Skip to main content
عباد يحيى رام الله الشقراء مشروع روائي تنقصه الحكاية

عباد يحيى رام الله الشقراء مشروع روائي تنقصه الحكاية

 

 

«رام الله الشقراء»، هي الرواية الخامسة للكاتب الفلسطيني عباد يحيى، فإلى جانب هذه الرواية صدرت له جريمة في رام الله – منشورات المتوسط 2012 ورواية القسم 14، ورواية هاتف عمومي- الدار الأهلية – عمان2015 وله رواية أخرى بعنوان « رام الله « أما الرواية التي نحن بصدد الحديث عنها في هذا المقال فكانت قد صدرت أولا عام 2013 ثم أعيد نشرها في طبعة جديدة عن المركز الثقافي العربي في  الدار البيضاء وبيروت.وهي، إذا أريد الإنصاف، ليست رواية بالمعنى الكلاسيكي المتفق عليه في أوساط الروائيين، ونقدة الرواية، إذ تفتقد للحدث المركزي الذي يجمع ما حوله من متواليات سردية أخرى. والشخصيات في هذه الرواية – إن جاز لها أنْ تسمى رواية-  ليست شخصياتٍ كالتي عرفناها ونعرفها في الروايات العالمية المشهورة، القديمة منها والجديدة. فهي مجرد دمى تظهر وتختفي من حين لآخر، دون أن تؤدي دورًا ينم على تفاعلها بالمُجريات، وإنما الذي يستدعي ظهورها هو حديث الرواي الساخر عنها، وعن أي شيء آخر يذكره، ويذكِّرُه بها . 

ولا يبتعد المؤلف عن الحقيقة بقوله في بداية الكتاب، وتصريحه، أنَ روايته نتاج المنشورات المتبادلة على الفيس بوك بين الراوي وصديقته . فالراوي مثقف، صحفي، وإعلامي، يهتم بالوضع السياسي الفلسطيني اهتمامًا كبيرا، يمكن أن نصنفه في معارضي اتفاق أوسلو، والسلطة المنبثقة عن ذلك الاتفاق. أما صديقته فتعمل في مؤسسة أكاديمية، وهي الأخرى مثقفة، ولها اهتمامها بالوضع السياسي, ولا يفتأ الصديقان يتبادلان المنشورات التي تحاكي الرسائل البريدية العادية التي عرفنا شيئا منها في بعض الروايات، كرواية علاقات خطرة للفرنسي لاجلو(1782). وظهر مثل هذه السرديات التراسلية في غير رواية، منها في العربية رواية الحديقة السردية لمحمد القيسي.

يبدأ الراوي برسالة لصديقته يتحدث فيها عن الإسرائيلي جوليانو، الذي قدم إلى مخيم جنين لينشيء مسرحا يدرب فيه الفتية والشبان على التمثيل كي يصبحوا ممثلين لا مقاومين.  لكن هذا الجوليانو لم يتمِمْ ما بدأه، فعلى الرغم من أن أهالي المخيم يقولون عنه وعن المسرح « خربوا الولاد والبنات « قتل أو مات والإشارة له بسبب العرض المسرحي الذي يقام تأبينا له في مسرح القصبة برام الله. ويقول الراوي في الرسالة التي نشرها على حسابه إن جوليانو هذا جاء إلى المخيم، وإلى رام الله أخيرا، ليكفّر عن أخطاء الماضي، بعد أن شاركت أمه وعائلتها ببنادقهم في تهجير الفلسطينيين من قراهم في قضاء حيفا حين كانت عضوًا في قوات البلماخ*. ومثل هذا الحدث المنطوي على تكريم تأبيني لهذا المُتَصَهين يجتذب الجمهور المثقف في رام الله « هل هناك قبح كهذا؟ . من هم الذين أتوا لتأبين الراحل . كان مساءً أمريكيا . كرهتُ كل من احتواهم المسرح. كرهت الحركة المسرحية .. « 

وهذا النموذج جوليانو هو واحد من كثيرين، رجالا ونساءً، غرقت بحشودهم رام الله وغصت، ومن هؤلاء الفتاة التي قدمت من أقاصي الدنيا في أوروبا لتسجل في دورة تعلم اللغة الفرنسية في المركز الألماني. كأن أوروبا تخلو من مركز لتعليم الفرنسية. ومن الحديث عن هذه الفتاة يصلنا الرواي بحكاية الكرواسان.. التي أصبحت البضاعة الوحيدة المزجاة ففي مخابز رام الله، ومقاهيها ، ومطاعمها الكثيرة، لقد تغير كل شيء إذن حتى الفطور بدلا من الزيت والزعتر صار الفلسطينيون في رام لا يتناولون في وجبة الإفطار إلا القهوة مع الكرواسان . وهذا الكرواسان يقال له في بعض البلاد العربية الهلاليات، ولهذه التسمية حكاية لا تخلو من رمز. فقد قيل إن الفرنجة بعد انتصارهم على الأمويين في معركة بلاط الشهداء 114هـ (بواتية) Poitiers خبزوا خبزًا على هيئة الهلال شماتة بهلال المسلمين، وأنهم يلتهمون هذا الهلال تعبيرًا عن تشفيهم بالغافقي وجنده. وفي رواية أخرى يذكرها الرواي تقول: إن الكرواسان اختراع سبق إليه البولنديون الذين أرادوا التشفي بالعثمانيين بعد تراجعهم مهزومين من حصار فينا 1529م، وهذا الخبز الذي يشبه الهلال يتشفى آكلوه بالعثمانيين، وهلالهم الرمزي. 

يدلفُ بنا الراوي من مقهى إلى مقهى، ومن مطعم لمطعم آخر، ومن مسرح إلى مسرح آخر، ومن علبة ليل إلى علبة ليل أخرى، ويتنقل بنا أيضًا من شارع إلى شارع في رام الله؛ البلدة القديمة، والجديدة. ليتضح من رسائله لصديقته أن رام الله لم تعد رام الله المعروفة بأجوائها المنعشة صيفا، وبطبيعتها الجبلية الخلابة، ومتنزهاتها الرائعة، وبيوتها الحجرية النظيفة التي تنم على الأحساس الراقي والشعور المرهف، فهي تتعرض لجحافل من الأجانب الذين لا يجدون عملا غير التجول في رام الله، والاهتمام بالشأن الثقافي والفني والسياحي ، والملاهي: سينما، مسرح تهريجي، غناء رخيص، رقص تعبيري وباليه.. وهكذا يغدو أهالي المدينة في ما يقوله هذا الكتاب أغرابًا في مدينتهم الكلاسيكية، وعليهم في هذه الحال أن يتخلوا عن تقاليدهم، وعاداتهم، وعن لغتهم التي بها يتكلمون، وأن يهذروا بإنجليزية ركيكة ولا يهم إن كانت بلكنة عبرية، فهذا لا يقدم ولا يؤخر. فأكثر هؤلاء – مثلما تفصح الأوراق- إما من الموساد، أو من عملائه، إذ كيف يمكن أن يصدق أحد أن سيدة أمريكية تأتي من بلادها لا لشيء سوى ترتيب المكتبة في جامعة فلسطينية تقع على كثب من رام الله في بير زيت. وكيف نصدق أن رجلا يأتي من آخر الدنيا في إيطاليا أو أو ألمانيا ليجعل من رام الله وكرا للمثليّين، هكذا.. ببراءة كهذه ليرفِّه عن الشواذ في فلسطين؟ ولا يفتأ هؤلاء يأتون من معبر قلندية بين القدس ورام الله لكي ينهضوا بالمقاهي، والبارات، والفنادق، والمطاعم، وتطويرها، لتغدو على قدم المساواة مع مثيلاتها في لندن، وباريس، وواشنطن. ألم يتذكر بعض الفلسطينيين من أهالي رام الله ماذا فعل هؤلاء الشقر ذوو الأعين الزرق باستوديو فينوس الذي طالما احتوى في صوره أطيب الذكريات، إذ حولوه إلى ركام ومن الركام انبثق محمص لبيع المكسرات والتسالي. يقول الراوي لصديقته تعليقا على حكاية الاستوديو» الفرق بين اللعوب والعاهرة أن اللعوب تتنقل بين عشاقها وتتذكرهم، لكن العاهرة على العكس من ذلك تنساهم، ولا تتذكر منهم أحدًا. رام الله تنسى «. 

في الأثناء تتراءى لنا بداية حكاية جديدة، حكاية عمر، وأوفيليا. فالسيدة تهرب على حين غرة ، وعمر الذي وقع في غرامها لم يكن يتصور أنها حضرت لكي تلقي بشباكها حول أي شخص تتخذ من حبه لها سببا للبقاء في رام الله، ريثما تنهي المهمة التي عينت من أجلها، وكلفت بها في أجلٍ معين. فعندما انتهت تلك المهمة، ولا  ريب في أنها مهمة تجسس، رحلت في ما يشبه الهروب . يقول رشدي، وهو من الشخصيات التي تظهر في الرواية بلا مناسبة: « إحنا بس بنعطيهم مبرر عشان يضلوا هون, ولما ييجي مبرر أقوى لرجوعهم لبلادهم رح يرجعوا. ما تفكر. كلهم راشيل كوري . « 

ما إنْ تنتهي حكاية أوفيليا هذه حتى نكون مع حكاية أخرى تبعث على السخرية أكثر من ذي قبل, وهي حكاية لوحة بيكاسو التي جرى إحضارُها إلى رام الله لتعرض بضعة أيام في المتحف الذي أنشأه إسرائيليون مقنعون بجنسيات إيطالية أو ألمانية أو بأقنعة المارينز. وعند وصول اللوحة تقوم الدنيا في رام الله ولا تقعد، فالشرطة التابعة للسلطة تحترق وجوه رجالها وتتحَمَّص في لهيب الشمس، وهي بانتظار بيكاسو هذا، مع أن لوحاته في اللوفر، وفي غيره، تقف أمامها الملايين دون حراسة. أما في رام الله، فقد فرض حظر التجوال استعدادا لاستقبال لوحة بيكاسو، وتقاضت شركات الشحن، والتأمين، وسماسرة اللوحات، ثلاثة ملايين دولار، وهو مبلغ كاف لإعادة إعمار مخيم جنين الذي دمرته المجنزرات الإسرائيلية، وطائرات الأباتشي، ولم تبق منه حجرًا على حجر. وهذا السيرك الثقافي الفني الذي لا يُعجب الراوي، ولا صديقته التي تنتظر رسائله الكئيبة على الطرف الآخر، ينتهي بسؤال افتراضي يخاطب فيه السارد أولئك الذين افتتحوا « السامر « بشعارات وتصريحات نارية عن الفن: كيف سَمَحت إسرائيل بدخول اللوحة، وهي تحاصر كل شيء، وتمنع أيَّ شيء بما في ذلك أسطول الحرية الذي اعترضت طريقه إلى غزة، أو - على الأقل - كيفَ سمحت بدخول اللوحة، وقد رفضت قبيل أيام دخول الأمريكي تشومسكي إلى رام الله ليلقي فيها مُحاضرة؟ 

مثل هذه التساؤلات لا تنبئ إلا عن موقف ألمَعنا إليه، ونبهنا عليه، وهو تماهي المؤلف بالراوي فكلاهما يدين  السلطة المنبثقة عن اتفاق يعارضه الكاتب أساسًا، وهو اتفاق أوسلو 1993. ومن هذه الملاحظ، والمواقف التي سقنا بعضها لوضع القارئ في أجواء هذا الكتاب « رام الله الشقراء « يتضح أنه مشروع رواية لا رواية بالمعنى الدقيق. إذ كان يُسْتحسن أن يختار المؤلف حدثا من هذه الأحداث، وهي كثيرة، ليجعل منه محورا رئيسيا تدور حوله سائر الوقائع الأخرى، وأن يجعل من الشخصيات – كشخصية عمر، وأوفيليا-  شخصيات ٍ تؤدي ادوارًا في تلك الأحداث من بداية الرواية لآخرها، في نسق ينمُّ على ما بينها من ترابط. ولو أتيح للمؤلف أن يركز على حكاية عمر، وتلك المرأة، تركيزا يسمح لما ذكر موجزا أن يجد ما يحتاج إليه من تفاصيل، لكانت الروايةُ روايةً أخرى، أما عن تكرار ما نُشر في بعض المقالات من أن هذه الرواية رواية جيدة لأنها نجحت في جلاء الصورة الخاصة بالمدينة من حيث هي مكان، وفضاء روائي، فهذا، وإن كان ضروريا في الرواية الجيدة، إلا أنه غير كافٍ ليحوِّلَ أي سواليف تروى لرواية بالمعنى الدقيق، وإلا فإن الكتب التي تصفُ البلدان، وكتب الرحلات التي يصف فيها الرحالة ما يشاهدونه في الأماكن، هي الروايات، وما عداها لغوٌ لا قيمة له، ولا مزيَّة فيه.

*البلماخ تنظيم إرهابي صهيوني أنشئ في العام 1941 ومن قادته يغئال ألون، وموشيه دايان، ويتسحاق رابين، وقد نفذ بذراعه المسلح « الهاجاناة « الكثير من المذابح في فلسطين.

 

 

 

المصدر: الدستور 

16 Jan, 2021 11:26:43 AM
0

لمشاركة الخبر