Skip to main content
«ورد الجليد»... ملاطفة الحياة بالعذوبة الإنسانية

عن الحنين والذكريات ومفارقات الحياة ومصادفتها الرخوة، تدور أغلب مناخات قصص هذه المجموعة القصصية «ورد الجليد» للكاتب أحمد الخميسي، الصادرة حديثاً عن «دار مجاز». فمن ظلال وحواف هذه المفارقات الإنسانية يلتقط الكاتب خيوط عالمه القصصي، محولاً فعل القص إلى مرآة تنعكس عليها مصائر الشخوص وصراعاتها المكبوتة في الداخل، ونظرتها للحياة والزمن وواقعها المعيش.
تعكس هذه المرآة ما أسميه «السرد المَرِح»، فنحن أمام ذات ساردة مرحة مسكونة بالمرح، تعايشه على هامش الحياة، وتنميه بشكل عفوي ليصبح موقفاً من الذات والوجود معاً. ففي «غلطة لسان» أول قصة بالمجموعة، وحتى القصة الأخيرة «جراحة»، تطل فكرة السرد المرح، بتنويعات فنية مغوية... في القصة الأولى تتحول «غلطة لسان»، من مجرد كلمة نطق بها الكاتب العجوز، قبل وفاته بساعتين لصحافي يجري معه حواراً، تتحول من مصادفة زلقة عابرة إلى تاريخ وحياة ووجود... يسهو الكاتب في تذكر اسم كاتب مغمور يعتبره أهم كتاب جيله، رداً على سؤال الصحافي، وحين يتذكر الاسم الصحيح «عبد العاطي وهدان» وليس «شعبان»، يداهمه الموت، ويصبح الخطأ العابر بين الاسم الحقيقي والاسم الزائف هو عين الصواب، فتقام للكاتب المزيف الأمسيات وتدبج المقالات، ويحصل على جائزة الدولة التقديرية، ويكتشف شاعر من الجنوب أن الكاتب العبقري المرحوم هو خاله، فيتسلم الجائزة نيابة عنه في احتفال مهيب. في ختام القصة بضمير الحاضر الغائب تعلق الذات الساردة على هذا المشهد (ص 10) قائلة: «... لم يكن يتصور أن خبر وفاته المحزن قد يبدو مفرحاً، ولا أن غلطة لسان قد تخلق كاتباً كبيراً، ولا أن الجميع سيوليه ظهره ويمشي وراء شعبان!».
إن علامة التعجب الموضوعة في نهاية القصة لا تضمر تعبيراً طبيعياً بالأسى فحسب، وإنما تضمر قبل كل شيء إحساساً فارقاً بالزمن، زمن الغلطة اللحظوي العفوي، الذي يتحول بواقعيته إلى زمن خاص للقص، ما يشي بوعي ضمني بحركة الزمن وتحولاته الشفيفة في نسيج السرد... فمن الدارج والمألوف أن نصف الخطأ، خصوصاً في معرض الاعتذار عن أشياء حساسة في الحياة بأنه مجرد سهو وزلة لسان، يمكن تصويبها، لكن الزمن هنا أعلى من الخطأ، إنه غلطة وجود أغلق الموتُ المفاجئُ إمكانية ذلك، إذن فلتبتكر هذه الغلطة زمنها المفارق المرح كما تشاء، ولتتداعى الأشياء في قبضتها كأنها عين الصواب في واقع لا يكف عن عبثيته.
وفي قصة «جراحة»، لا يجد الشاب «شهاب» متنفساً للحرية من عتمة السجن سوى ادعاء المرض، وفي المشفى يكتشف طارق، الطبيب المناوب في تلك الليلة، أنه لا يحتاج لعلاج ولا لجراحة، فهو صحياً مثل «أسد الغابات»، لكن أمام توسلات الشاب وتشوقه العارم لنسمة حرية، يتواطأ معه ويجري له عملية شكلية بسيطة، تبقية محجوزاً لمدة أسبوع. وتحت وطأة سؤال مقلق ظل يلازمه طيلة خمس سنوات، عما إذا كان قد قام بما ينبغي تجاه الشاب في تلك الليلة، ثم فجأة، يقرر زيارته ليطمئن عليه... في بيت الشاب يستعيدان ذكريات تلك الليلة، وكأن العملية التي أجراها له لم تكن سوى جراحة للألم. وحين يداعبه الدكتور طارق، عما إذا كان ممكناً أن يقبل في تلك الليلة إجراء عملية أكبر تبقيه شهراً بالمشفى، يأتي رده على هذا النحو (ص 116): «نعم... نعم... أظنني كنت أقبل. لا تتخيل سعادتي حين نقلتني السيارة تلك الليلة من المعتقل إلى الشارع المضاء والناس في ملابس ملونة. كنت أتنفس وأنا أجول ببصري داخل السيارة بين أنوار المحلات وظلال الأشجار وحركة الناس من دون قيد... نعم أظن أنني كنت أقبل».
تنوِّع حافة السرد المرح مرايا القص في المجموعة، فينعكس في ظلالها الإحساس بالغربة في أقسى لحظاتها مرارة وحنيناً، غربة اللسان واللغة، حين لا يصبح للكلام معنى فوق الشفاه، كما في قصة «قدمان» ص (17)، حيث رجل عجوز أكلته الغربة بعد سنوات طويلة من العيش خارج الوطن في أحد بلدان الشمال البارد. وبفعل الحنين العارم للغته الأم، يقرر أن يستعيدها في كل مفردات حياته، ويترجم نفسه إليها مجدداً، بعد أن ترجمها إلى لغة البلد الذي هاجر إليه... إنه صراع بين الحلم والذاكرة، بين صوت الماضي البعيد، وصوت الحاضر الذي أصبح يتداعى في ذاكرته، وكأنه مجرد حلم عابر... فعلى هذا النحو تنتهي هذه القصة الشيقة التي لم تتجاوز الصفحة ونصف الصفحة: «ليلة بعد ليلة وعاماً بعد عام، ترجم الرجل كريات دمه البيضاء والحمراء إلى أخرى من نوع آخر، وعندما قارب الخمسين من عمره كانت ملامح وجهه قد انمحت ولم يبق منه سوى ساقين وقدمين تخوضان في الصقيع كل ليلة، تندفعان إلى الأمام، تفتشان في ظلال الغابات الشاسعة وفي الندى والصمت عن روح عزيزة ضائعة». إن الرمز الضمني، أو الحكمة التي تجسدها هذه الرواية هي أن اللغة وعاء الجسد والروح، حين تضيع يضيع الوعاء.
ثمة مداعبات مغوية وعفوية بين الكاتب ومفردات عالمه وشخوصه، واللافت أن إيقاعها المرح لا يرتبط فقط بمفارقات الحياة ومصادفاتها الرخوة، وإنما يرتبط أساساً بفكرة الزمن، وكأن فعل القص هو استبطان له، واستقراء لخطاه الثقيلة المنطبعة في ملامح الوجوه، وطبيعة حيواتهم وشغفهم بالحياة، التي تتأرجح صعوداً وهبوطا تحت فضاء تقدم العمر.
نرى ذلك على نحو سافر في مساومة الجد المرحة لبائع الروبابيكيا نفسه الذي باعه الجرائد أكثر من مرة بالمجان، وأن هذه المساومة حول السعر ليست سوى مسامرة اعتاد أن يفعلها معه في كل مرة، وكذلك في حس الفكاهة الشفيف في قصص «الغنيمة»، و«غدا» و«تحرش» و«هدية بسيطة»، ففي أجواء هذه القصص ثمة خيط من دهشة المفارقة ومصادفة الحياة يربط ما بين اقتناص اللص لغنيمته ونجاحه في الفرار من المطاردة المحمومة للإمساك به، والعجوز الذي يتأبط ذراع زوجته المسنة منتحلاً الأعذار بحجة شراء الدواء، ليغمر روحه برؤية الصيدلانية الشابة الجميلة، غير آبه بانتقادات زوجته اللاذعة، وكذلك الرجل المسن الذي يتصادف جلوسه بالباص بجوار شابة حسناء، فيشغل نفسه بحوار داخلي مشبوب عن مغبة التحرش، وماذا لو تلامسا بشكل عفوي نتيجة لحركة الباص، وصبت الفتاة في وجهه جام غضبها، وكأنه يتعمد ذلك، لكن المشهد كله يعكس رذاذاً من رغبات مضمرة ومهمشة وذابلة في داخله، أيضاً سلة الورد التي يتلقاها مريض في فترة النقاهة، ولا يسعها مكان بالحجرة الضيقة، وللتخلص منها، تتنقل الباقة للتهنئة بنجاح طالب في الجامعة، ثم التهنئة بعرس شاب، ثم تعود للمريض على يد أحد الزوار، ثم تنتهي رحلتها على يد ممرضة أخذتها كهدية بسيطة بمناسبة فرح ابن عمتها.
في هذه الأجواء تبرز برأيي المفارقة الأبعد مجازاً ودلالة في هذه المجموعة، متجسدة في فكرة ملاطفة الحياة بالعذوبة الإنسانية، وإيقاظ طاقة الحلم لتشد خطى الشخوص وتحفظ لهم نوعاً من التوازن بين ذواتهم ومكابدات العيش في واقع جهم. تبرز هذه الطاقة وتتحول إلى سردية شجية في قصة «على ربوة»، حيث يدور الحوار بضمير المتكلم، بين الكاتب وابنته، ثم تختلط فيه أصوات الماضي والحاضر بين أفراد الأسرة الذين قرروا بيع شقة العائلة واقتسام محتوياتها، فتحضر صورة الأم وتسيطر على دفتر الذكريات والمقتنيات، وكأنها المعادل الرمزي العالي لفكرة الربوة.
تشكل قصة «ورد الجليد» أطول قصص المجموعة، التي وسمت عنوانها، طرفاً حميماً من السيرة الذاتية للكاتب، فالقصة تقدم صورة بانورامية خصبة لرحلة الكاتب التعليمية إلى روسيا، وهي محطة مهمة ومبكرة في حياته، تبرز من خلال من جماليات سرد شيق، يقودك بقوة الوصف وسلاسة اللغة للتعرف بحب على واقع جديد ومغاير وشخوص من بلدان عدة، فنعرف مدى الرحابة والعمق الثقافي التي تتمتع به المعلمة الروسية «نينا أندريفنا»، وكيف ينمو الورد تحت الجليد، منتظراً لحظات التفتح في الربيع. تقبع صورة تلك المعلمة في سقف ذاكرة الذات الساردة كحلم منساب في الزمن، وفي طوايا العمر والحياة فيسائل نفسه عنها، في ختام القصة قائلاً: «أين هي الآن، كيف تحيا، كيف تبدو بعد انقضاء تلك السنوات، وهل خبا في عينيها نور الأمل والحياة؟ وحلت فيهما نظرة التعب والأسى، أم أنها ما زالت تتطلع إلى العالم بتلك النظرة المتوهجة كالذهب الملتهب، مأخوذة إلى أعماقها، منقطة عما حولها».
وسوى قصة «بيسا»، حيث يغلف الشعار السياسي حركة السرد، وكذلك قصة «رسائل من القلب» وهي نص شعري، كنت أفضل أن يكون استراحة للسارد والقارئ معاً في ختام المجموعة، تضيف «ورد الجليد» مساحة خصبة وممتعة إلى عالم القصة القصيرة التي تعود للساحة بقوة وجمال لافتين.

04 Mar, 2019 09:53:28 AM
0

لمشاركة الخبر