشتدَّ عليه بالفعل، وربما كان من الممكن إنقاذُ حياته إذا عَلِم والداه بالأمر قبل ذلك.

15 Dec, 2015 01:32:00 PM
0

لمشاركة الخبر