Skip to main content
علا عليوات تحفر في الوعي الشعبي في رواية "رصد"

عمّان-

لعل موضوع البحث عن الكنوز المدفونة أخذ حيزا كبيرا في الأعمال الدرامية والأدبية خلال العقود الأخيرة، وما رافق تلك الظاهرة من عمليات شعوذة ونصب واحتيال، واختلاط الحقائق بالخرافة، ووصولها حد الأسطرة، ومع ذلك فقط شغلت الظاهرة الرأي العام كثيرا، وانخرطت فيها أعداد كبيرة من الناس من مختلف المستويات الاجتماعية، وبدوافع متنوعة، سواء أكان ذلك بدافع البحث عن الثراء السريع، أو  الخروج من الأزمات الاقتصادية التي يمر بها الأفراد، مثل البطالة أو الإفلاس.. الخ.

الكاتبة الشابة علا عليوات خاضت غمار هذا الموضوع، في روايتها" رصد" الصادرة مؤخرا عن الآن ناشرون وموزعون،  مدفوعة بالرغبة بالحفر في الأبعاد النفسية لهذه الظاهرة، إلى جانب الأبعاد الأخرى العقائدية، والمعرفية، والاجتماعية. فالشاب يوسف، الرقيق، المهتم بجمع الحشرات ودراستها، الذي يلجأ للالتحاق بمجموعة من صائدي الكنوز، يضطر إلى ذلك تحت وطأة البطالة التي يعاني منها، وهو يحلم، كما بقية البشر، بلحظة حب تلقي فيها حبيبته برأسها على كتفه. الأشخاص الذين يرتبط بهم يوسف لا يجمعهم شيء، كل منهم له هدف:" ما الذي قد يجمع هذا الأستاذ بنظارته السميكة وشاربيه المقوسين ولحيته الكثة- التي تبدو وليدة الإهمال واللامبالاة أكثر منها محاولة لإثبات موقف- بذلك الشيخ ذي اللحية القصيرة المشذبة والدشداشة والعمامة الصوفية".

 "نظر إلى عناد إلى جانبه وسأل نفسه عمّا جمعه به هو أيضًا. منذ الطفولة وهما يسكنان في منزلين متجاورين ويرتادان المدرسة نفسها، لكنّه لطالما شعر بنفور من فجاجته وبلاهته بلغ حد الاشمئزاز، فلم يتصوّر يومًا أن يبلغ به اليأس أن يذهب إليه بقدميه ويطلب منه إشراكه فيما يفعله، أيًا كان ذلك".

تسير الرواية في خطين متوازيين: رواية إليانا الرومانية، التي تخفي كنزا في الصخر إلى جوار قبر أبيها، هو كل ما ورثته الفتاة من أبيها المتوفى، وحرصا منها أن لا يسلبه أحد، وبالأخص كاسيوس الذي كان يتقرب منها طمعا بالمال. أوردت الكاتبة هذه القصة حتى توحي بأن فكرة الكنوز المدفونة والعلامات فوقها التي تسمى رصدا، إن هي إلا حقيقة، لكن في المقابل، نجد القصة الأخرى الموازية ليوسف ومجموعته لا تملك سوى أن تبحث عن تلك الكنوز الضائعة بوسائل غير واقعية، فتؤول النتيجة إلى فشل متكرر، فيوسف الذي يفشل في المحاولة الأولى، ويكتشف حقيقة خزعبلات البحث عن الكنوز، ويقرر التوقف عن ذلك، لكنه يعود لهذا العمل بعد سنوات تحت ضغط الحاجة، ليفشل من جديد.

ورغم أن الكاتبة لا تشير بشكل مباشر إلى فشل المحاولات، وتترك النهاية خارج  مساحة الجزم، مفتوحة على التأويل، إلا أن نتائج سلوك يوسف وفعله يقودانه إلى الفشل، فشل بالعثور على الكنز، والخرج من أزمته. ويبقى السؤال: لماذ كرّر ، إذاً، يوسف ذات العمل رغم قناعته بفشله، وتهافته؟

الرواية التي جاءت قصيرة، فهي بحدود 115 صفحة من القطع المتوسط، ضمت كما أسلفنا قصتين سارتا بشكل متواز، جاءت فصولهما قصيرة، متلاحقة، متوترة، توتر الحدث نفسه، فمشاهد البحث عن الكنز ليلا، وفي أماكن موحشة، لا شك أنه لا يترك من يقوم بذلك العمل في حالة من الترقب، والخوف، بل وينقل ذلك الترقب والتوتر والخوف إلى وجدان القارئ. وهذا إنجاز استطاعت الكاتبة أن تحققه بتميّز، إذ أبقت أنفاس القارئ متلاحقة حتى نهاية الرواية.

وقد كانت الكاتبة مقتصدة باللغة، والأحداث، ويبدو أن لديها خبرات سابقة بكتابة القصة القصيرة انعكست على أسلوب كتابة هذه الرواية.

 ومن الرواية نقرأ:" شعرت بقدمها تتشنج تحت ثقل جسدها المشدود إلى الأعلى، محاولة التوازن فوق الصخرة التي وقفت عليها، بينما راحت تُعمل إزمليها في الصخر بطَرقات حذرة تتحاشى أسماع المشيّعين المتجمهرين في الخارج.

تحت هذا السقف يرقد أبوها، وعلى الأرض تجثو أمها تحفر قبرًا آخر بلا شاهد لتتركا فيه كل ما تملكان، كل ما تركه لهما.

«إلى حين فقط». قالت لنفسها ورجع طرقات الإزميل يتردد في معدتها المنقبضة.

تمايلت شعلات الشموع الموضوعة على الأرض مؤذنة بقرب انطفائها، وجاء صوت أوغستينا من الأسفل. «إليانا، إن تأخرنا أكثر فسيشكِّون في الأمر».

ارتجفت يدها فيما أصبحت ضربات الإزميل أسرع وأقل حذرًا. 

  • بقي القليل فقط.

نظرت تحت موضع قدميها، كانت الحفرة عميقة بما يكفي. كل شيء جاهز، بضع ضربات بمطرقتها الحديدية وينتهي الأمر. حبست أوغستينا أنفاسها مترقبة أي أصوات قد تقترب نحوهما.

سقط الإزميل مع آخر ضربة، لم يكن هناك وقت للبحث عنه في عتمة الكهف. رفعت إليانا الشمعة عن الأرض فأضاءت وجهها، ثم ألقت بنورها على النقش المنتهي.

  • ها هي. هذه علامتنا."

ونقرأ أيضاً، هذا المقطع:" - «أترى ذلك الضوء في البعيد؟ قل له وداعًا. هذا آخر ضوء ستراه الليلة».

شعر يوسف بثقل في صدره بينما راحت السيارة تشق طريقها عبر الأراضي الجرداء المترامية في أفق لا نهائي من العتمة. لا صوت سوى أنفاس الرجال الثلاثة الآخرين في السيارة، وضجيج محركها الثمانيني المنهك، الذي  يكاد لا يطغى على النزاع المتأجج في نفسه: «لا تتوقع شيئًا. توقع كل شيء».

حاول ألّا يفكر فيما ينتظره آخر هذا الطريق الملبّد بالظلام والشك. ركّز أفكاره على ما أوصله إلى هنا؛ كيف انتهى به الأمر في سيارة مع رجلين غريبين، وآخر كلّما عرفه أكثر ازداد منه نفورًا، بعد منتصف الليل، في الطريق إلى مكان لا يعرفه ولم يجرؤ أن يسأل عنه. فك زر ياقة قميصه واستنشق الهواء المشبع بالدخان والتوتر المحتقن بين الرجلين الغريبين كغشاوة من ضباب، حتى لكأنّ أحدهما يسوق الآخر إلى حتفه.

صوت عناد بجانبه يزعجه، يضرب على أوتار أعصابه المشدودة، كأنه كلما همس له بشيء يذكره بفشله. ها هو ذا، بعد أربع سنوات من الدراسة وعامين من البحث عن عمل والتنقل بين وظائف مؤقتة هزيلة، يسير على خطى عناد البغل - كما تدعوه أمه- بل إنه هو من سعى إليه بنفسه، ملتمسًا السلوك في طريقه.

انتابته رغبة مألوفة في أن يستدعي ليلى إلى جانبه. رأسها مرتخية فوق كتفه، شعرها يلفه كوشاح حريري، واطمئنانها يخبره بأنه ليس عديم القيمة تماماً. لكن لا سبيل إلى ليلى و«البغل» يشاركه المقعد الخلفي الضيق للسيارة. يكاد يشعر بحرارة جسمها ويتنفس رائحة شعرها كأنها إلى جانبه، ولو كانت داخل رأسه فقط.

 يذكر أن علا عليوات كاتبة أردنية من مواليد مدينة عمّان سنة 1984. تخرجت من الجامعة الأردنية تخصص لغات، متخصصة باللغتين الإسبانية والإنجليزية عام 2006، وتعمل منذ تخرجها في مجال الترجمة. بدأت تنشر القصص القصيرة والمقالات على مدونتها في عام 2005. صدرت لها رواية بعنوان "قبل السفر" عام 2012، ومجموعة قصصية باللغة الإنجليزية بعنوان" Small Lives  " سنة 2013، على شكل كتاب إلكتروني. شاركت في عدد من المؤتمرات وورشات العمل للمدونين. 

06 May, 2018 03:14:23 PM
0

لمشاركة الخبر