التشيكي إميل هاكل يعالج علاقة المثقف والسلطة الموقف والموجهة
كونه بعدا فرعيا ضمن أبعاد أخرى مهمة، لم يستطع الحب والاهتمام بعالم الرجال وتفاعلات المجتمع التشيكي وغيرها إخفاءه ليعد الأهم في رواية "حدث بالفعل" للروائي التشيكي إميل هاكل. هذا البعد جاء متمثلا في معالجة رؤية المثقف للسلطة وعلاقته بها، وأيضا موقفه من مقاومة قمع الأنظمة بالعنف، فبين جولات قراءة الكتب وتتابعات قصة حب معقدة مع طالبة، والسعي خلف التاريخ العنيف للجيش الأحمر في ألمانيا، يتحرك البطل. كاتب ومثقف تتنازعه مشاعر اليأس والغضب والعجز عن التغيير، ويحاول الخروج من الإمكانية إلى الفاعلية، فيجد نفسه في مواجهة السؤال الأخطر: هل صار العنف هو آخر الحلول الممكنة؟.
تستكشف الرواية الصادر عن دار الكتب خان بترجمة د.خالد البلتاجي أستاذ اللغويات والترجمة جامعة عين شمس، توق الإنسان إلى الحرية، مدى حدود مقاومة قمع الأنظمة الحاكمة الاستبدادية والدكتاتورية لنيلها ولو بالعنف، وموقف المثقف ـ المنهزم أمام أزمنة التطرف والأزمات الاقتصادية الطاحنة ـ من كل هذا العنف.
أشار د.البلتاجي إلى أن رواية "حدث بالفعل" من أفضل الكتب التي تتناول قضايا الرجل في العصر الحديث. أبطال الرواية يسعون إلى القبض على ناصية حياتهم ومصائرهم بأنفسهم. لكنهم بدلا من القيام بأعمال حقيقية جادة يصبغون ذقونهم ويرفضون تحمل أية مسؤوليات. إن إميل هاكل في هذا العمل يشخّص حالة المجتمع التشيكي في الوقت الراهن. تعد روايته هذه تشريحًا لعالم الرجال، يكشف من خلالها عن كل ما هو كامن خلف صورة النجاح والكلمات الجوفاء.
وقال "لقد عبر هاكل عن هذا العالم ببراعة. كلمات سوقية عن لا شيء رغم ذلك تكشف ذكاء أصحابها، ومستوى تفكير متقدم يتحلى به أشخاص يضيعون حياتهم هباء في ممارسة ألعاب حاسوبية غبية. يتحول قرار الحجز على بيت حقير يمتلكه أحد أبطال الرواية الثلاث إلى محور رئيسي في الرواية، إضافة إلى نغمة صوت متهدج عن الصداقة وقصيدة غنائية كبيرة عن حالة حب خلف قناع من اللامبالاة.
تضم الرواية ثلاثة أبطال، الأول أديب يتقدم به العمر ويرفض أن يبدأ أي عمل ببعض من التفاؤل والثقة والمسؤولية. الثاني يصبغ ذقنه كل يوم بلون مختلف. ليس بدافع من السعادة أو التسلية، أو محاولة أن يجد لنفسه مكانة وسط مجموعة بعينها أو أن يتميز عن غيره في شيء. بل يفعلها لمجرد أن يثبت للناس أن أفكاره مازالت شابة. الثالث شاب غاضب منشغل بالموت نتيجة تجارب مع المخدرات. الثلاثة ينتمون إلى جيل لم يتأثر كثيرًا بالنظام الشمولي الذي انتهى وهم في مرحلة المراهقة. وصاروا الآن يرفضون أي التزام تجاه العالم، تجاه صاحب العمل أو الزوجة أو الحبيبة أو الأبوين أوتجاه أنفسهم. بينما النساء اللواتي في مثل أعمارهم يرعون أطفالهن ويمارسن اليوجا ويبحثن عن منتجات وأغذية عضوية ويقضين أمسيات صحية، هؤلاء الرجال يقذفون الأكفان، وهي لعبة في الحاسوب هدفها الضغط على سهم في لوح المفاتيح بطريقة مناسبة كي يتطاير الكفن فوق الشاشة إلى أبعد مكان ممكن. لكن هاكل لا يتمادى كثيرًا في سخريته الحزينة من عالم الرجال. فهو أيضًا يعكس عالمهم وما فيه من مآسي وقضايا شائكة. يأس واستسلام وابتذال.
وأوضح د.البلتاجي أن الموضوع الرئيسي في الرواية يتشابك مع موضوعات فرعية ترتبط ببطل الرواية الرئيسي الذي هو الراوي نفسه. القضية المحورية في الرواية هي أزمة الحرية وتأثيرها على الإنسان العادي. هدف الأديب، في المقام الأول، هو وصف العالم اليوم، تحديد القاعدة الأخلاقية التي تحكمه.
وقال "بطل الرواية يمثل الأديب نفسه كما ذكرنا. فهو أديب في الخمسين من عمره تقريبًا يحكي قصته التي تدور حول الأدب، والعمل، والعلاقات، والحياة، والأسرة، الخ. البطل يقضي حياته في الأسفار بغرض تنظيم
قراءات وندوات أدبية. يعود البطل إلى بلده بعد مشاركته في ندوة أدبية في أوسلو بالنرويج، وفي الطائرة يقرأ كتاب عن منظمة الألوية الحمراء الارهابية الالمانية اليسارية التي قامت في بداية السبعينات بعمليات انتقامية. ربما استلهمها الثلاثي الرجالي في الرواية لاحقًا؟ إرهاب مستهجن؟ أم نموذج للعدالة والخلاص لا بديل له؟ تتحول قضية الحجز على بيت صديقه "إيفجن" إلى قضية رئيسية في الرواية. يجري الأبطال الثلاثة أحاديث تافهة حول فكرة الانتقام من ممثل الدولة الذي حجز على بيت صديقهم. ثلاثتهم مستاؤون من الأوضاع السياسية في البلاد التي يُجبر الإنسان على العادي على قبولها. يقوم أحد الرجال الثلاث وهو "بيتفور" بمبادرة، بعد أن فاض به الكيل، للانتقام والثأر، فيخطط في عمل حقيقي يفضي إلى جريمة قتل غير متوقعة. تبدو خطة الثأر غير منطقية، ولا يمكن لها أن تتحقق، لكن النهاية كانت عكس هذا. يتداخل مع خطة الانتقام خط أخر وهي حكاية عاطفية يتابعها القارئ منذ بدايتها.
ولفت البلتاجي أن الأديب يستخدم في الرواية تقنيات سردية مختلفة منها الكلام المباشرة والمخاطبات البريدية، والحوار وكذلك المونولوج الداخلي. وأن الجزء الأهم في الرواية هو عرض الأديب لحكايات عن مجموعة الألوية الحمراء الإرهابية. يسرد فيها الأديب سيرة بعض أعضاء هذه المجموعة ويضع أمام القارئ مقتطفات من عدة كتب، وتصريحات وآراء لشخصيات يراها الأديب قريبة الصلة بالوضع في التشيك. إنه يستحث القارئ بألا يجلس ويسب ويلعن الأوضاع، يدعوه إلى أن ينتفض ويفعل شيئًا من أجل تغيير الأوضاع.
الحياة نفسها هي ما "حدث بالفعل" ومازال يحدث. فرغم أنها صعبة لكنها كل ما نملك. إميل هاكل بروايته هذه يضع أمام القارئ سؤالًا وجوديًّا، ألا وهو: إلى متى سيظل الإنسان يعاني من الظلم وإلى متي سيتحمله؟
يذكر أن إميل هاكل (1958) هو روائي وشاعر وكاتب مسرحي، درس الكتابة الإبداعية في أكاديمية الفنون التشيكية، ثم أكملها بعامين في دراسة الدراما، حصل على جائزة "مانجنيزيا ليتيرا"، وهي أكبر جائزة أدبية في جمهورية التشيك، ثلاث مرات، آخرها في 2014 عن رواية "حدث بالفعل".