Skip to main content
وزيرة الثقافة ومدير الإيسيسكو يعقدان مؤتمرا صحفيا

 

تسيطر أجواء الغرابة والأسطورة على فضاء رواية «الحديقة المحرمة» للكاتبة المصرية سهير المصادفة، الصادرة حديثاً عن دار «بورصة الأدب»، في 244 صفحة من القطع المتوسط. وتتجاور هذه الأجواء في نسيج سردي شيق يصعب التفريق معه ما بين الواقع والأسطورة، حيث يتحولان إلى بوتقة تنصهر فيها عناصر الوجود الإنساني في بداهتها الأولى، كاشفة عن تناقضاته الحادة وصراعاته البدائية كالخير والشر، الإثم والبراءة، وغيرهما.


تأخذنا الرواية إلى قرية تبدو خارج التاريخ والجغرافيا تسمى «نجع الزرايب»، التي تحتل موقعاً منسياً على خريطة الكرة الأرضية تتسم برمادية السماء وتجهمها طوال الوقت مع أرض تنفث الحرارة وذباب لحوح يطارد الوجوه وبقر لا يكف عن إصدار خوار رتيب ممل بنغمة واحدة. وتمتلك القرية شخصية طريفة للغاية هي شخصية «سيكا»، الذي يرتدي دائماً «زعبوطاً» يغطي شعره وحاجبيه، لا أحد يعرف عمره الحقيقي فهو لا يكبر مثل الناس، ويعتبر وكالة أنباء تمشي على قدمين.


هذا هو المستوى الأول الواقعي الذي يصادفه القارئ عبر 244 صفحة من القطع المتوسط. وتبدأ حالة من الفانتازيا والعوالم العجائبية التي ترسمها الرواية حين تعثر البطلة وهي شابة مثقفة تعيش بصعيد مصر على ما يشبه كتاباً أو مخطوطاً يروي فيه جدها مغامرته المثيرة في عالم يكاد يكون مسحوراً يدعى «النبع المقدس». وإمعاناً في الغرابة، يأتيها هذا المخطوط بطريقة غامضة، حيث يمنحه لها سراً طفل غريب الأطوار يسير حافياً بملابس نصف مكشوفة من الكتان.


يروي الجد مغامرته حين كان شاباً يطارده أزيز طائرات الهليكوبتر المعادية في الصحراء، ولا نعرف سبباً محدداً وراء ذلك، فيبدو التخمين سيد الموقف، لكنه تخمين محير، يصنع حالة من التشتيت للزمن في الرواية، ومن ثم يظل السؤال معلقاً: هل كان الأمر ضمن تداعيات حرب 1967 أم لا؟ يجد الشاب نفسه فيما يشبه مجرى مائياً متفرعاً من نهر النيل، وعلى البعد يلوح قطيع من التماسيح. يلقي بنفسه وسط الكائنات المخيفة بظهورها ذات اللون الرملي المرقط بالبني، مصطدماً بحراشفها اللزجة السميكة فيتأكد أنه لا يهذي. إنه يبدو شجاعاً أيضاً، لا يهاب الموت ويملك ذخيرة من المهارات اللازمة للنجاة، منها اصطياد الحشرات والتغذي على لحم الثعابين. ساعده في ذلك أنه عاش حياة قاسية وغريبة، فقد تفتحت عيناه على الرمال من كل جانب، ومنذ أن كان طفلاً في السادسة يعيش شبه وحيد يغطي نفسه بجلود وفراء حيوانات جفت عليها دماؤها. ويكون أسعد الناس حين يصطاد كبشاً برياً فيعيش أياماً على لحمه الذي يقدده على نار الشمس اللاهبة.


يمضى البطل «ألهم» في مواجهة مصيره على درب اكتشاف عوالم مسحورة، حيث يستطيع زحزحة صخرة قوية هائلة ليدلف إلى ممر مائي مظلم وطويل. يعبره أياماً وليالي قبل أن تهدهده شمس حنون هي شمس «النبع» بجغرافيته الفريدة وأهله الذين لا يعرفون شيئاً عن العالم الخارجي. ثمة مدرجات مزروعة بأزهار بنفسجية زاهية تلوح أمامه، وهنا تنبت جميع الأشجار وتثمر الفواكه في وقت واحد دون التقيد بموسم أو فصول، و«الطواويس تسير مختالة والعصافير الملونة تحلق في هدوء. الماء العذب اللذيذ يترقرق في جداول، وآنية الطعام من ذهب وفضة». فيتساءل «ألهم» وقد أسكره جمال الطبيعة: ماذا وراء هذه الجبال التي تبدو كما لو كانت سوراً يخفي النبع عن العالم الخارجي، فيجيبه أهل المكان بثقة مطلقة: لا شيء... العدم!


يتعرف «ألهم» على «الكبير» الذي يتزعم المكان وينظر إليه الأهالي نظرة تمجيد تقترب من القداسة. إنه عجوز يوهم عشيرته بامتلاكه قدرات خارقة، لكنه في الحقيقة يعاني من كسر في عظمه، وينجح ألهم الذكي الماهر في علاجه فيكتسب ثقته. يمثل «ألهم» البراءة الأولى في سعيه نحو اكتشاف حقائق الوجود باحثاً عن معنى روحاني ما. إنه بلا أب أو أم يعرفهما، فقد تفتحت عيناه وسط رمال كثيفة حيث كان عليه أن يتعلم أبجدية الصحراء التي أحبها فأحبته. يمشى طويلاً باتجاه قرص الشمس حالماً بأرض ليس فيها قتل أو ظلم أو رياح، لكن القرص المتوهج ظل يخاتله ويشرق كل صباح من مكان جديد.


تطرح الرواية أسئلتها الخاصة حول الوجود ومصير الإنسان في عالم مخادع، رغم أنه يبدو على السطح مثالياً ساحراً، وتتقاطع خيوطها الدرامية في رحلة البطل بين حب واكتشاف وأحقاد دفينة، لكن يظل الشوق إلى «اليوتوبيا» أو «المدينة الفاضلة» هاجساً يعبر عن نفسه بقوة عبر هذه الرحلة، واكتشاف أن أهل «النبع» لا يعرفون الموت، بل يبدو أنهم يتعاملون مع طقوس دفن الموتى على أنها احتفالية يودعون فيها أحباءهم الذين اختاروا أن يغيروا عنوان البيت!


تسعى الرواية إلى نسج عالمها من خلال ما يمكن تسمية بـ«التجاور المسالم» أو «سلمية التجاور»، وبقوة هذا التجاور يبرز الواقع والغرابة، وكأنهما في حالة من الانسجام والتواؤم، رغم غلبة عنصر على آخر في الرواية في بعض الأحيان، فنلاحظ على سبيل المثال أن أسماء الشخصيات الذكورية جاءت إلى حد ما معتادة باستثناء شخصية «ألهم» نفسه، بينما أسماء الشخصيات النسائية جاءت على العكس شديدة الثراء وخارج الأطر المتوقعة مثل «عواطف الحسادة» و«النساجة» و«السجانة»، لكن يوحدها دائماً الإحساس بـ«سلمية التجاور» والحرص عليه.

 


نحن إزاء رواية متدفقة لغوياً بسلاسة، رغم بعض التعبيرات المستهلكة مثل «يغذ السير» و«اكفهر وجهه»، كما اكتفت بالدوران في فلك اللعب على فكرة العثور على كتاب أو مخطوط يسرد قصة عجائبية، التي أصبحت من كلاسيكيات الحيل الفنية والتكنيك المعتاد في عشرات الروايات عالمياً وعربياً في السنوات الأخيرة.

 

 

 

المصدر: الشرق الأوسط

02 Dec, 2021 02:41:30 PM
0

لمشاركة الخبر