قلب بيروت الثقافي تعرض لأكبر دمار منذ إعلان لبنان الكبير
قلب بيروت الثقافي تعرض لأكبر دمار منذ إعلان لبنان الكبير
أشدّ المتشائمين وأكثرهم سوداوية، ما كان ليتصور أن مئوية تأسيس لبنان الكبير، ستكون بهذه المأسوية. ما حدث عام 2020 في البلد الصغير، إضافة إلى ما جلبه الوباء، تجاوز في حجمه كل التوقعات. إنه عام السقوط واستمرار السقوط، حيث لا قرار
بدأ العام صعباً ومسبوقاً بنكسات تلو نكسات. العجلة الثقافية الاعتيادية كانت قد توقفت منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، تاريخ اندلاع الانتفاضة اللبنانية، في وجه السلطة. بدأ الشلل الثقافي فعلياً مع هذا التاريخ حيث لم يعد من مجال للتستر على الانهيار المالي، المخبأ بورقة توت. في الوقت نفسه آثر المثقفون أن ينقلوا جلّ جهودهم إلى ساحات الاعتصام. كل الأنشطة انتقلت إلى هناك، من المحاضرات إلى المناقشات، الموسيقى، الغناء، الحوارات، الرسم. المواعيد الثقافية السنوية بدأت تتساقط بدورها. أول الضحايا كان «معرض بيروت العربي والدولي للكتاب» الذي ينعقد في ديسمبر (كانون الأول). أقدم المعارض العربية الذي صمد أمام الانفجارات والاغتيالات والحروب والاجتياحات، أُلغي هذه المرة لسبب مالي بحت. لا شيء أهم من المال يمكن أن يطيح بالكتب. تلك كانت صدمة معنوية للرواد الذين بدأوا يستشعرون أن ثمة شيئا خطيراً يحدث، وضربة للناشرين، الذين يرون في معرض بيروت متنفسهم الحر لتقديم إصدارتهم دون رقابة أو حسابات مسبقة. وهو أيضاً موضع احتفالاتهم بإصدارتهم الجديدة، ولقاءاتهم وتفاعلهم
افتتح عام 2020 حزيناً، والجميع يعرف أن القادم ليس بسهل. ومع ذلك بقيت المقاومة كبيرة، ومحاولات التنشيط الثقافي مستمرة وإن ببطء، ليأتي وباء «كورونا» ويباغت الجميع، ويدخل العالم في فترات حجر تطول أو تقصر، فيما يبقى الخروج من المنازل محدوداً. وكما كل المحرومين من نعمة المسرح والأدب والمعارض والسينما، لجأ اللبنانيون إلى ما وفره الإنترنت من أنشطة، وإلى كتبهم القديمة، وجمّدت دور النشر إصداراتها، بسبب الإرباك المالي من جهة، وتوقف حركة النقل والشحن بفعل الوباء من جهة أخرى
قليل من الدور الكبرى استفادت مما تبقى من خدمات البريد السريع، لتأمين كمية من الكتب إلى مشترين خارج لبنان
ملاحظ أن المحاضرات والمناقشات التي كان لها مكانها «أونلاين» لم تكن ذات طابع أدبي أو فكري، بقدر ما حلّ مكانها نقاشات حول صعوبة الوضع المعيشي والحياتي، وسبل الخروج من الأزمة المالية والسياسية، التي يجمع كثيرون على أنها من أصعب ما مرّ به لبنان منذ تأسيسه
لم تكن القراءة أولوية ولا الشاغل الأبرز في فترات الحجر عند اللبنانيين، ولم يصعد نجم الكتاب الإلكتروني، كما كان متوقعاً. كان لا بد من انتظار بداية فصل الصيف كي تستعيد دور النشر شيئاً من حركتها. وإن كانت «الدار العربية للعلوم» تقول إنها لم تترك للحجر أن يغير من برنامجها، وإنها لم تتوقف سوى أيام، ليصدر عنها كل يوم كتاب، فإن هذا ليس حال الدور الأخرى، التي خشيت مغامرة غير مأمونة العواقب. لا يمكن تشبيه عدد الإصدارات بالسنوات التي سبقت. ولا يمكن الحديث عن صيف عادي، اختفت فيه المهرجانات التي كانت تملأ المناطق ضجيجاً. واقتصر الأمر على حفل واحد كبير ومؤثر حمل اسم «صوت الصمود»، أصرت مهرجانات بعلبك على أن تقيمه في القلعة التاريخية المهابة، تأكيداً منها على أنها لا تغيب. نقل الحفل الذي كان دون جمهور، ببث مباشر على كل المحطات التلفزيونية اللبنانية، وحظي بإخراج وإنتاج استثنائيين، بفعل تطوع عشرات الفنانين في هذا العمل، من أجل إعادة الأمل إلى اللبنانيين
لكن ما كان يحاول أن يردمه الفنانون والموسيقيون، أُحبط في جزء من الثانية. فبعد ما يقارب الشهر من هذا الحفل الكبير، الذي أراد أن يداوي الجروح الغائرة، وفي الرابع من أغسطس (آب)، دوّى انفجار المرفأ الهائل الذي عصف بمنطقة قطرها ثمانية كيلومترات، وأجهز على القلب الثقافي النابض للعاصمة اللبنانية. منطقة تحتضن عشرات المؤسسات الثقافية في مبانيها التراثية. الخسائر لا يمكن حسبانها بعدد غاليريات الفن التي دُمّرت، وهي كثيرة، أو المسارح التي تضررت، وهي أيضاً ليست بقليلة، ولا دور التصميم اللبنانية - العالمية، وأصيبت بعطب بالغ، ولا بعدد المتاحف التي خرجت من الخدمة، وكلها تضم بين حناياها مقتنيات ثمينة، وأعمالاً يصعب تعويضها أو ترميميها. المنطقة التي دمرها الانفجار هي في معظمها تراث معماري يمثل الجزء الأكثر أصالة من بيروت بعد أن أتت الحرب الأهلية على جزء ليس بيسير من وسطها التاريخي. وقدرت مديرية الآثار في وزارة الثقافة اللبنانية عدد المباني التاريخية المدمرة بـ640 مبنى، 60 منها معرضة لخطر الانهيار، مما استدعى حملة دولية من «اليونيسكو» لإنقاذ هذا الإرث الضخم المهدد بالهدم والاندثار، بسبب العجز عن الترميم أو حتى عمل إصلاحات. وإذا كانت بعض الغاليريات والمسارح بدأت تلملم جراحها، فإن عدداً كبيراً منها لا تزال تنظم له حملات تبرعات من أجل المساهمة في إعادة الأنشطة أو جزء منها في أسرع وقت ممكن. ومتحف أساسي لم يمض وقت طويل على إعادة ترميمه من آثار الحرب الأهلية، مثل «سرسق» أضراره الكبيرة ستحتاج إلى سنة على أقل تقدير، لتعاد إليه الحياة. وإذا كان هذا المتحف محظوظاً لأنه تلقى تعاطفاً من جهات عديدة خارج لبنان، فهي ليست حال كل الذين طالهم عصف الانفجار
وبدأت خطة عمل تتخطى لبنان لتشمل دولاً عربية أخرى تقوم بها «آفاق» و«المورد الثقافي» لمد يد العون للفنانين والمثقفين، الذين تعطلت أعمالهم، بسبب الوباء، أو فقدوا معداتهم أو منازلهم أو أماكن عملهم، بفعل الانفجار، بدعمهم بمبلغ مالي على وجه السرعة، وبالتشبيك بين العاملين الثقافيين، لمساعدتهم على إقامة مشاريع جماعية
أي أن مسعى كبيراً يتم العمل عليه حالياً في لبنان ودول عربية، لتغيير أنماط العمل، وأسلوب التفكير بالمشاريع، وإخراجها من حيزها الفردي الضيق، بحيث تفتح الآفاق أمام تعاون مشترك، أقل كلفة، وأكثر نجاعة. وهذا قد يمنح الجميع قدرة على النهوض السريع
بالطبع افتقدت بيروت، نهاية العام الحالي، وللسنة الثانية على التوالي لمعرضي الكتاب الرئيسيين العربي والفرنكوفوني. أما «مهرجان بيروت للرقص المعاصر»، الذي أصرّ منظموه على أن يستمر رغم كل الصعاب، فقد تابعه عشاقه عبر البث المباشر «أونلاين»، بحيث رقصت الفرق من على مسارح في أماكن مختلفة من العالم، ومن بينها ليون وبيروت، وأريد لهذه الدورة ألا تغيب، بانتظار عودتها حية إلى العاصمة اللبنانية في السنة المقبلة
ويسجل للفنانين والمثقفين عدم استسلامهم، بحيث نشطت في بيروت في الشهر الأخير من السنة، حركة تشبه الانبعاث من الركام. شهدت العاصمة معارض فنية وعروضاً وأنشطة بينها معرضان للرسم أقامهما غاليري «أجيال» للفنانتين هبة كلش وسمر مغربل. وكان هذا الغاليري قد تعرض لضرر مادي، وآخر أشد وطأة بفقد أحد أهم العاملين فيه، وهو الشاب فراس الدحويش الذي قضى في الانفجار. ويغلق العام أيضاً على معرض في «دار النمر» يتضمن عشرات القطع القديمة التي جُمِعت من الأرشيف الحياتي اليومي للناس، تحت عنوان «لزوم ما لا يلزم». والأكثر لفتاً للانتباه هو معرض «الفن الجريح» في فيلا عودة الذي أشرف عليه فنياً جان لوي مانغي، ويقدم اللوحات - وبينها لرسامين كبار - التي تضررت في انفجار المرفأ، في سياق يعيد إليها الحياة، رغم التشوهات الكبيرة التي ألمت بها. كما يشارك في المعرض نفسه 66 فناناً بأعمال لهم أنجزوها قبل الانفجار وبعده، في محاولة لاستقراء التغيرات المزاجية والفنية التي طرأت عليهم
ولعل الفن الأبرز الذي لم يفقد ألقه خلال هذه الشهور العجاف هو السينما؛ فخلال فترات الحجر أنجز عدد من السينمائيين سلسلة أفلام قصيرة عن هذه التجربة. ومؤخراً أُنجزت سلسلة من 15 فيلماً قصيراً، مستلهمة من 15 قصة حقيقة عاشها ضحايا انفجار المرفأ
كل الأعمال الفنية باتت تدور حول الانفجار ومفاعيله، إما أنها تحاول أن تفهم ما حدث للنفس الإنسانية التي عاشت تحولات درامية مفاجئة، في لحظة من الثانية، أو أنها تنشط لجمع التبرعات، ومد يد العون لمن لا يزالون يعيشون تحت الصدمة. ومن بين هذه الأنشطة مسرحية «همسات» التي قُدمت عن بُعد، لمساعدة المسارح التي لم تتمكن بعد من النهوض
عام كان يُفترض أن يكون عيداً يمتد لشهور من الاحتفاليات، لتذكّر وتقييم الإنجازات الثقافية التي حققها اللبنانيون طوال مائة سنة، وهي ليست بقليلة، سواء على مستوى النشر أو الأدب أو الموسيقى والمسرح والغناء. لكن الظروف السوداء شاءت أن يصبح الأمر على غير ذلك. ويبقى الأمل في مخيلة تأبى أن تستسلم، وفي نبض لا يريد أن يخبو
المصدر: صحيفة الشرق الاوسط