Skip to main content

رحلة إلى السلف المشترك الذي انحدرت منه كل أشكال الحياة

كيف كان يبدو آخر سلف مشترك لكل أشكال الحياة؟ كيف استطاع أن يجد سبلًا للبقاء؟ ربما نجد في الإجابة غير المسبوقة بالمرة على هذا السؤال تفسيرًا لبعض سمات الحياة الأكثر غموضًا.

 عندما نشر تشارلز داروين كتابه «أصل الأنواع» عام ١٨٥٩، خصَّص فصلًا كاملًا للحديث عن «الحلقات الوسيطة» المفقودة — وهي أشكال انتقالية تملأ الفجوات التي تفصل بين تطور نوعين من الكائنات يرتبطان معًا ارتباطًا وثيقًا. وإذا كانت نظريته صحيحة، فلا بد أن يكون سجلُّ الحفريات ممتلئًا بهذه الأشكال. فأين هي إذن؟

في ذلك الوقت كانت هذه القضية تمثل مشكلة حقيقية؛ إذ لم يُكتشف سوى عدد قليل من الحفريات من هذا النوع. ثم جاء الاكتشاف المذهل عام ١٨٦١ لحفرية أركيوبتركس، الذي كان يمتلك جناحين وجسدًا مغطًّى بالريش مثل الطيور، وأسنانًا وذيلًا مثل الديناصور.

ومنذ ذلك الحين اكتُشف عددٌ كبير من الحلقات الوسيطة مثل الأسماك التي تزحف، والسَّحَالِي التي تمتلك عظام فكٍّ شبيهةً بالثدييات، والحيتان ذوات الأقدام، والزرافات ذوات الأعناق القصيرة، وغيرها الكثير من الأشكال الوسيطة الأخرى، ولكن بقيت حلقة واحدة من غير المحتمل أن نجدها في يوم من الأيام، وهي تلك التي تربط ما بين أشكال الحياة البدائية الأولى والحياة كما نعرفها اليوم، وتُعرَف أيضًا باسم «السلف الشامل الأخير».

منذ أربعة مليارات عام وُجد السلفُ الشامل الأخير على الأرض، وهو شكل هشٌّ صغير من أشكال الحياة انحدر منه مباشرة كل كائن حيٍّ بدءًا من خنزير الأرض وحتى الحمار الوحشي، ولكنه لم يكن الشكلَ الأولَ للحياة فعليًّا؛ فقد سبقه آلاف، إن لم يكن ملايين، السنين من تجارب التطور، ولكننا إذا فهمنا السلف الشامل الأخير فسنحصل على أفضل مفهوم يمكننا أن نصل إليه عن أصل الحياة.

ماذا كان يدور داخل الحساء البدائي؟

ماذا كان يدور داخل الحساء البدائي؟

إننا نعرف الكثير عن السلف الشامل الأخير بالفعل، صحيح أن أي آثار تركها ذلك السلف الشامل بالصخور لا بد وأنها طُمستْ منذ عصور طويلة، ولكنَّ هناك شيئًا يعيش داخل الخلايا الحية الموجودة اليوم وبإمكانه أن يكشف لنا الكثير عنه؛ ألا وهو نظام العمل البيولوجي المشترك بين جميع أشكال الحياة، والذي لا بد وأن السلف الشامل الأخير كان يمتلكه أيضًا.

ظلَّت سمات عديدة للسلف الشامل الأخير غامضة، بل متناقضة، ولكن ربما تكون الأعمال البحثية الجديدة الخاصة بواحدة من أهم الفرضيات حول أصل الحياة قد ساعدتْ في حلِّ الكثير من هذه الألغاز، فهي تقدم لنا صورة مفصَّلة عن المكان الذي عاش فيه أقدم سلف لنا وكيف عاش وكيف كان يبدو. استَعِدَّ إذن لمقابلة السلف الأكبر.

كان داروين من أوائل العلماء الذين تفكَّروا في الطريقة التي نشأتْ بها الحياة، وكان تصوُّره عبارة عن «بحيرة صغيرة دافئة بها جميع أنواع الأمونيا والأملاح الفسفورية والضوء والحرارة والكهرباء إلخ …» ربما لن نعرف كيف نشأ السلف الشامل الأخير بالضبط، ولكن بمقدورنا وضع تقديرات مدروسة لنشأته إذا تفحصنا بعض سمات الأنظمة الحية اليوم.

تكشف لنا هذه السمات الكثيرَ عن الكيفية التي كان يبدو عليها ذلك الكائن؛ فنحن نعرف أنه استخدم الحمض النووي لادِّخار الأساليب الخاصة بتكوين البروتينات مثلًا، بل وباستطاعتنا أن نحدد أيضًا الكثير من هذه الأساليب؛ لأن الكثير من البروتينات الحيوية الموجودة داخل جميع الخلايا اليوم لا بد وأنها جاءتْ من السلف الشامل الأخير. توضح لنا طبيعة هذه البروتينات أن السلف الشامل الأخير كان يعتمد في تنشيط العمليات الخلوية على جزيء غني بالطاقة يعرف بثلاثي فوسفات الأدينوسين، مثلما تفعل الخلايا في جسم الإنسان تمامًا.

ولكن كيف كان السلف الشامل الأخير يصنع ثلاثي فوسفات الأدينوسين الخاص؟ سيعتمد أي شخص يحاول أن يضع تصوُّرًا لنشأة الحياة من البداية على التفاعلات الكيميائية داخل الخلية لتكوين جزيء ثلاثي فوسفات الأدينوسين، ولكن هذه ليست الطريقة التي ينتج بها، وإنما تستخدم الخلية الطاقة المستمدة من الطعام أو من ضوء الشمس في تشغيل «مضخَّة» بروتينية تدفع بأيونات الهيدروجين — البروتونات — خارج الخلية. ويسفر ذلك عن اختلاف أو تدرُّج في تركيز البروتونات عبر الغشاء الخلوي. ثم تتدفق البروتونات إلى الخلية مرة أخرى بواسطة بروتين آخر موجود بغشاء الخلية، ومن هنا تستمد الطاقة اللازمة لتصنيع جزيء ثلاثي فوسفات الأدينوسين.

مثال توضيحي

كي نفهم العملية من منظور تدفق الطاقة، سنأخذ حوض المطبخ الثنائي كمثال، فالحوض الأصغر يمثل الجزء الداخلي للخلية، أما الحوض الأكبر فيرمز إلى ما خارج الخلية. إذا ملأنا الحوض الأكبر بالماء وتركنا الأصغر فارغًا، فسيمثل اختلاف منسوب المياه مصدرًا محتملًا للطاقة، فإذا أحدثنا ثقبًا في الجدار الفاصل بين الحوضين فستتدفق المياه إلى الحوض الأصغر. هذا التدفق يمكنه أن يحرِّك توربينًا صغيرًا، وهو ما يعادل البروتين المسئول عن صنع ثلاثي فوسفات الأدينوسين، فهو عبارة عن توربين تُديره البروتونات والأيونات الأخرى الموجبة الشحنة (انظر الرسم).

مراحل تطور الحياة: على الأرجح، تطورت                            الخلية البدائية للحياة على سطح الأرض في إحدى الفتحات الحرارية المائية في                            أعماق البحار منذ أربعة مليارات عام. كيف حصلتْ هذه الخلية على الطاقة                            اللازمة لها؟ وكيف تطورت لتستعمر بقية الكوكب؟

مراحل تطور الحياة: على الأرجح، تطورت الخلية البدائية للحياة على سطح الأرض في إحدى الفتحات الحرارية المائية في أعماق البحار منذ أربعة مليارات عام. كيف حصلتْ هذه الخلية على الطاقة اللازمة لها؟ وكيف تطورت لتستعمر بقية الكوكب؟

بدتْ هذه العملية معقَّدة للغاية عندما طرحها بيتر ميتشل — عالِم الكيمياء الحيوية — عام ١٩٦١، ونُبذت بوصفها لغوًا فارغًا، ولكن اتَّضح فيما بعدُ أنها قاسم مشترك بين جميع أشكال الحياة؛ ولذا يعتقد معظم علماء البيولوجيا أن السلف الشامل الأخير كان يصنع جزيئات ثلاثي فوسفات الأدينوسين بهذه الطريقة.

إن استخدام تدرجات البروتون يستلزم وجود غشاء خلوي لا تنفذ منه البروتونات، بمعنى أنها لن تستطيع أن تتدفق إلى داخل الخلية إلا من خلال التوربين الذي تحدثنا عنه؛ ولذا فمن المفترض أن خلايا السلف الشامل الأخير كانت تملك غشاءً غير منفذ للبروتونات، ولكن ليس هناك دليل على صحة ذلك؛ فطبيعة الغشاء الخاص بالسلف الشامل الأخير لا تزال غامضة.

ولكي نفهم أسباب ذلك لا بدَّ أن نعود إلى سبعينيات القرن الماضي؛ إذ ساد اعتقاد بأن الحياة يمكن تقسيمها إلى «مملكتين» كبريين؛ الأولى تضم الحيوانات والنباتات والفطريات، والثانية تضم البكتيريا الأكثر بساطة، وبعدها اكتشف عالِم الميكروبيولوجي كارل ووز أن مملكة البكتيريا تضم بالفعل شكلين من الحياة مختلفين اختلافًا جذريًّا، إذ كان هناك «نطاق» ثالث من البكتيريا يُعرف الآن باسم العتائق ولكن لم ننتبه إليه.

غالبًا ما تبدو العتائق مثل البكتيريا ويجمعهما العديد من أوجه التشابه، ويبدو ذلك منطقيًّا بالنسبة لنا على اعتبار أن الاثنين نشآ من السلف الشامل الأخير بعد فترة وجيزة من ظهوره في الغالب، ولكنَّ هناك أيضًا أوجهَ اختلاف أساسية بينهما يتمثل أحدها في الغشاء الخلوي.

يملك الاثنان غشاءً خلويًّا مكوَّنًا من جزيئات دهنية مضادة للماء. تميل الجزيئات الدهنية البسيطة إلى التفاف بعضها حول بعض، فيتسرب الماء من الغشاء؛ ولذا اعتمدتِ البكتيريا والعتائق على مركبات الفوسفات التي لا تُقاوِم الماء حتى تُحدِث استقرارًا في جزيئاتها ولا تسرب أغشيتها الماء، ولكنَّ كلًّا منهما سَلَك طريقًا مختلفًا للغاية؛ فأغشية البكتيريا تتكون من أحماض دهنية متحدة بمركبات الفوسفات بينما تتكون أغشية العتائق من إيزوبرينات متحدة مع الفوسفات بصورة مختلفة، ويشير ذلك إلى أن الغشاءين قد تطوَّرا بصورة منفردة.

قد يُفضِي بنا ذلك إلى شيء من التناقض؛ فإذا كان السلف الشامل الأخير يمتلك غشاءً لا ينفذ السوائل يسمح باستغلال تدرجات البروتون، فلِمَ طوَّرتِ الكائناتُ المنحدرة منه نوعين مختلفين من الأغشية غير المنفذة للسوائل؟

توصل نيك لين — عالِم الكيمياء الحيوية بكلية لندن الجامعية والكاتب الحائز على العديد من الجوائز في مجال الكتابة العلمية — إلى إجابة مذهلة تتحدَّى الكثير من الأفكار المسلَّم بها في العديد من الأوساط؛ وهي أن الغشاء الخلوي للسلف الشامل الأخير لم يكن غير منفذ للسوائل، بل إنه لا بد أن يكون، كما يزعم لين، مُنفِذًا لها.

ارتكز لين في وجهة نظره على الافتراض القائل بأن الحياة نشأتْ في قاع البحر في البقاع المعروفة بالفتحات الحرارية المائية القلوية. في عام ١٩٨٩، طرح مايكل راسل من وكالة ناسا هذا الافتراض الذي يؤيده لين وويليام مارتن — الأستاذ بجامعة دوسلدورف بألمانيا — ويرى الاثنان أن هذا الافتراض هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفسر لنا لماذا تستخدم الكائنات الحية تدرجات البروتون في توليد جزيئات ثلاثي فوسفات الأدينوسين، ويمكنه أيضًا، على حدِّ قول لين، أن يفسر لنا إحدى السمات الرئيسية للحياة؛ ألَا وهي: الغشاءان الخلويان للعتائق والبكتيريا.

تختلف الفتحات الحرارية المائية القلوية عن المداخن السوداء الأكثر شهرة؛ فهي عبارة عن مناطق تحتوي على شقوق في قاع البحر تتدفق من خلالها السوائل القلوية الدافئة التي تتراوح درجة حرارتها بين ٤٠ و٩٠ درجة مئوية. وعندما تصطدم هذه السوائل بماء البحر البارد تترسب المعادن الموجودة بها، وشيئًا فشيئًا تُكوِّن مداخن صخرية — يصل طولها إلى ٦٠ مترًا — وتمتلئ بالثقوب والقنوات الضيقة.

اللبنات الأولى للحياة

احتَوَتِ البحار الأولية أيضًا على هذه الفتحات القلوية، ويعتقد لين وراسل ومارتن أن اللبنات الأولى للحياة قد تكونت بصورة تلقائية داخل هذه الفتحات القديمة. على الأرجح احتوت الجدران على قدْر وافر من عنصرَيِ الحديد والكبريت، على سبيل المثال، اللذين يُحفِّزان الكثير من التفاعلات العضوية المعقدة، بالإضافة إلى أن تدرج مستويات الحرارة داخل الثقوب لا بد وأنه صنع تركيزات عالية من المركبات العضوية، وساعد على تكوين جزيئات كبيرة مثل: الجزيئات الدهنية المعروفة بالليبيدات، وجزيئات الحمض الريبوزي النووي.

إذن شكلتْ هذه الأماكن بيئة مثالية لتكوين جزيئات الحمض الريبوزي النووي التي يُعتقد، على نحو واسع، أنها شكَّلتِ اللَّبِنة الأولى للحياة، وربما شهدتْ هذه الأماكن أول ظهور للمجموعات الذاتية الاستنساخ من الحمض الريبوزي النووي والجزيئات الأخرى، وبداية تطورها إلى كائنات شبيهة بالخلية ذات الأغشية البسيطة. هذه الأشكال البدائية من الحياة كانت بالطبع في حاجة إلى مصدر للطاقة، زوَّدها به، كما يزعم مارتن ولين، التدرج الطبيعي للبروتونات عند خط التقاء سوائل الفتحات القلوية المحتوية على أعداد زهيدة من البروتونات مع مياه البحر الغنية بالبروتونات. فهذا هو المصدر الأول لتدرج البروتونات الذي يزود الحياة اليوم بالطاقة.

أصبح الوضع الآن مهيَّأ — عبر مجموعة من الخطوات التدريجية — لتطور البروتين المنتشر بالغشاء الخلوي، والذي يمثل التوربين المسئول عن إنتاج ثلاثي فوسفات الأدينوسين. كانت هذه خطوة أساسية خلال مرحلة التطور الأولى، برغم أن الخلايا كانت تعيش فقط عند خط التقاء السوائل المتدفقة من الفتحات مع مياه البحر؛ لوجود تدرج في البروتونات يمكن استخدامه؛ إذ إنها لم تكتسب القدْرة على صنع تدرج في البروتونات بنفسها من خلال مضخات البروتونات إلَّا فيما بعدُ.

هذه فرضية محكمة ولكنَّ بها مأخذًا كبيرًا أشار إليه مَن انتقدوها؛ فالخلايا الأولى التي كانت تمتلك التوربين البروتيني المولِّد لثلاثي فوسفات الأدينوسين دون وجود مضخات للبروتونات لم يكن بوسعها أن تولِّد سوى قدر قليل من الطاقة قبل أن ينهار التدرج في البروتونات، وفي ظل غياب وسيلة لدفع البروتونات خارج الخلية، سيؤدي ذلك إلى حدوث توازن بعد فترة قصيرة في مستواها داخل الخلية وخارجها.

لنعود إلى التشبيه الخاص بالحوض الثنائي، سوف يتساوى منسوب المياه في الحوضين سريعًا ما لم تُدفع المياه خارج الحوض الأصغر. وهذا معناه أن هذه الفرضية فشلتْ في تحديد الطريقة التي نشأتْ من خلالها عملية تصنيع جزيئات ثلاثي فوسفات الأدينوسين التي تحدث داخل كل الخلايا الحية، يقول لين: «لقد شغلني هذا الأمر لبضع سنوات.»

دعْنا نفكر في الأمر، إننا لسنا بحاجة لمضخة لاستعادة تدفق المياه. كل ما نحتاج إليه هو أن نزيل السدادة من الحوض الأصغر، فكلما فرغ ستعود المياه وتتدفق إليه من جديد. وهنا يأتي دور الغشاء الخلوي المنفذ للسوائل.

لنعود مرة أخرى إلى تلك الخلية البدائية التي تعيش على جانبَيْ خط التقاء مياه البحر بالسوائل المتدفقة من الفتحات، فالغشاء المنفذ للسوائل قد يكون أحد الطرق التي تمكنها من استخدام تدرج البروتونات؛ إذ يسمح ذلك بتدفق البروتونات باستمرار عبر الخلية من مياه البحر وعودتها مرة أخرى للسوائل المتدفقة من الفتحات الحرارية دون انهيار التدرج. وطالما أن بعض البروتونات التي تدخل إلى الخلية تمر عبر التوربينات المولِّدة لثلاثي فوسفات الأدينوسين، تظل الطاقة متوفرة باستمرار بالخلية.

تملك الأغشية البسيطة المكونة من الجزيئات الدهنية الخصائص اللازمة لهذه العملية تمامًا. في واقع الأمر، تشكِّل الدهون بصورة تلقائية تركيباتٍ شبيهةً بالخلية يمكنها أن تنمو وتنقسم مع انضمام المزيد من الجزيئات الأخرى. وهذه الخصائص كانتْ دائمًا محلَّ اهتمام كبير للأشخاص المعنيين باستكشاف بدايات الحياة، ولكن ساد اعتقاد أن الأغشية غير المنفذة للسوائل كان يجب أن تتطور أولًا قبل أن تتمكن الخلايا من استخدام تدرج البروتونات، بَيْدَ أنَّ هذا الاعتقاد سيكون خاطئًا في حالة ثبوت صحة رأي لين.

قدم لين ومارتن تصورًا مبدئيًّا لفكرة الغشاء المنفذ للسوائل عام ٢٠١٢، ثم عمل لين وزميلاه أندرو بوميانكوفسكي وفيكتور سوجو على صياغة سيناريو أكثر تفصيلًا، ووضعوا نموذجًا له ليَرَوْا إذا ما كان سيحظى بقبول واسع. وتؤكِّد النتائج، التي نُشِرت منذ فترة وجيزة للغاية بمجلة بلوس بيولوجي، أن الخلايا ذات الأغشية المنفذة للسوائل يمكنها، على عكس تلك التي تتمتع بأغشية غير منفذة للسوائل، أن تستخدم المصادر الطبيعية لتدرج البروتونات.

ولكن إذا كانت نظرية الغشاء المنفذ للسوائل قد حلتْ مشكلةً، فإنها خلقتْ مشكلةً أخرى؛ ففي إحدى المراحل قطعتِ الخلايا ارتباطها الوثيق بالفتحات الحرارية، ولكي تقوم بهذه الخطوة كان عليها أن تطور مضخات البروتونات المستنفدة للطاقة حتى تصنع تدرجًا في البروتونات بنفسها. لكن في ظل وجود أغشية منفذة للسوائل، لن نجني شيئًا من ضخ البروتونات خارج الخلية؛ لأنها ببساطة ستتسرب للداخل مرة أخرى.

الطاقة الحرة

يتمثل الحل المنطقي لهذه المشكلة في تطور الغشاء ليصبح أقلَّ قابليةً لنفاذ السوائل، ولكن هذا الحل غير مُجْدٍ؛ لأن ذلك سيمنع تدفق البروتونات عبر الخلية؛ ومن ثَمَّ سيوقف إمداد الطاقة. يبدو أننا أمام معضلة لا حلَّ لها.

أم أنَّ هناك حلًّا لهذه المعضِلة؟ يقول لين إن ثمةَ مخرجًا من هذه الإشكالية. تحتوي أغشية الخلايا الحديثة على نوع ثالث من البروتين، وتعمل هذه البروتينات عمل الأبواب الدوَّارة (انظر الرسم السابق)؛ أي إنها تطرد أحد الأيونات إلى الخارج وتدخل مكانه آخر عبر الغشاء الخلوي — لنقل إنها تطرد أيون الصوديوم مثلًا وتدخل مكانه بروتونًا — دون الحاجة إلى استخدام الطاقة.

يمكن أن تقدم البروتينات التي تعمل عمل الأبواب الدوَّارة حلًّا لِلُغْز الغشاء المنفذ للسوائل. فإذا طورت الخلايا الأولى هذه البروتينات التي استبدلت أيونات الصوديوم بالبروتونات، فهذا يعنى أننا أمام تغير مفاجئ في قوانين اللعبة؛ فأيونات الصوديوم لا يمكنها أن تمر عبر الأغشية الدهنية المنفذة للسوائل بنفس السهولة التي تمر بها البروتونات، مما يعني أن البروتينات التي تقوم بعملية الاستبدال قد حولتِ التدرج الطبيعي في البروتونات إلى تدرج في أيونات الصوديوم عبر الغشاء الخلوي. الأهم من ذلك أن أيونات الصوديوم يمكنها أن تدخل الخلية مرة أخرى من خلال التوربينات البروتينية المولِّدة لثلاثي فوسفات الأدينوسين (انظر الرسم السابق)، وهذا معناه أن الخلايا التي تملك البروتينات التي تقوم بعملية الاستبدال بين أيونات الصوديوم والبروتونات ستحصل على معدَّل تدفق أعلى من خلال التوربينات المولِّدة لجزيئات ثلاثي فوسفات الأدينوسين؛ ومن ثم تولِّد عددًا أكبر من هذه الجزيئات يصل إلى ٦٠ بالمائة أكثر وفقًا للنموذج الذي وضعه لين وزملاؤه.

بمجرد تطوير الخلايا لهذه الأبواب الدوارة، يصبح تطوير مضخات البروتونات ذا جدوى حتى في وجود الأغشية المنفذة للسوائل، فكلما كان عدد البروتونات التي تضخها إلى الخارج أكبر، زاد عدد أيونات الصوديوم التي تدخل بدلًا منها، وزادت كمية ثلاثي فوسفات الأدينوسين التي يمكن توليدها. وبارتفاع معدل ضخ البروتونات إلى الخارج أصبح الحصول على أغشية أقلَّ تسريبًا للماء مفيدًا أيضًا. وهذا معناه أن الانتخاب الطبيعي قد أدَّى إلى حدوث عملية تطور مشتركة للحصول على مضخات أفضل، وأغشية أقل تسريبًا للماء.

حينها تمكنت الخلايا من البقاء عند أطراف الفتحات الحرارية. وفي النهاية، استطاعتْ أن تتحرر تمامًا وأصبح لديها القدرة على خلق تدرج في البروتونات عبر غشاء غير منفذ للسوائل. وهذا هو ما قامتْ به هذه الخلايا ليس مرة واحدة بل مرتين؛ مما أدَّى إلى ظهور البكتيريا والعتائق.

غير أنه ثمة صعوبة في إقناع الباحثين الآخرين المهتمين باستكشاف بدايات الحياة بهذه الفرضية، يقول جاك شوستاك — الأستاذ بمعهد هوارد هيوز الطبي في بوسطن: «إن هذا السيناريو غير محتمل بالمرة.» فهو واحد من الذين يرون أن الأغشية غير المنفذة للسوائل قد تطورت في مرحلة مبكرة للغاية من الحياة، ويعتقد جاك أن الخلايا ذات الأغشية الدهنية البسيطة لن تفقد فقط الأيونات عبر أغشيتها، ولكنها ستفقد أيضًا نواتج هامة لعملية التمثيل الغذائي.

كيف إذن استطاعت الخلايا أن تستغل التدرجات المختلفة في البروتونات؟ تبقَى الإجابةُ على هذا السؤال غيرَ واضحة؛ إذ يركز معظم الباحثين تفكيرَهم على سمات محدودة للغاية لبدايات الحياة مثل: الأغشية الخلوية، أو الحمض الريبوزي النووي. وليس لدينا في الوقت الراهن سوى سيناريو واحدٍ فقط يوضح لنا الصورة الأوسع نطاقًا، ويقدم تفسيرًا ليس فقط للمكان الذي شهد نشأة الحياة والكيفية التي نشأت بها، بل أيضًا لأسباب تميز بدايات الحياة بالعديد من تلك السمات الغريبة؛ وهو سيناريو الفتحات الحرارية القلوية. يقول فولفجانج نيتشكه — وهو عالم الكيمياء الحيوية بوكالة الأبحاث الوطنية الفرنسية بمارسيليا وأحد دارسي سيناريو الفتحات الحرارية المائية: «إن هذا البحث واحد من سلسلة أبحاث تهدم فرضية الحساء العضوي التي ظللنا مخدوعين بها طيلة خمسين عامًا تقريبًا، والتي طالما تعارضت بشكل صارخ مع قوانين الديناميكا الحرارية؛ ومن ثَمَّ كانت بعيدة الاحتمال تمامًا.»

هذا لا يعني أن سيناريو الفتحات الحرارية صحيح، ولكنه على الأقل يفتح المجال لوضع افتراضات يمكن اختبارها.

فهل يمكن مثلًا أن تؤدي ظروف مثل التي وجدت في الفتحات الحرارية القلوية الأولى إلى توليد كل الجزيئات السالفة اللازمة للحياة حقًّا؟ يحاول لين أن يحصل على التمويل اللازم لبناء مفاعل عالي الضغط لمحاكاة الظروف التي وجدت في الفتحات الحرارية بأعماق البحار منذ أربعة مليارات عام.

أما في الوقت الحالي، فليس أمامنا إلَّا أن نسلِّم بأننا لن نعرف أبدًا ما هو بالضبط «السلف الشامل الأخير»، ولكنْ أيًّا كانت طبيعته، فهو لا يزال يعيش بداخلنا.

02 Dec, 2015 02:04:24 PM
0

لمشاركة الخبر