Skip to main content
مهرجان الشعر المتوسطي يواجه عقبات مادية

«هشاشة الثقافة تكمن في ارتباطها بالإمكانات التي تُوفَّر لها كي تصل إلى أكبر عدد من الناس. وإن شكّلت عملية الإيصال هذه واحداً من هواجس الديموقراطيين، لكنها نادراً ما تكون من البديهيات حين يتعلّق الأمر بالإبداع». هذه الجملة نقرأها في النص الذي يتصدر برنامج الدورة الواحدة والعشرين من مهرجان «أصوات حيّة» الشعري، الذي تستضيفه مدينة سيت الفرنسية كل عام، على مدى تسعة أيام وليالٍ. جملة لم تكتبها مديرة المهرجان، مايتي فاليس بليد، في سياق استنتاجي عام، بل كردٍّ على رئيس بلدية سيت الذي قرر، من منطلق اعتباره الشعر إبداعاً موجّهاً الى نخبة قليلة من الناس، عدم منح المهرجان المذكور الميزانية السنوية المرصودة له إلا كل عامين. قرارٌ جائر حرم هذا العام الفريق المنظِّم لهذه التظاهرة العريقة جزءاً مهماً من ميزانيتها العامة من دون أن يتمكّن من ثنيه عن تنظيمها، وإن بإمكانات مادّية محدودة.


ولا شك في أن ضعف هذه الإمكانات هو الذي يفسّر قرار فاليس بليد تخفيض عدد الشعراء المتوسّطيين الذين دُعيوا للمشاركة في هذه الدورة إلى النصف مقارنةً بالدورات السابقة. لكن هذا لا يعني أن هذا التخفيض أخلّ بقيمة المهرجان. فبفضل الجهود الجبّارة التي بذلها فريقه المنظِّم، حصدت هذه الدورة نجاحاً كبيراً لجملة أسباب، أبرزها: عدم المساس بزخم برنامجه الذي يتضمن أكثر من 650 نشاطاً تتراوح بين قراءات شعرية، يرافقها أحياناً عزف موسيقي، وأداءات بصرية أو سمعية وحوارات وطاولات مستديرة توزّعت، كالعادة، على ساحات المدينة وشوارعها الضيّقة وحدائقها الخلابة وضفاف قنواتها البحرية ومتن مراكب صيّاديها خلال ساعات النهار، وحفلات موسيقية مهمة خلال المساء، التعاطُف المؤثّر الذي أبداه أبناء المدينة مع المهرجان وتجلى في شهادات التضامن التي سعوا إلى إيصالها إلى فريقه بطُرُق مختلفة، وأيضاً في تفاعلهم الحارّ مع الشعراء المدعوين، الارتفاع الملحوظ لعدد جمهور هذه الدورة الذي تجاوز المئة ألف شخص قدموا من مختلف أنحاء فرنسا وأيضاً من بلجيكا وسويسرا؛ الأرقام القياسية التي بلغتها مبيعات الكتب في سوق الكتاب الشعري الذي ينظمّه المهرجان في الساحة الرئيسيّة للمدينة وتشارك فيه نحو مئة دار نشر فرنسية وأجنبية تعنى بنشر الشعر حصراً.

وبخلاف الدورة السابقة، كانت نسبة الشعراء الفرنسيين المدعوين إلى هذه الدورة هي الأعلى، إذ بلغ عددهم 23، من بينهم أسماء كبيرة مثل جويل بَستار وليلي فريك وجان لوك باران وبيار تيلمان. في المقابل، بلغ عدد الشعراء العرب المدعوين 12، وهم: فينوس خوري غاتا وصلاح ستيتيه وزهرة مروّة من لبنان، هالا محمد من سوريا، زهير كريم من العراق، خالد جبور من فلسطين، عماد فؤاد من مصر، علي عاشور من السعودية، زهير الغفري من سلطنة عمان، عائشة مغربي من ليبيا، منية بوليلة من تونس، وغادة لغزاوي من المغرب.

وعلى رغم تغيّب ستيتيه والغفري لأسباب صحّية، تمكّن شعراؤنا من حصد اهتمام كبير سواء بحضورهم المميز أو بقيمة قصائدهم. هالا محمد مثلاً جذبت إلى قراءاتها جمهوراً غفيراً تبعها بعد كل لقاء إلى حفلات توقيع مجموعتها «أعرني النافذة يا غريب»، التي صدرت حديثاً بالفرنسية عن دار «برونو دوسيه» الباريسية وبيعت جميع نسخها المستحضَرة الى سوق الكتاب قبل نهاية المهرجان. مجموعة تقدّم محمد في بعض قصائدها قراءة شعرية كاشفة ومؤثِّرة لما جرى ويجري حالياً في سوريا، وفي بعضٍ آخر تأملات عميقة في مواضيع مختلفة. عماد فؤاد أيضاً مغنط جمهوره بجاذبية شخصيته ومجموعة قصائد نشرها المهرجان له في كتاب صدر عن دار «المنار» الباريسية بعنوان «حفيف»، قصائد نتلقّى معظمها على شكل مشاهد أو لقطات سينماتوغرافية تومض داخلها إشراقات منيرة.

وأسرت زهرة مروّة المصغيين إليها بنصوص كانت قد صدرت ترجمتها الفرنسية في مجلة «شعر» التي يشرف عليها الشاعر ميشال دوغي، وتتجلت فيها شعرية صورية فريدة من نوعها ومهارة في استخلاص الشعر من وضعيات وظروف واقعية أو متخيَّلة. وبينما شارك زهير كريم بقصائد ذات صبغة سردية نتلقاها على شكل قصص قصيرة تضارع بجمالياتها وتقنياتها ورمزيتها تلك الكثيرة التي كتبها في النوع القصصي، افتُتن جمهور علي عاشور سواء بطريقة إلقائه الساحرة لقصائده التي تعزّز من وقعها، أو بطريقة تداعي التأملات الفكرية الكثيرة داخلها التي تجعل من محاصرة معناها العام مهمة عسيرة ومثيرة في الوقت نفسه. وعلى رغم صغر سنّ هؤلاء الشعراء الثلاثة أو مجيئهم المتأخّر إلى الكتابة الشعرية، إلا أن كل واحد منهم تلقى عرضاً من ناشر فرنسي أو بلجيكي لإصدار كتاب له بالفرنسية، وهو ما يُعتبَر سابقة في تاريخ المهرجان الطويل.

وهذا ما يقودنا إلى أهمية هذه التظاهرة التي تكمن أولاً في تشكيلها فضاءً فريداً من نوعه في أوروبا يمكّن الشعراء المدعوين من إيصال صوتهم الشعري إلى عدد كبير من محبّي الشعر، وبالتالي من بلوغ انقشاع دولي يصعب تحقيقه في أماكن وجودهم. تكمن أيضاً في منح هؤلاء الشعراء فرصة للتعرّف إلى تجارب شعرية حديثة من مختلف دول حوض المتوسط، ومقارنتها بتجاربهم الخاصة، ما يؤدّي حتماً إلى إثراء وتلاقح متبادلين. تكمن آخراً وليس أخيراً في تشكيل المهرجان مختبراً لترجمة الشعر فريداً من نوعه نظراً إلى توكيله مترجمين قديرين بمهمة نقل نحو ثلاثين قصيدة إلى الفرنسية لكل شاعر مدعو، وذلك قبل انطلاق فعالياته.

وفي حال أضفنا الفرصة التي يوفّرها للشعراء المدعوين للعثور على دار نشر فرنسية لنصوصهم في سوق الكتاب، ونشره كل عام أنطولوجيا تتضمّن قصيدة لكل واحد منهم وترجمتها الفرنسية، وخمسة كتب شعرية لخمسة منهم، إضافةً إلى النشاطات الفنية الأخرى التي ينظّمها خلال أيامه ولياليه التسعة، كالحفلات الموسيقية في «المسرح البحري» والمعارض التشكيلية والفوتوغرافية في متحف «بول فاليري» وبعض غاليريات المدينة، لاتّضحت أهمية هذا المهرجان الكبيرة وبالتالي ضرورة الحفاظ عليه ودعمه بمختلف الوسائل المتاحة من أجل تجاوز محنته المادّية الراهنة.

02 Aug, 2018 11:30:46 AM
0

لمشاركة الخبر