Skip to main content
نزار آغري يبحث عن ربيع كردي في «شارع سالم»

في روايته «شارع سالم» (هاشيت- أنطوان، نوفل)، يقوم الروائي والمعرّب السوري الكردي نزار آغري بتفكيك آليّات ممارسة السلطة في كردستان العراق، من خلال الأكراد أنفسهم، بعد سقوط النظام العراقي البعثي، إثر الاحتلال الأميركي للعراق، في العام 2003. وهو يفعل ذلك عبر رصد التحوّلات في مدينة السليمانية والشارع الطويل الذي يخترقها المسمّى بـ «شارع سالم». هي تحوّلات سلبية، في معظمها، تطاول المدينة ومرافقها، والسكّان وأنماط عيشهم، والسلطة الكردية الطارئة التي تتقمّص السلطة البعثية الراحلة في ممارساتها الاستبدادية وآليّات اشتغالها، وتتفوّق عليها أحيانًا...، لذلك، كثيرًا ما تتمخّض المقارنات الكثيرة التي ينخرط فيها الكاتب عن تفضيل الأولى، على استبدادها، على الثانية الغارقة في الفساد والاستبداد. وكأنه كُتِبَ على الكرد أن يهربوا من تحت «دلفة» البعث إلى تحت مزراب «البيشمركة».


«شارع سالم» روايتان اثنتان في واحدة؛ رواية الواقع، ورواية الحلم. والعلاقة بين الروايتين هي في الواقع علاقات تعاقب في الشكل، وتوازٍ وتقاطع وتصادٍ وتكامل في المضمون. والروايتان كلتاهما تضيء ممارسات السلطة الكردية الحاكمة المتمظهرة في: الاستبداد، والفساد، والقمع، وكمّ الأفواه، وتصفية المعارضين، والإثراء غير المشروع، وتبديد الثروات على الحاشية والأتباع، والسيطرة على مقدّرات البلاد، والفجوة الكبيرة بين القلّة الغنية والغالبية الفقيرة، والحكم الفاسد، وصرف النفوذ، وعطالة البطانة المحيطة بالأسرة الحاكمة، وغيرها.

تمتد رواية الواقع على مدى تسعٍ وخمسين وحدة سردية، لكلٍّ منها استقلاليّتها النسبية، تتعاقب من دون ترابط مباشر بين وحدة وأخرى إلا في إضاءة واقع الحال، وفضح ممارسات السلطة، على شكل وقائع جزئية، مستقلّة، ومستلّة من سياق عام. غير أن سلكًا خفيًّا ينتظمها، وشهادة الراوي عليها أو انخراطه فيها تجعلها تتكامل في المناخ نفسه. وتمتد رواية الحلم على مدى أربعٍ وعشرين وحدة سردية، تتخلّل الوحدات الواقعية، وهذه الوحدات تحمل العنوان نفسه مع فارق الترقيم، فنحن إزاء أربعةٍ وعشرين حلمًا مختلفًا، يتمحور معظمها حول الراوي نفسه، ويروي بعضها الراوي العليم، وهي تتعالق مع الوحدات الأخرى الواقعية أفقيًّا في إطار جدلية الواقع / الحلم، وتشكّل خلفيات لها، وتتعالق فيما بينها عموديًّا لتشكّل رواية ضمن الرواية. وكأن الكاتب أراد من هذه البنية الروائية المركّبة أن يدخلنا في لعبة مرايا يتبادل فيها الحلم والواقع الأدوار والمواقع. على أن الأحلام في «شارع سالم» لا علاقة لها بالأحلام، بالمعنيين المعجمي والاصطلاحي، بل هي مجموعة من الكوابيس تتكامل مع كوابيس اليقظة في إضاءة الواقع السلطوي المتردّي في كردستان العراق.

في بداية الرواية، نرى الأسرة الحاكمة تقبض على أزمّة الأمور، وتفلح في بناء فردوسها الأرضي وإقامة عرس أسطوري لسوباد الابن الأكبر للرئيس الذي يقيم مع أخيه في شقة فخمة في لندن. في نهايتها، يتمّ رشقه مع زوجته بالحجارة وإحراق طائرتهما وإجبارهما على مغادرة كردستان. وبين البداية والنهاية، يتمّ رصد المسارات التي أدّت إلى هذا المصير، على لسان بيكاس هردي، الصحافي الذي يُسند إلية الكاتب فعل الروي، فيروي ما عاينه وشارك فيه واختبره راويًا شريكًا. وبنتيجة الروي، تتوزّع الشخصيات الروائية على: شخصيات مقموعة، وأخرى قامعة. على أنّ أنواع القمع المرصودة في الرواية تتراوح بين: التهديد، والوعيد، والأسر، والقتل، والتنكيل، ومصادرة الحرية، والإخفاء، وغيرها...، ممّا دأبت السلطات الاستبدادية في هذا العالم الثالث على ممارسته، من دون حسيب أو رقيب، حيث يتعدّد المقموعون فيما القامع واحد، السلطة وأدواتها.

الشخصيات المقموعة في الرواية تتوزّع على فئاتٍ ثلاث؛ فئة الصحافيين المعارضين للسلطة وفسادها، وشخصيات هذه الفئة على شيء من الجرأة والمبدئية والمثالية والتمرّد، ما يجعلها تصطدم بجدار السلطة وتدفع أثمانًا غالية؛ فبيكاس هردي، ابن شهيد، ورئيس تحرير مجلّة أسبوعية، يعبّر عن هواجس الناس، ويعرّي أدوات الفساد، ويرفض كلّ محاولات التدجين والإغراءات التي قُدّمت له ليصمت، فيتعرّض للتهديد بالقتل وإقفال مجلّته بالشمع الأحمر، ويخسر بعض زملائه المقرّبين. وليلى، ابنة شهيد، ومذيعة وصحافية تسعى الى نبش وقائع الفساد وكشف المستور والتصدّي للظلم، وتضرب بالتحذيرات التي تلقّتها عُرض الحائط، فيتمّ قتلها. وجليل بيوار صحافي يُقتل بسبب مقالاته ضدّ الرئيس. وكاوه كرمياني رئيس تحرير مجلّة شهرية يلقى المصير نفسه لكشفه مكامن الفساد السياسي. يصحّ في هؤلاء قول الراوي: «أن تكون صحافيًّا في هذه المدينة يعني أنك مشروع قتيل» (ص 307).

الفئة الثانية المقموعة هي فئة مصابي الحرب الذين يحملون آثارها على أجسادهم، تتخلّى عنهم السلطة، وتنسى تضحياتهم، فيتحوّلون إلى متسوّلين على أبواب الجوامع، ومنهم سركلو الذي بُترت ساقه خلال القتال إلى جانب البيشمركة، وقادر الذي لم تشفع له تضحياته وكهولته فتحوّل بدوره إلى متسوّل، وسواهما... على أن بعض شخصيات هذه الفئة لم يتخلَّ عن ممارسة حقّه في الانتقاد والبوح بما يعرفه من أسرار.

أمّا الفئة الثالثة من الشخصيات المقموعة فهي من النساء اللواتي وقعن ضحية القمع الاجتماعي الذكوري، من جهة، والقمع السياسي السلطوي، من جهة ثانية، ما أدّى بهنّ إلى مصائر قاتمة؛ فساجدة يدفع بها الاستبداد والعوز إلى امتهان الدعارة. ووردة التي يُكرهها أهلها على الزواج من ابن عمٍّ لا تحبّه، تفرّ منه لتقع بين براثن سرمدون أحد الأثرياء المقرّبين من الرئيس، فيستولي عليها، ويعصرها، ويرميها، لتتحوّل إلى نادلة في بار، وقد غيّرت اسمها خوفًا من الأهل، وهكذا، يصادر القمع الاجتماعي والسياسي حريتها وجسدها وهويّتها. ووجيهة زوجة مسؤول حزبي كبير يطلّقها ويجني عليها حتى إذا ما شُوهدت مع رجل في أحد البارات تُقتل غسلاً للعار، وهكذا، تُعاقب الضحية وينجو الجاني بفعلته، على أنّ شخصيات هذه الفئة هي الأكثر مغلوبية على أمرها بين الفئات الثلاث المقموعة.

الشخصيات القامعة المستأثرة بالحكم في الرواية تتوزّع بدورها على: أقرباء الرئيس من الأبناء والزوجة وشقيقتها، ممّن يحتكرون السلطة ويستأثرون بالثروة، وأعوانه ممّن يجمعون المال بأساليب مشبوهة، ويبرمون الصفقات، ويملكون المرافق السياحية كسرمدون الفاسد، عبد الشهوة والمال، والمسؤولين في السلطة كبهزاد دوغياني مسؤول الإعلام الفاسد الذي يمارس الكذب والنفاق والاحتيال والادعاء والسرقة والابتزاز والرذيلة، ويجسّد الخسّة على أفضل وجه، ولا يتورّع عن القتل وتصفية المعارضين، وجوهر مسؤول الإعلام الجماهيري الفاسد بدوره، وسوسرت نبي نائب القائد، وعلى رأس هؤلاء جميعًا هذا الأخير، القائد، الذي يجمع المتناقضات في شخصه، ويُشكّل صورة عن الرئيس البعثي السابق. على أنّه لا بدّ من الإشارة إلى أن بعض القامعين تحوّلوا إلى مقموعين، وبعض المقموعين تحوّلوا إلى قامعين، بفعل الظروف التي مرّوا بها.

إن الصراع بين القامعين والمقموعين في الرواية ينجلي في النهاية لمصلحة الأخيرين. وبذلك، تسير الرواية على إيقاع التاريخ الذي يفيد أن الظالم إلى زوال، والنصر في نهاية المطاف للمظلوم، ولو طال الزمن. من هنا، تشكّل الانتفاضة التي اندلعت في السليمانية، ذات يوم، من دون سابق إنذار، نقطة تحوّل في مسار الأحداث، تنضمّ فيها البيشمركة إلى الشعب، فينتصر على ظالميه، ويتحرّر من طغيانهم. ويتمظهر ذلك في الرواية من خلال الوقائع الآتية:

مقتل بهزاد على يد سوسرت انتقامًا لابنه شبال الذي شكّل قتله شرارة الثورة، موت جوهر اختناقًا تحت أقدام المتظاهرين، طرد ابن الرئيس سوباد وزوجته خارج كردستان، إصابة الرئيس بالجلطة الدماغية...، وهكذا، تنتهي الحكاية باندثار الظالمين، وبقاء المظلومين ليبدأوا من جديد. يقول الراوي: «هذه نهاية الحكاية ولكنها البداية أيضًا» (ص 320). ولعلّ الواقعة الروائية التي تشكّل مؤشّرًا إلى هذه البداية هي قيام بيكاس بزيارة قبر ليلى ووضع الأزهار عليه للمرة الأولى.

في «شارع سالم»، يرصد نزار آغري مراحل أربع مرّت بها السليمانية في تاريخها الحديث، هي: ازدهارها في ظل النظام البعثي رغم استبداده، القمع في ظل النظام الكردي المستجد، الانتفاضة على النظام وأدواته، والتحرّر من ربقته. وبذلك، تصدّر عن منظور روائي متفائل لحركة التاريخ، وتبشّر بانتصار الربيع مهما طال الشتاء.

وهو استطاع، بالحكاية، والخطاب، والبنية المركبة، والتقنيات السردية، واللغة الجميلة، والتشابيه الطريفة الجديدة، أن يقدّم رواية جميلة تمتع قراءتها وتفيد.

26 Apr, 2018 01:21:57 PM
0

لمشاركة الخبر