ثائر كايد حمّاد «فارس وبيسان».. رواية تستبطن مقومات عمل درامي مميز
يحظى أدب السجون بالكثير من العناوين اللاَّفتة في المكتبة العربية حيث استطاع هذا الصنف من الأدب أن يثبت نفسه ليس فقط كجنس أدبي لافت وإنّما أيضا كمُكوِّن راسخ من مكونات ذاكرتنا الجَمعية التي تختزل الكثير من صور القمع والديكتاتورية والظلم.
وهناك من الكُتَّاب من سطع نجمه في هذا الأدب وذلك لقدرته الخارقة على الإلمام بتفاصيل السجون وعذابات حياة السجين. فأثار بذلك اهتمام القراء نظرا لارتباط ما يكتبه بقضايا الحرية والعدالة والإنسانية.
ولأنَّ الكتابة وسيلة للتعبير والتحرر والمقاومة أيضا،لم يكن غريبا أن يختار من تمرَّد على قضبان سجن المحتل الغاصب للأرض ومَن تعلقت عيناه باسترجاع الأرض والوطن كقضية يعيش لأجلها، أن ينقل لنا تفاصيل حياته داخل السجن ويفضح سجَّانه وكأنه يريد أن تكون الكتابة امتدادا لقوته وصبره ونضاله العتيد في وجه الظلم.
أنا هنا أتحدث عن رواية «فارس وبيسان» للأسير الفلسطيني ثائر كايد حمّاد، قناص فلسطين المحكوم عليه ب11 مؤبدا، ورغم ذلك آثر ألا يستسلم للقنوط ويواصل نضاله بالكلمة فنجح في إرسال كلمته عبر هذه الرواية التي طار بها الفينيق عاليا لترى النور وتصدر عن دار الفينيق للنشر والتوزيع،الأردن في 157 صفحة.
وقد قدّم للرواية الكاتب الفلسطيني رشاد أبو شاور حيث اعتبرها رواية وطنية أخلاقية اجتماعية، فقال عن الأسير الفلسطيني ثائر كايد حمّاد: «بجدّه، وبدعم ورعاية من سبقوه في الأسر حصل علـى الشـهادة الثانويـة، والجامعية، وثّقف نفسـه، وهـا هـو ذا يقـدّم روايتـه الأولـى متحـديًّا جـدران الزنـازين والسـجون، التـي حّملهـا رسـالة غنيـة متعـددة، وهـي أن الأسـير لا تنتهي حياته بعد الحكم عليه، وإغلاق بـاب الزنزانـة عليـه، فـدوره أكـبر مـن جـدران الزنـازين، ومواصـلته المقاومـة بالثبـات والصـبر والتثّقـف والـتعّلم والكتابة والتواصل مع مجتمعه، وحضِّه على الفعل، والتماسك، والتعاون، والأخذ بيد كل محتاج، والتكافل، تحملها هذه الرواية وأكثر... «
كما جاء الإهداء الذي صدّر به ثائر حماد روايته بمثابة العتبة الأولى للنص التي تنقل القارئ ليس فقط إلى الفكرة العامة عن العالم السردي للرواية وإنما تختزل تفاصيل حياة الكاتب الأسير المناضل حيث أهدى روايته إلى والدته وروح أبيه وجده وأرواح الشهداء والجرحى البواسل.وعلى الرغم من تعدّد المُهدَى إليهم الذين هم بالأساس الشخصيات الرئيسية داخل الرواية فإنَّ القاسم المشترك بينها جميعا الأرض والقضية وأنّ الجميع قد انخرط في المقاومة بشكل أو بآخر.
فكأنَّنا بالكاتب أراد أن يتدرج بقارئه وفق خطٍّ زمني تصاعدي يبدأ من طفولته وصولا إلى شبابه وانخراطه في المقاومة إلى السجن بكلِّ حالاته من السجن الانفرادي إلى الزنزانة المشتركة مع بقية السجناء لينقل لنا أجواء حياة السجناء المكفولة بالصبر والتعاضد فيما بينهم أمام جبروت السجان. ورغم ما يواجهه السجناء من معاملة لا إنسانية، فإنّنا نلاحظ أنَّ ثائر حماد قد قدّم السجن كنقطة انطلاق نحو تحولٍّ نضالي جديد ليبدو المحتلُّ رغم قوة عتاده مهزوزا خائفا، حيث يناور كايد حماد قارئه بطريقة غير مباشرة من خلال رمزية السجن كأسوار وقضبان حديدية عالية وقدرة السجين على التواصل مع الخارج رغم كل ذلك فيواصل في التأثير على مجريات الأحداث وبين العجز الذي يكون خارج السجن. إذ واصل فارس بطل الرواية تحكُمَه في تحرك بقية الشخصيات وتأثيره عليها وعلى أفعالها وأقوالها.
تنطلق الرواية بمرافقة فارس، البطل الرئيسي، الذي تماهى في حضوره وماهيته مع ثائر حماد حيث يبدأ في سرد تفاصيل حياته الشخصية فيمنحنا من خلال الوصف والحوارات التي كانت بين الشخصيات باللهجة الفلسطينية الفلاحية إمكانية أكبر لنرى ونتابع نشأته ونتعرف على عائلته الصغرى والممتدة، ونكتشف قريته بتضاريسها وناسها وأجوائها الثقافية والاجتماعية. وهو ما يشعر القارئ أن الرواية وإن كانت قائمة الذات كنص سردي محكوم بحبكة سردية متينة فإنها تتميز بنفس درامي واضح يقارب أجواء المسلسل التلفزيوني الشهير»التغريبة الفلسطينية»وغيرها من الأعمال الدرامية المتميزة التي عرفها المشاهد العربي والتي تطرقت لمعاناة الشعب الفلسطيني في المقاومة والتهجير والاحتلال.
ولا يفوتنا أيضا أن ننوِّه إلى ما تضمنه العنوان من رمزية كبيرة تستبطن رؤية الكاتب الأسير في الحياة وإصراره على التحرر والتمسك بالأمل بحياة أكثر إشراقا حيث تمثل بيسان (ابنة عمة فارس) امتدادا للحلم وكأنه يربط بين الحاضر والمستقبل، رغم ما واجهته من صعوبات وتحديات بدءا من ارتباط معاناتها بسمعة أبيها الخائن لشعبه ووطنه وقضيته وصولا لمشاكلها الاجتماعية والمادية القاسية. وبالتالي، يستشعر فارس أمله ومستقبل فلسطين من خلال تحرك بيسان التي نجحت بفضل مساعدته في تخطي جميع العقبات وكأنه بذلك يحاول أن يبث الأمل في قارئه بأنَّ الحاضر مهما كان سيئا ومخيبا للآمال سيكون الغد أفضل..
ومن جهة أخرى، يلاحظ القارئ أنّ شخصية بيسان كانت نافذة ليس فقط على ما تعيشه الفتاة من تأزّم ولكن أيضا على العديد من القضايا الهامة كوضع أبناء عملاء إسرائيل، مبرزا معاناتهم الإنسانية والنفسية والاجتماعية. فهم رغم أنهم ليسوا مسؤولين عن ما فعله آباؤهم إلّا أنّهم يتلقون ردة فعل المجتمع كمتهمين ومرفوضين. بالإضافة إلى حال البنت الريفية في مجتمع مازال يتصف بالذكورية، ويبدو ذلك واضحا من خلال موقف خال بيسان المتعنت ورفضه مواصلتها تعليمها الجامعي.
تنتهي الرواية بإشارات تفاؤلية، سبقها الكاتب راشد أبو شاور بالتمهيد إلى أنّ «فارس وبيسان» ستتبعها رواية أخرى سيتطرق فيها كايد حماد إلى «عملية عيون الحرامية» التي ضجت بها الصحافة العربية والعالمية لتُضاف للمكتبة العربية أرواحا جديدة من قلب المقاومة والصمود. فتكون الرواية أرضا خصبة نحو كل أمل جديد بعودة الحق إلى أصحابه./.
المصدر: الدستور