Skip to main content
القناق رواية عواصف النفس البشرية

تعد رواية القُناق الصادرة مؤخرا عن الآن ناشرون وموزعون في عمّان بترجمة الكاتب المبدع إسماعيل أبو البندورة، من أهم روايات الكاتب البوسني «كامل سياريتش»، والتي احتلت شهرة واسعة في الأوساط الأدبية البوسنية؛ ذلك لأنها تناولت مرحلة تاريخية هامة من تاريخ البوسنة، عند بداية أفول الحُكم العثماني في منطقة البلقان، وتنازُع السلطة مع الصرب. والحياة التي عاشها الإقطاعيون التابعون للسلطنة في هذه اللحظة؛ لحظة الأفول والانهيار.

وقد نجح «سياريتش» في تصوير هذه المرحلة، من خلال سرد تفاصيل حياة أحد الإقطاعيين في بيته الكبير المسمى بالقُناق، وعلى لسان أحد خِصيانه، الذي انطلق يتحدث عن الأحوال الاجتماعية والسياسية، من خلال الحديث عن حياة سيّده في القُناق، ومن خلال تصوير ما يدور من أحداث في هذا البيت الكبير.

إنها حياة حافلة بالمُعطيات، والأحداث، والتفاعلات، والقدرة على تصوير النفس البشرية وهي في لحظة انحسار وكبد، ثم حياة الخدم والخِصيان والعبيد الذين يقومون على خدمة سيد البيت، خصوصًا الجواري اللاتي اشتراهن السيد، لكي يسهرن على راحته ومسرّاته، وحياتهن الشاقة معه، والعذاب الذي رافق حياتهن في غُدوّهن ورواحهن.

القُناق، أو القصر، أو الدارة الكبيرة، هو مسرح لأحداث دارت في الداخل والخارج: في الداخل على صعيد السكان من خدم وحشم، وسيّد يُشرف على المكان ويُديره وفقًا لإرادته ومزاجه، وهو في أسوأ حالات تراجعه وتقهقره المادي والمعنوي، ثم صورة المكان عندما يؤجره نظرًا لحاجته، ويتقاسمه مع سلطة أخرى؛ تلك السلطة الصربية الطاغية التي كانت تحتجز البشر، وتُعذبهم على يد الجلاد «كولاش»، وكيفية تفسير آليات عمل السلطة المستبدة واضطهاد البشر، كما شرحها الجلاد «كولاش»، والمتمثلة بالتعذيب والإهانة.

ومن ثَمَّ محاولة السلطة من خلال رمزها «كولاش»، الاعتداء على الجواري في القُناق، من خلال وعد لهن وللخادم بتقديم بعض الخدمات لهم. الخادم في تحقيق حلمه، لكي يذهب إلى مسقط رأسه، والجارية «جانيت» لتحرير شقيقها من العبودية.

أما شخصية الراوي؛ الخادم المُخنث، الخصي، فإن «سياريتش» يقدّمها بتفاصيلها الدقيقة، وما يعتمل فيها من انجراحات. فهو ذلك الإنسان الذي يتوق إلى الرجوع إلى مسقط رأسه، ويتعذّر عليه ذلك؛ لأن الطرق التي عليه عبورها من صربيا مغلقة في وجهه، وهي عصيّة على العبور، ولذلك توقف في القُناق، وطالت إقامته فيه، وامتدت على ضوء ذلك روايته.

والراوي شخصية متعددة الأبعاد، تتصارع فيها وتتنازع الآلام والانجراحات النفسية، ونظراته إلى البشر، ورثاؤه لحالهم، خصوصا الجواري اللاتي كان سيداً لهن، وكُن تحت رعايته.

ولأنه مُخنث وخَصِي؛ فقد كانت تلك أحد عذاباته، إذ أنه لم يصنّف ذاته لا مع الرجال ولا مع النساء، وكانت تلك النزعات، تُشعره بنقصه واختلافه دائما. وكانت تلك إحدى صفاته التي بقيت تلازمه أثناء إقامته في القُناق.

ولذلك فقد كان طوال الوقت يقرأ كُتب الحكيم الفارسي «شيرآن» ويناجيه، واتخذه مُعلما، وبقي يناجيه طوال الرواية، على أنه هو مَن يفهمه، وهو مَن يخاطبه عندما تشتد عليه الإحن. ويبدو من خلال الرواية أنه تعلم الكثير على يديه، كما أن «سياريتش» استطاع من خلاله أن يُقدّم آراءه في الكتب والناس والحياة، والقِيَم التي تحكم حياتهم، فهذا الحكيم الفارسي، كان مصدرا ومُلهما في الآن ذاته، لكل الأفكار القيّمة الحكيمة والسديدة، التي كانت تتجلى في حوارات الرواية، وأحداثها وتعمُّق مضامينها.

ومع أن «سياريتش» حاول من خلال الحوار الذي دار بين السيد «ليمش آغا»، والخادم الخصي حول الحكيم الفارسي «شيرآن» وكُتبه وحكمته، أن يقلل من أهمية هذه الحكمة، حتى أنه قال له في لحظة ما إن الروايات والكتب هي من شأن الخدم والمتبطلين الذين يندبون حظهم، وليست للحياة الواقعية المُعاشة، فالحياة بتفاصيلها شيء مختلف عما تجيء به الكتب، وعليه فالحياة هي مصدر الحكمة، وليست الكتب، فالكتب تصف والحياة تُعلِّم، وشتّان ما بين ما تأتي به الكتب، وما تأتي به الحياة!

يذكر أن الأديب البوسني كامل سياريتش وُلِدَ  عام 1913 في قرية «شيبوفيتسا» قرب منطقة السهل الأبيض، وأصبح يتيم الأبوَيْن منذ الصغر. أنهى المدرسة الابتدائية في مدينة «جودييفو» عام 1927. ثم التحق بمدرسة الملك ألكساندر العليا في مدينة «سكوبيا»، وفُصل منها عام 1935 بسبب نشاطه السياسي. أنهى دراسته الثانوية عام 1936 في مدينة «فرانيا». والتحق في العام نفسه بكلية الحقوق في جامعة «بلغراد»، وتخرج فيها عام 1940. عمل أثناء الحرب موظفاً في المحكمة في عدة مدن بوسنية: «سراييفو» و«موستار» و«بانيالوكا»، وأسهم في حرب التحرير الشعبية.

التحق قبل نهاية الحرب بالأراضي المُحرَّرة، وأصبح مراسلا لوكالة الأنباء اليوغوسلافية «تانيوغ». وأصبح عام 1945 سكرتيرا في محكمة «بانيالوكا». وبصفته الصحفية تعاون مع صحيفة «غلاس»، وعمل كاتباً مسرحيا في المسرح الوطني. وعُين عام 1947 في إدارة مجلة «بريغلد» في مدينة «سراييفو»، ثم في الإدارة الرئيسية في الجبهة الوطنية، وبعدها في إدارة تحرير «زادروجار»، وتم تعيينه عام 1951 في إذاعة «سراييفو»، وبقي يعمل فيها حتى تقاعده عام 1983.

نشر «سياريتش» أول أعماله الأدبية عام 1929 في الصحيفة الطلابية «فيسنيك» التابعة للمدرسة العُليا في مدينة «سكوبيا»، ونشر في مجلات: «جارييت» و«بريغلد»، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كتب في مجلات: «زورا»، و«نوفا جينا»،و«برازدا»، و«أوسلوبوجينيه»، و«جيفوت»، و«أودييك».

تُرجِمت أعمال الأديب «سياريتش» إلى اللغة الألبانية، والتركية، والسلوفينية، والروسية، والبلغارية، والمَجَرية، والألمانية، والبولندية.

حصل عام 1955 على جائزة أدبية على روايته «بيهورتسي»، كما حصل على جائزة «إيفو آندرتش» على مجموعته القصصية «القطن الفرنسي» عام 1981، وحصل لاحقاً على جوائز قيّمة على معظم أعماله.

كان عضواً في أكاديمية البوسنة والهرسك للعلوم والفنون، وأكاديمية العلوم والفنون في الجبل الأسود.

وتُوفِّي في 6 ديسمبر عام 1989، ودُفن في مدينة «سراييفو».

أما مترجم الرواية إسماعيل ابو البندورة فهو من مواليد الرمثا في الأردن سنة 1950، حصل على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية بتخصص علاقات دولية في جامعة بلغراد( يوغوسلافيا سابقا) سنة 1974، و بكالوريوس في الحقوق في جامعة بيروت العربية  سنة 1992. ترجم العديد من الأعمال من اللغة البوسنية لعدد من الأدباء والسياسيين، بمن فيهم رئيس جمهورية البوسنة السابق على عزت بيجوفيتش، وله العديد من الأبحاث والمشاركات، والمقالات المنشورة في الصحف والمجلّات العربية في قضايا الترجمة والثقافة. ومن ترجماته: "عيون الكلب الأزرق"، قصص، جابرييل غارسيا ماركيز ، 1982، "قصص يوغسلافية"، آندريتش سليموفتش،  1992، هروبي إلى الحرية، علي عزت بيجوفتش، 2002، القلعه، رواية، ميشا سليموفتش،  2007، الشهيد، رواية،  زلهاد كلوتشانين، 2008، مختارات من الشعر المعاصر في البوسنة والهرسك، 2010، المرجة الخضراء، رواية،  أدهم مولى عبديتش، 2018.

  حصل كتاب هروبي إلى الحرية لعلي عزت بيجوفتش  على جائزة أفضل كتاب مترجم عام 2003 في الأردن،  وجائزة أفضل كتاب مترجم من مؤسسة التقدم العلمي في الكويت عام 2003.

وهو عضو رابطة الكتاب الأردنيين.

02 Aug, 2018 10:25:11 AM
0

لمشاركة الخبر