Skip to main content
شريف شعبان يعزف على أوتار التاريخ

لا تعتمد رواية شريف شعبان «3 نبوءات سوداء» (الدار المصرية اللبنانية) على التاريخ فقط في سير أحداثها. فتاريخها غالباً ما يمتزج بالجغرافيا بأقسامها كافة، من سياسية، واقتصادية، وبشرية، وحيوية، ولغوية، وعسكرية، وتاريخية تهتم بالأجناس واللغات وحدود الممالك والبلدان، كما أنها لا تغفل الاقتصاد ودوره في نهضة الشعوب، وعلم الاجتماع في أسباب قيام الحضارات وانهيارها.


تدور أحداث الرواية في فترة زمنية طويلة جداً، وفي أماكن وبلدان مختلفة، بين الماضي والحاضر فتبدأ، منذ عام 1968، حيث سيناء المصرية تحت قبضة العدو الصهيوني، ثم تنقل إلى عام 1981، حيث مدينة تل الربيع التي باتت تعرف باسم «تل أبيب»، ثم عام 1992، حيث مدينة القاهرة التي تتغنى بعودة 1800 قطعة أثرية، كانت إسرائيل استولت عليها خلال احتلالها سيناء، ثم تنتقل إلى كانون الأول (ديسمبر) 2010 في القاهرة. ثم تعود بالتاريخ إلى ما قبل الميلاد، حيث العام السابع من حكم الملك صدقيا آخر ملوك اليهود في أورشليم، والسنة الرابعة من حكم نبوخذ نصر؛ ملك بابل، ووقوفه على أسوار القدس في ما يقدر بعام 597 ق.م، ثمّ العودة بالزمن إلى العام 2011 في القاهرة، ثمّ الذهاب بالزمن لرصد سقوط بابل على يد الفرس 539 ق.م، ثم رجوع بالتاريخ إلى عام 2013 حيث لندن، ليتلو ذلك ذهاب يرصد استيلاء قمبيز الثاني ملك الأخمينيين الفُرس ابن الشاه الإيراني قورش، على مصر سنة 525 ق.م.

وتنتهي الرواية بمشهد يرجح أن زمنه هو العام 2013، ولكن هذه المرة في مدينة أسيوط. لذا اعتمدت الرواية التي جاءت في 424 صفحة في كثير من الأجزاء منها على السرد السريع الذي يلخص أحداثًا كبيرة في سطر أو سطرين، والإتيان بالمشكلة وحلها في الصفحة نفسها. هذا السرد السريع أسهم في إضفاء الرشاقة على الرواية؛ على كثرة أحداثها وشخصياتها. تدور الرواية في ماضيها وحاضرها حول أسطورة النبي إرميا، الذي تنبأ بسقوط أورشليم وخرابها وتدمير هيكل سليمان، فدعاهم للخضوع والإذعان لنبوخذ نصر فكذبوه واضطهدوه، وتنبأ بسقوط بابل، ومصر على يد الفرس، تلك النبوءات التي كتبها، تلميذه باروخبننريا، في مخطوطات عثر عليها الصهاينة عند احتلالهم لسيناء، ثم عادت إلى مصر، فما زالت نبوءات إرميا النبي تتحقق، لتحذر الإنسانية من المصير المقبل، وما زالت تتحقق يومًا بعد يوم، وهناك من يريد طمس هذه النبوءات، وأن يستحوذ على المخطوطات، كي يطمسوا حقيقتها ويتلاعبوا بمضمونها بما يخدم مصالحهم، يرون في نبوءات إرميا تهديداً لمطامعهم إذا وصلت للناس وفهموا مضمونها، فمن يعرف الماضي يملك الحاضر والمستقبل.

والرابط بين إرميا والعالم الحاضر، «هند محفوظ»؛ أمينة قسم المخطوطات التي ترى في الحلم ارميا في شكل متكرر، وهو يصرخ، لأن هناك ما يهدد الصندوق الذي يحوي نبوءاته التي كتبها تلميذه «باروخ»، فهذه المخطوطات يجب أن تظل في يد من يقدرها، ويفك شفراتها، وهند هي التي وقع عليها الاختيار بعد أن نكتشف في سياق درامي أن هند محفوظ هي حفيدة «باروخ»، ولها أصول يهودية، لذا اختارها ارميا لتحمل رسالته، وتفك لغز نبوءاته. وكل نبوءة من النبوءات تتكون من عدة أسفار ليست مما يمليه إرميا على «باروخ» فقط وإنما يضيف عليها «باروخ» خادمه وكاتب أسراره.

وتقدم النبوءة الأولى اللحظات الأخيرة لسقوط أوراشليم، كاشفًا فيها عن القصة التاريخية لهدم الهيكل والسبي البابلي لليهود، ومقدماً جغرافيا تاريخية وسياسية وبشرية لهذه الفترة، بما شهدته من تحقق نبوءة إرميا الأولى، وفي النبوءة الثانية التي ترصد من الداخل ومن الخارج ضعف بابل وقوة بلاد الفرس، وأسباب ذلك وعادات وتقاليد هذه الزمان، وخصال اليهود، ومساعدتهم للفرس في هدم أسوار بابل، ورفضهم بعد ذلك العودة إلى أوراشليم التي تباكوا عليها لأنها أصبحت خراباً ولا يستطيعون العيش فيها؛ فبابل هي عاصمة الدنيا وفيها المال والثراء والمجد. سيظلون فيها من أجل السيطرة على حركة التجارة العالمية، كل ذلك في أربع لوحات أو أسفار كما يسميها الكاتب. ثم تأتي النبوءة الأخيرة وهي أطول النبوءات ترصد واقع مصر قبل الغزو الفارسي، وأبدع فيها شعبان حين صوّر تلك الحقبة بدقة، كاشفًا ملامح تلك الفترة من تاريخ مصر، مستعينًا في هذه النبوءة والرواية ككل، بتخصصه الأكاديمي. فالمؤلف حاصل على درجة دكتوراه الفلسفة من كلية الآثار جامعة القاهرة، ومحاضر بها، وخبير في الآثار المصرية ويعمل كمؤرخ فني، كما أن عين القارئ لا يمكن أن تغفل عن الإسقاطات على الحاضر والتي تصبح أكثر وضوحًا في النبوءة الأخيرة.

ومن ذلك على سبيل المثل، في وصفه لحال مصر في الثالث والثلاثين من حكم الفرعون بداية السفر الثالث الخاص به، يوحي إليك أنه يصف مصر في عهدها الحالي (الأرض هي الأرض نفسها... ولكنها لم تكن مصر التي عرفها أهلها... رائحة طمي النيل تغيرت... بل أصبحت رائحة العطن والفساد تفوح من بين جنبات طينها... الناس يسيرون في طرقها، تملأ وجوههم ملامح الخوف، وتشق تجاعيدهم بخطوط الكمد...). أو حينما يكثر الحديث عن أحوال المصريين المعيشية والاقتصادية، وهي من الأشياء التي تشترك فيها النبوءات الثلاث، حيث فقر مدقع لعموم الشعب، وغناء فاحش للتجار وأهل السلطة. كما أنه يتناول انحدار الفن في مصر، واهتمام الدولة بالمشاريع الكبرى ظنًا منها أن ذلك سيعيد عصرها الذهبي كما فعل الأجداد الأوائل، فرعون مصر يرى أنه يبني نهضة شاملة في البلاد بمعابد ضخمة وتحصينات عسكرية رهيبة، على رغم أن النهضة الحقيقية ليست بالعمران وحده بل في عقول الناس ووجدانهم. تلك هي المشكلة التي تحيلنا إلى واقعنا المصري الحالي من اهتمام الحكومة بإقامة المشاريع الكبرى بغض النظر عما كانت ستصب في مصلحة تحسين أحوال الشعب الاقتصادية أم لا.

رؤية السلطة الحاكمة إلى كل من يرفض الفقر، ويطالب بالعدالة الاجتماعية، بأنه خائن ومن القلة المندسة المتذمرة التي لا تشعر بما في الدولة من تقدم، تتشابه مع ما تلاقيه المعارضة المصرية الحالية من تهم.

كما يلاحظ الحديث عن زيادة الفساد، والرشوة، وقسوة الشرطة. ويتناول استغلال الكهنة للدين من أجل السيطرة على الناس، واستخدام العقيدة كتخدير لمشاعر الشعوب. فالكهنة كانوا حريصين على أن يبقى الناس جهلة كي تزيد سيطرتهم عليهم، كانوا يقومون بدور الإعلام المزيف الذي يسعى إلى قلب الحقائق، وإيهام الناس أنهم في مرحلة تقدم وأن هناك إنجازات غير مسبوقة، ونهضة تضاهي نهضة الأباء بينما الدولة على حافة الانتحار كما يتناول فساد القضاء المرتشي.

ولا يغفل شريف شعبان أيضاً عوامل قيام الدول وانهيارها كما يحددها علم الاجتماع، فدائمًا هناك أسباب لسقوط الدول، كما أن هناك أسباباً للعمران، ولأن الرواية ترصد سقوط دولة على يد دولة أخرى، فعومل السقوط تتمثل في: غياب العدالة الاجتماعية، قيادة ضعيفة، انحلال القيم المجتمعية، الإغراق في الملذات، انتشار الفساد، والرشوة، توسيد الأمور إلى غير أهلها، تجبر الشرطة، فساد القضاء، فوجود هذه العوامل في دولة في الماضي أو الحاضر نذير بسقوطها.

ومما يحسب للكاتب أنه على رغم اختياره لفترة زمنية طويلة، استطاع أن يصنع منها حبكة تشد القارئ، ويوصل ما يسعى إليه من رسائل بأقصر الطرق. لذا جاءت الرواية رشيقة في سردها ووصفها، كما أن الرواية ذات بعد قومي، يكشف زيف التاريخ اليهودي، ومزاعمه في القدس، وبحثهم المستمر أو حتى اختلاق أي وثيقة تثبت لهم حق تاريخي في القدس، إلا أنه كلما ظهرت مخطوطة أكدت زيف قضيتهم، وتعد هذه الرواية امتداداً لرواية شعبان الأولى «بنت صهيون» التي تحمل على عاتقها تعرية الكيان الصهيوني، في ماضيه وحاضره المزيف.

 

21 Jun, 2018 10:26:25 AM
0

لمشاركة الخبر